قامشلو/دعاء يوسف – ستة أيام احتضنت فيها مدينة قامشلو مهرجان الشهيد يكتا هركول بدورته السابعة الذي تزين بطابع سوري وكردستاني لهذا العام، ففي كل عرض مسرحي صُور الواقع فوق الخشبة محولاً الحضور جزءاً من الحكاية وليس متفرجين، فعندما أضيئت أضواء المسرح؛ أسدل الستار عن الزمان والمكان ليعيشوا القصة في زاوية تلامس القلوب قبل العقول، فاختُتمت حلقة الابداع بتكريم من نسجوا عروض المهرجان خيوطاً من ذهب في ذاكرة التاريخ.
في زمن تعلو فيه أصوات البنادق ويغيب فيه وهج الحبر عن صفحات الحياة، يأتي مهرجان الشهيد “يكتا هركول” كل عام ضوءاً يبدد العتمة، ومع مرور السنوات تحول إلى صدى حبر تحدى الصمت، واحتفاء بالكلمة الحرة التي لا تُكسر.
هذا المهرجان المسرحي، الذي يحمل اسم المناضل الشهيد يكتا هركول، أصبح علامة سنوية تقف فيها الكلمة شامخة في وجه الطغيان، فتروي حكايات الأرض، والناس، والذاكرة على خشبته.
المونودراما سيدة المهرجان
وقد انطلقت فعالياته في السابع والعشرين من آذار من هذا العام بدورته السابعة برعاية حركة ميزوبوتاميا للثقافة والفن وكومين المسرح، وأُجِّلت العروض بسبب عيد الأكيتو وعيد الفطر، فبدأت في الخامس من نيسان بمعدل مسرحيتين يومياً على مدار ستة أيام.
في هذه الدورة، لم يكن المهرجان مجرد فعالية ثقافية فنية، بل كان تظاهرة وجدانية جمعت المخرجين والمؤلفين والممثلين، فتحولت خشبة المسرح منبراً، يسرد قصصاً مجتمعية، وتعالت في نصوصه أصوات منسية، وجدت صدى لها بين الجمهور، فعلى خشبة المهرجان، لم تكن نصوص المسرحيات تسرد فقط، بل كانت تُعاش، وتُبكى، وتُصفق لها الأيادي.
نُظّم المهرجان هذا العام تحت شعار “الوطني الحقيقي هو فنان شجاع”، ويتزامن المهرجان مع الذكرى السنوية الـ 21 لاستذكار شهيد المسرح الكردي يكتا هركول، بالإضافة إلى تكريم الشهيد الفنان جمعة خليل (بافي طيار)، وقد احتضن أحد عشر عرضاً مسرحياً عكست العروض واقع المجتمع وتطلعاته المستقبلية، وكان هناك مشاركات خارجية من باشور كردستان من مدينتي كركوك والسليمانية ومن روجهلات كردستان، في مزيج جمع بين الدراما، والتراجيديا، وكانت المونودراما سيدة المهرجان، التي كان لها حضور كبير وقد استطاع الممثلون أن يبدعوا في هذا الفن الذي يتطلب أداء فردياً لممثلين محترفين بطريقة لامست قلوب الحضور.
رسائل من قلب الواقع
شارك في المهرجان عدد من الفرق المسرحية من مختلف مدن إقليم شمال وشرق سوريا والداخل السوري، وقدموا عروضًا تناولت قضايا مجتمعية حساسة مثل الحرب، والآلام الفقد، وتقييد حرية المرأة وحرية التعبير، وكانت العروض تُقدم بلغات متعددة أبرزها الكردية “الكرمانجية والصورانية” والعربية، ما يعكس التعدد الثقافي والانفتاح الفكري الذي يتبناه المهرجان.
أثبت المهرجان أن المسرح ليس مجرد فنّ ترفيهي، بل هو وسيلة مقاومة وصوت يصدح رفضاً للقهر، ورسمت العروض صور الأمل، وتجلّى التزام الفنانين بقضايا شعبهم، تأكيدًا على أن الإبداع لا يمكن قمعه، وأن الكلمة المسرحية الصادقة قادرة على مواجهة رياح التهميش والإنكار.
فقد تركت العروض لمستها في قلوب من تابعها إذ كانت الانطلاقة لمسرحية “الموسيقا الحمراء” التي كانت بشارة الخير للإعمال القادمة، وبداية تفاؤل بأعمال أجمل، وحاكت المسرحية واقع المرأة من قمع وتهميش فعزف الألحان تحت قناع رجل بحثاً عن فسحة أمل، ولم يكن عرض الموسيقا الحمراء الوحيد الذي عايش قمع المرأة فجاءت مسرحية “حنين” لتكون صرخة أخرى على الخشبة تروي حزن طفلة بصوت مرتجف، ومسرحية “إيجار” لفرقة مديرية الثقافة القادمة من السويداء، التي عايشت معاناة أم فقدت أبناءها في زمن الحرب لتبحث عنهم في أطفال للإيجار، واختتمت العروض بعرض “شهنازي” الصراع بين الحلم المدفون والواقع المفروض لفتاة يقمع حلمها بأن تكون ممثلة، وحملت ذاتها المكسورة كجسد هامد في نهاية المسرحية لتعبر عما مات في داخلها.
ولم تهتم المسرحيات فقط بالجانب النسوي ، بل كان للوطن حضور كبير في العروض المسرحية كعرض “الصورة”، التي حولت الصور الجامدة في إطار، إلى ذاكرةً حيّة تنزف أطرافها حكايات منسية، فالصور من مراحل زمنية مختلفة كانت ناقوساً يدق أبواب التاريخ، ومسرحية “طلقة واحدة” مسرحية جسدت مشاعر الجنود في الحروب، فالممثل كان جندياً يحمل في جيبه ما تبقّى من وطنه، حالماً بحضن والدته باحثاً عن النجاة بين أكوام الموت، عرض حمل في ثناياه مشاعر دفينة لكل شهيد صارع الموت من أجل وطنه وأهله، فحركت أوتار القصة وحبكتها ذاكرة الحضور التي يوجد في قلب كل منها ذكرى وحزن، فبرصاصة واحدة واجه الممثل العالم، ولكنه أطلق آلاف المشاعر في قلب الحضور، ولم يكن عرض “بلا أوراق” أقل جمالاً عن غيره.
وبإبداع مختلف كانت مسرحية “سبيرو” لفرقة “كوما أركيش” القادمة من روجهلات، التي استوحت من اسمها ظاهرةٌ طبيعية حيث يغمر الثلج كل شيء حتى تختلط السماء بالأرض عند خط الأفق، ولكن اللون الأبيض في المسرحية كان مؤلماً ولعنة طغت على كل شيء حي، بياضُ غاز السيانيد، وبياضُ الأكفان، في مقابل سوء حظِّ الأم في قصة درامية مؤلمة لعائلة كردية جسدت انطفاء الأمل في الروح فتحول الأبيض إلى لون الخذلان، فاستيقظ فيه كلُّ الوجعٍ غائراً في ذاكرة الكرد.
كما كان هناك عرض مسرحي إيمائي صامت بعنوان “أنا وأنت وتسعة أشهر”، لفرقة “سيي” فعندما تتوقف الكلمات في الحناجر تعبر الروح والملامح عما يجول في خاطر الممثلين لتصل القصة للمتلقي دون الحاجة لكلمات تشرحها.
جوائز تكريمية ختامية
لم يقتصر المهرجان على العروض المسرحية، فتخللت أيامه ثلاث محاضرات في مركز محمد شيخو للثقافة والفن الأولى بعنوان “سيموغرافيا (النقد المسرحي)”، ومحاضرة بعنوان “أهمية المسرح في بناء الفرد والمجتمع”، ومحاضرة بعنوان “أهمية الإضاءة وعلم الألوان وتقسيماته”، وقد أضفت تلك المحاضرات المهرجان بلون أدبي ثقافي ممتع.
وفي آخر أيام المهرجان كرمت اللجنة عائلة الشهيد المسرحي جمعة خليل، الملقب بـ “بافي طيار”، الذي استشهد في 18 كانون الثاني، بهجوم لطائرة مسيرة تابعة للاحتلال التركي.
ونظرًا لتقارب مستوى الفرق، قررت اللجنة تكريم الفرق المسرحية المشاركة في المهرجان، والبالغ عددها 11 فرقة، ولم تتمكن الفرق القادمة من باشور وروجهلات كردستان من استلام جوائزها إذ غادرت المنطقة إلى بلدانها بعد تقديم عروضها المسرحية، وستقوم اللجنة المشرفة على المهرجان بإيصال الجوائز إليها.
وقدمت اللجنة التقييمية للمهرجان أفضل ثلاث جوائز في المهرجان، حيث حصل الفنان ومهندس الإضاءة “نوري محمد هورو” على جائزة “أفضل جائزة تقنية”، وحاز المخرج والفنان “وليد العمر” على جائزة “أفضل جائزة للتعامل مع الإكسسوار”، كما قررت اللجنة منح جائزتها للفنانة المسرحية “همالين فرمان” عن “أفضل أداء متميز”.
يذكر، إن جائزة “أفضل عمل مسرحي متكامل” غابت عن المهرجان، ولم يتم منحها لأي من الفرق المشاركة، ليطرح ذلك تساؤلات عدة، لم توضح اللجنة القائمة أسبابها، رغم كل ذلك يبقى للمهرجان هذا العام خصوصيته الهامة في مشاركات من الخارج، ومن الداخل، وقد قُدمت فيه أعمالا لامست الوجدان المجتمعي السوري في أعمال لاقت الصدى الجميل من القائمين على المهرجان.