عبد الوهاب بيراني
يأتي العمل المسرحي المونودرامي “شهناز” بتوقيع الأستاذ المخرج المخضرم وليد العمر، الذي يعد من التجارب الإخراجية الرائدة على المستويين الكردي والعربي في روچ آفا وسوريا.
كما تشكل الممثلة الفنانة الكردية نجبير غانم حجر الزاوية في “مونودراما شهناز”، إذ كانت هذه التجربة أول ظهور لها على صعيد المسرح المونودرامي، وقد أضفى أداؤها قوة إحساس وشغفاً نادرين، مسجلين بذلك خطوة مميزة في مسيرتها الفنية.
وأشرف الكاتب المسرحي آلان عبد الله على الجانب الموسيقي للعمل، مما ساهم في خلق جسر تواصلي بين العناصر الدرامية والرمزية داخل النص المسرحي، وأضفى على العمل بعداً سمعياً مكملاً للرؤية الإخراجية.
تم تقديم “مونودراما شهناز” باللغة الكردية في عروض مهرجان يكتا هركول المسرحي بنسخته السابعة بمدينة قامشلو لعام 2025، مما أكسبه طابعًا احتفالياً وتقديرياً على المستوى المسرحي، وأتاح له الوصول إلى جمهور واسع في إطار احتفاء بتجارب فنية جديدة تسعى إلى تحدي التقاليد.
في خضم بيئة ثقافية تسعى إلى دعم تحرير الفكر والمرأة على المستويات الذهنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يظل المسرح منبراً قوياً للتعبير عن الأفكار الثورية وتحويل التجارب الشخصية إلى رسالة جماعية. يبرز المسرح الكردي، ومن خلاله المونودراما، صوت المرأة الفردي الذي يحول معاناتها وأحلامها المحطمة لغة مقاومة تعيد صياغة الهوية النسوية وتفند قيود التقاليد الموروثة.
المونودراما في المسرح الكردي.. قراءة في التجربة والتحدي
لطالما حملت المونودراما في المسرح الكردي بعداً يتجاوز العرض المسرحي إلى رسالة اجتماعية وسياسية تسعى لإعادة تعريف صورة المرأة الكردية. إذ تواجه المرأة قيوداً داخلية نتيجة لعادات صلبة، وفي الوقت ذاته تتعرض لضغط خارجي من القمع والأنظمة السلطوية.
هنا يتجلى الفن محفزاً لإعادة النظر في الهوية، من خلال سرد شخصي متحول إلى تجسيد جماعي لقضايا النضال والمقاومة.
المونودراما مرآة للصراع الداخلي والخارجي
يستعرض العمل موضوعات شائكة مثل الزواج القسري وقمع أحلام الطفولة، إذ تعاني البطلة “شهناز” من محاولة تقويض هويتها بتعديل بسيط في تركيب اسمها من شهناز إلى شهنازي، مما يعكس ظاهرة التصغير والتمييز الاجتماعي، في هذه اللقطة الرمزية تتجلى معركة داخلية بين ما يمثلها الفرد من ذات مثبّتة، وبين الصورة التي يفرضها عليها المجتمع الذكوري، تلك الصراعات تبرز الألم الفردي وتحوله إلى سرد جماعي يعكس معركة المرأة الكردية ضد القيود المزدوجة.
بين الواقع والخيال.. تقمص الأدوار وتداخل الشخصيات
يمتاز العمل بتعدد طبقات السرد من خلال تقمص أدوار متعددة، فمن شخصية الممرضة التي تتولى دور القاضي إلى تجليات أخرى مستعارة من تقنيات مسرح الدمى وخيال الظل، مما يعيد إحياء تجارب تاريخية معاصرة من خلال رمزية فنية. كما يستخدم المسرح داخل المسرح لتقديم منظور ثوري يعيد قراءة تجارب الهوية والتمرد، في ظل تداخل المسؤولية الاجتماعية والحرية الفردية.
تقنيات الإخراج وتحويل الجسد إلى خريطة صراع
يعد الإخراج في “شهناز” حجر الزاوية لنقل الحالة النفسية والصراع الداخلي بتقنيات بصرية وسمعية متقنة، فالإضاءة الحالمة تمثل ومضات من الذاكرة المبعثرة تحت وطأة التقاليد، بينما تحاكي الموسيقا التصاعدية الإحباط والخيبة، التي تخيم على الواقع إلى جانب إشراقات انتصار صغيرة، هذا الاستخدام للتقنيات التجريدية والرمزية يكرس فكرة أن الجسد يصبح سجلاً لصراع الإنسان بين القيود والمقاومة، في محاولة لتحويل محدودية الإمكانات إلى إبداع بصري يخاطب العمق الروحي للمتلقي.
الأداء.. جسد يروي تاريخاً من القمع
يتحول أداء الفنانة إلى سرد حي لتاريخ من القمع والمعاناة، إذ لا يمثل مجرد تجسيد لشخصية بل يساهم في إعادة قراءة تاريخ اجتماعي مفعم بالآلام والبطولات الصغيرة، يتداخل الصراع الجسدي مع التناقضات الشخصية، ففي مشاهد غرفة الممرضات أو حركات الكابوس، التي أجادت الفنانة نجبير غانم الحالة واستطاعت تقديم لوحة مشهدية متكاملة بإداء مبدع وخلاق، كما استطاعت خلال تراجيديا يوميات المرأة المتزوجة والعاملة وتوقها لمساحات من الحرية، مما يعكس تجربة جماعية ترتبط بالهوية النسوية وقدرتها على التحدي والسباحة ضد تيارات السيطرة الذكورية.
الواقعية والرمزية.. ثنائية الهوية الكردية
يمتزج في “شهناز” الواقعي بالرمزي، من خلال تفاصيل المشفى التي تبرز قسوة الواقع، إلى الذاكرة المختزنة، التي تحيي أحلام الهروب إلى فضاءات روحية أرحب، هذا المزج يطرح تساؤلات جوهرية عن كيفية بناء هوية المرأة في مجتمع يمزج بين المألوف والمتعارض، في مشهد يمثل معركة مستمرة لإيجاد بصمة تحرير تتخطى الحدود التقليدية في اختيار شخصية العمل المسرحي، في حالة ثورية انقلابية من عمل الممرضة حيث الدم والحقن والضمادات، والوجع إلى ممثلة مسرح تعانق شخصيات طالما حلمت بها، في حضرة هنريك إبسن، وبرتولد بريخت بتشكيلات مسرحية أتقنت عملية تقديم مسرح ضمن مسرح، وذلك من خلال مسرح الدمى وخيال الظل التي أضفت عمقاً على ما كان يريده العمل وبإصرار على طرحه من مفاهيم الحب والعدالة والقهر.
فضاء خطاب تحرر المرأة من الفردي إلى الجمعي
يشكل العمل المونودرامي شهناز مساحة للتمرد الأنثوي، حيث تبرز قصة المقاومة الفردية لتصبح صوتاً لجيل كامل، يتجاوز التركيز على شخصية واحدة حدود المسرح ليكون خطاباً سياسياً وثقافياً ينادي بإعادة تعريف هوية المرأة بعيداً عن التقسيمات التقليدية، حيث تتلاشى الفوارق بين التجارب الفردية والجماعية، لتصبح “شهناز” رمزاً مشتركاً لتمرد المرأة ضد التهميش المزدوج بل الثلاثي، والمتمدد نحو شخصيتها في تاريخ طاعن بالظلم والهيمنة والاستغلال.
إسقاط الفكرة على المرأة في المجتمعات الشرقية
لم تقتصر تأثيرات المسرح الكردي على النطاق المحلي فحسب، بل امتدت إلى التجارب السورية والشرقية التي تعاني من قيود مماثلة، فالمسرح، بوصفه منصة لتحرير الفكر، يساهم في إعادة تمكين المرأة وتقديم نموذج تحرري يستحق الاتساع على المجتمعات التي تشكلت تحت ضغط التقاليد والأعراف المحافظة، حيث يتيح هذا النهج رؤية جديدة تعتمد على مقاومة الظلم وإعادة صياغة الهوية بصيغ فنية تجمع بين الذات والفكر المجتمعي.
ختاماً
لا يعد “شهناز” عملاً فنياً تقليدياً بل خطاباً مقاوماً يعيد رسم صورة المرأة في مواجهة مجتمع تكتنفه القيود التقليدية والنماذج الذكورية، من خلال دمج التجارب الكردية مع واقع المرأة السورية والشرقية، حيث يتجاوز العمل حدود المسرح ليصبح لغة مقاومة وإبداع تحرري. إن الإخراج المبتكر، والرموز المسرحية المتعددة، والأداء الذي يحمل في طياته تاريخ مظلومية المرأة، ذلك كله يتحد بأنماط التبعية ويُعاد رسم ملامح هوية المرأة، مانحة المرأة منصة لتصبح صانعة للتغيير والتحول الاجتماعي والثقافي.
“شهناز” ليس مجرد عرض مونودرامي فني فحسب، بل هو حوار حيوي مع الذات ومع الواقع يعيد للمرأة مكانتها الحقيقية رمزاً للحرية والمساواة والعدالة، كـ تحليق من العتمة.. من خلف جدران الواقع، ومن روتين العمل والحياة اليومية الشاقة إلى فضاء رحب، حيث الحرية والجمال والحلم والضوء.