حمزة حرب
إنّ أيّ حديثٍ عن مستقبلِ سوريا لا يمكنُ أن ينفصل عن الدستور، باعتباره الإطار الناظم لكلّ سلطةٍ وشرعيّةٍ، لكن الدستور لا يُكتب بمعزلٍ عن الشعب، ولا يُفرض ببيانٍ سياسيّ. بل يجب أن ينبع من عمليةٍ وطنيّةٍ شاملة، تنطلق من مؤتمر تأسيسيّ، يضم ممثلين حقيقيين عن كلّ فئات المجتمعِ السوريّ، في الداخل والشتات، بعيداً عن الإملاءات الخارجيّة بما يضمن إعادة تعريف الدولة، ويضمن الحريات، ويؤسس لعدالةٍ انتقاليّة حقيقيّة.
الإعلان الدستوريّ الذي أعلن عنه من قبل الحكومة السوريّة المؤقتة في دمشق أثار ردود فعل متباينة في الساحةِ السوريّة، بين من اعتبره بصيغته المؤقتة التي تغطي فترة خمس سنوات ضرورة مرحليّة بغية بناء مؤسسات الدولة، وتمكين السلطةِ المركزيّة من إنجاز المهام المنوطة بها في هذه الفترة، وبين من رأى فيه تكريساً للحكم الفرديّ، عبر حصر الكثير من السلطات بيد رئيس الجمهورية وتكريس حالة الفرد والمركزيّة المطلقة وهو ما أثار استهجان الكثير من السوريين واستنكارهم للآلية التي يُدار بها هذا الملف.
أساسٌ هش
الإعلان الدستوريّ السوريّ وما شابه من نواقص ونواقض شرعيّة ودستوريّة وحقوقيّة أمرٌ توقعه العديدُ من الخبراء السياسيّين والقانونيين، لأنّ ركيزته باطلة وبُني على باطل، فبالعودة لما قبل الإعلان الدستوريّ عُقد ما سمّي بـ”المؤتمر الوطنيّ” بطريقة ارتجاليّة بملامح ومخرجات محددة مسبقاً، ومعظم الأعضاء المشاركين فيه وُجّهت على عجلٍ ومضضٍ دون العودة للشعب السوريّ وإفساح الفرصة لهم لمن يمثلهم في هذا المؤتمر فكان ذو لون واحد وطابع واحد ونهجٍ واحد.
تبع هذا المؤتمر الصوريّ تسمية لجنة لصياغة ما سُمّي “الإعلان الدستوريّ السوريّ” الذي خرج ببنودٍ لا تُلبي تطلعات السوريّين ولا تحقق أهدافَ الحراك الشعبيّ السوريّ المتمثلة بالحرية والعدالة، فلم يضمن الحريات، ولم يحقق العدالة، وأعاد تكريس نظامَ الحكم المركزيّ الإقصائيّ الذي انتهجه نظام الأسد السابق بصبغةٍ مختلفةٍ. في هذا السياق بيّن الحقوقيّ والمحلل السياسيّ مصطفى رستم خلال تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا إنّ “الإعلان الدستوريّ الذي أصدرته السلطة في دمشق يصبُّ في سياقِ فرض الأمر الواقع، وكلّ سلطة أمر واقع تصدر إعلان دستوريّ يسير عمل المرحلة الانتقاليّة يكون مفصل على مقاسها ويلبي تطلعاتها ويحقق مصالحها، ولكن ما يعيب الإعلان الدستوريّ أنّه لا يناسب المرحلة، ولا يناسب طبيعة سوريا، ولا يلبي تطلعات السوريّين الذين يؤكدون أنّ سوريا متعددة ومتنوعة، وما حصل هو تكريس لسلطةِ الفرد الواحد والديكتاتوريّة”.
بكلِّ بساطة وكدليلٍ على إعادة انتاج نظامٍ مركزيّ في مرحلة انتقاليّة تستوجب التعدديّة والتنوع ورسم أسس الديمقراطيّة أكد عضو لجنة صياغة الإعلان الدستوريّ السوريّ عبد الحميد العواك في تصريحات إعلاميّة على خلفيّة إصدار الإعلان الدستوريّ أنّه لن تكون هناك أيّ سلطة لمجلس الشعب على رئاسةِ الجمهورية في المرحلة الانتقاليّة.
كما بيّن العواك إنّه وفقاً للإعلان الدستوريّ لن يُسمح لأيّ سلطةٍ القيام بعزلِ سلطةٍ أخرى، وبموجب الإعلان، يحقُّ للرئيسِ تعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، ويشكّل لجنة عليا تشرف على تشكيل هيئات فرعية ناخبة، تقوم بانتخاب ثلثي أعضاء مجلس الشعب المتبقين، وبالتالي لا وجودَ للسلطةِ التشريعيّة مع تأطير صلاحياتها وتوسيع صلاحياتِ الرئيسِ.
كما غاب عن الإعلان الدستوريّ أيّ حديثٍ عن “السيادة الشعبيّة”، كون الشعب هو المالك الحقيقيّ للسيادة في الدولة، وهي من ستتيح للمواطنين القدرة على فرض إرادتهم عبر الاستفتاء الشعبيّ وسواه، وغياب هذه المادة يدفعُ لوضعِ الكثير من إشارات الاستفهام والتعجب لتلف هذا الإعلان.
كما لم يوضح الإعلان الدستوريّ السوريّ من هي الجهة التي ستقرّ الدستورَ الدائم للبلاد، وهل سيكون ذلك باستفتاء شعبيّ أم الاكتفاء بتشكيلِ لجنةٍ لإعداده من دون أن تكون لدى الشعب أيّ سلطة على الموافقة أو الاعتراض عليه ومن زاوية أخرى من سيحدد أو يضبط صلاحيات المحكمة الدستوريّة العليا؟ كل هذه التساؤلات تلفها الضبابيّة وتؤكد أنّ ما جرى ليس خطوة لبناء سوريا، إنّما حيك على مضض لذر الرمادِ في العيون، وأنّ ما بُني على أساسٍ هشٍّ لن يكون صرحاً متيناً.
تكريس سلطة الفرد الواحد
بمراجعة مدققة لما ورد من بنودٍ في الإعلان الدستوريّ، وما كتب بين سطوره من ناحية قانونيّة وحقوقيّة يجد الكثير من الخبراء القانونيين أنّه يمركّز السلطة كليّاً في يد شخصِ الرئيس ومن دون إمكانيّة مساءلته، فهو رئيس السلطة التنفيذيّة، وهو غير مسؤول عن أعمالِ هذه السلطة، فمجلس الشعب لا يملك مساءلته أو مساءلة وزرائه عن أعمالهم تحت زعم أنّ النظام الرئاسيّ يقتضي ذلك.
وهو يخالف كلّ نظم العالم التي تنتهج النظام الرئاسيّ، فمن الواجب أن يكون لديها آليات لمراقبة عمل السلطة التنفيذيّة من قبل البرلمان أو مجلس الشعب أو الجهة التشريعيّة التي ينتخبها الشعب بنفسه ويختارها لتمثله وترسم معالم بلده وتتخذ إجراءات حاسمةٍ لدرءِ أيّ خطرٍ أو تلاعب في مصير البلاد ومقدراته.
علاوةً على أنّ السلطة التنفيذيّة يتولاها رئيس الجمهورية بشخصه ويعيّن الوزراء ويُقيلهم، ويعيّن أعضاء السلك الدبلوماسيّ ويقيلهم، من دون حتى دورٍ استشاري للبرلمان، بل هو من يعين ثلث أعضاء البرلمان أنفسهم وهم بتحالف بسيط سيكونون ثلثاً معطلاً لأيّ قرار قد يتخذه مجلس الشعب أو البرلمان مستقبلاً وبالتالي كلّ القرارات التشريعيّة إن لم تكن على مقاسِ الرئيس ستعطل بفعل الثلث المعين من قبله.
الحقوقيّ مصطفى رستم بيّن أنّ “مرحلة انتقاليّة من خمس سنوات هي مدة طويلة جداً عادةً ما تكون المراحل الانتقاليّة من ستة أشهر إلى 16 شهراً يمهّد لإقرار الدستور، وبناء على الدستور يتم انتخاب السلطة التشريعيّة التي تتولى مهمة منح الثقة للسلطة التنفيذيّة والتمهيد لانتخابات عامة في البلاد وتنقل البلد من مكان إلى آخر”. كما أنّ هذا الإعلان لم يغفل مسألة الدين لسوريا المتنوعة عرقيّاً وعقائديّاً وأثنيّاً، وحدد دين الرئيس بالإسلام، وقال: إن السوريّين يحتاجون لسلطة تضمن المساواة في الحقوق بين الناس، ليكون هذا النص مناقضاً لمبدأ المواطنة المتساوية، ومناقض لنص تكافؤ الفرص بين المواطنين في تقلّد الوظيفة العامة، وعلى الرغم من أنّ الإعلان الدستوريّ هو حاجة ملحّة لرسم خريطة طريق ووضع أسس عامة وإطار قانوني ودستوريّ للمرحلة الانتقاليّة، يملأ الفراغ القانونيّ الذي تعيشه سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد وإلغاء دستور 2012 ومجلس الشعب وحزب البعث، إلا أنّ هذا الإعلان لا يجب أن يكون كلمة حقٍ يُراد بها باطل. فلكي تبرهن السلطة الجديدة أنّ هناك ضرورة ملحة لإصدار إعلان دستوريّ تبدأ بتكريس سلطتها ورسم معالم إقصاءٍ جديدة في البلاد.
التهميش سيد الموقف
كان الإعلان مظهراً من مظاهر التهميش المطلق حتى في تركيبةِ اللجنة أو الجهة التي صاغته كونه لم تكن هناك مشاركة فعالة للنساء في هذه العملية، لا كمقرّرات ولا كمستشارات، وهو ما يناقض المعايير الدولية التي تؤكد على ضرورة إشراك النساء في صنع القرار، خاصةً في مراحل الانتقال السياسيّ.
فالإعلان اكتفى بعباراتٍ عامة عن “المساواة بين المواطنين” دون أن يذكر النساء بشكل واضح أو يُدرج نصوصاً تؤكد على تمكين المرأة أو مناهضة التمييز على أساس الجنس أو اللون أو العرق ونبذ كل أشكال التحيز والاستغلال لها وهذا الغموض يسمح بتأويلات قانونية تُبقي على التمييز القائم.
ففي معظم الدول التي شهدت انهيار أنظمة وقيام أنظمة بديلة شهدت دساتيرها او إعلانها الدستوريّ تكريس فعلي لحقوق المرأة على سبيل المثال في تونس عام 2014 أو السوداني 2019 خصّت بنود إعلانهم الدستوريّ ودستوريّهم المرأة بفقرات تضمن لها حقوقاً سياسيّة، واقتصادية، واجتماعيّة، أما في سوريا فالإعلان يعكس غياب إرادة سياسيّة حقيقية لإنصاف النساء.
وأكد رستم على إنّ “الإعلان الدستوريّ كان إقصائيّاً بالنسبة لكثير من المجتمعات والمكونات وحتى للمرأة في سوريا ولم يعير أيّ اهتمامٍ إلى حالة التنوع ولا يمكن وصف هذا الإعلان إلا أنه إعلاناً ديكتاتورياً يمهد لإعادة النظام الشمولي للبلاد وهذا ما لم يتقبله السوريّون على الإطلاق لأن ذلك سيجلب الكثير من التوترات والكثير من المشاكل لسوريا والسوريّين لذا يجب على السلطة في دمشق مراجعة سياستها وتسريع وتيرة التشاور مع السوريّين والتوافق على أسس العيش المشترك في سوريا الجديدة سوريا الجامعة سوريا الواحدة الموحدة”.
سيما وأنّ الإعلان لم يضمن أيَّ التزام حقيقيّ وصريح يضمن للنساء حق المشاركة في مؤسسات الحكم الانتقاليّ، أو ضمان تمثيلهن بنسبةٍ عادلة، ولا أقرّ بحقوقِ خاصة بالمرأة في العدالةِ الانتقاليّة، رغم أن النساء كنَّ من أكثر الفئات تضرراً في الحرب مثل الاعتقال، التهجير، فقدان المُعيل.
ولو كان هناك مجالٌ للمقارنة البسيطة ففي شمال وشرق سوريا أثبتت المرأة دورها البارز، وكانت محوراً هاماً في إنجاح مشروع الإدارة الذاتيّة من خلال نضالها السياسيّ والثقافيّ والاجتماعيّ والعسكريّ وحققت انتصارات بجولاتٍ وجولاتٍ وأثبتت جدارتها وحصّنت حقوقها التمثيليّة العادلة والمتساوية مع الرجل في كل مناحي الحياة.
الإدارة الذاتيّة… تجربة رائدة وجهة ناقدة للإعلان الدستوريّ
الإدارة الذاتيّة لإقليم شمال وشرق سوريا انتقدت بشدة الإعلان الدستوريّ، معتبرةً إنه يضم نمطاً تقليدياً يتشابه مع المعايير والمقاييس المتبعة لدى النظام السابق ويتنافى مع حقيقة سوريا وحالة التنوع الموجودة فيها وما هو إلا تزوير فعلي لهوية سوريا الوطنيّة والمجتمعيّة، حيث يخلو الإعلان من بصمة وروح أبناء سوريا وشعوبها المختلفة من كرد وحتى عرب، وكذلك من السريان الآشوريين وغيرهم من الشعوب السوريّة.
فبالمجمل هذا الإعلان كان مُخيب للآمال بالنسبة للسوريين الذين تطلعوا لعهدٍ جديد بعد سقوط النظام السابق وبعيد عن التطلعات نحو بناء دولة ديمقراطية تعكس التنوع الحقيقي للمجتمع السوريّ خصوصاً انه أُعِد من قبل لجنة لا تمثّل مختلف المكونات السياسيّة والقوميّة والدينيّة، ما أفقده شرعية التوافق الوطنيّ.
ساد هذا الإعلان المواربة في التوصيف مثل “جميع المواطنين متساوين أمام القانون”، لكنه لم يعترف صراحةً بالتعدد القوميّ والدينيّ في سوريا لم يرِد فيه أيّ ذكر واضح للكُرد، أو السريان، أو التركمان، أو الآشوريين، أو الشركس، ولا للمكونات الدينيّة مثل الإيزيديين أو العلويين أو الدروز كشعوب لها خصوصيتها الثقافيّة والحقوقيّة.
هذا الصمت لا يمكن اعتباره حياداً، بل هو إقصاءٌ مقنّعٌ، لأنّه يتجاهل واقعاً سوريّاً متنوعاً من جهةٍ، ويُعيد إنتاجُ منطق “الدولة المركزيّة القوميّة الواحدة” من جهة أخرى كون المكونات القوميّة والدينيّة لم يشاركوا في صياغة الإعلان الدستوريّ، سواء في بنيته التمثيليّة أو في عملية اتخاذ القرار لم يُستشاروا، ولم تُعرض الوثيقة على ممثليهم للمراجعة، مما جعلها تبدو كوثيقةٍ “من لونٍ واحد”، لا تعبّر عن التنوّع المجتمعيّ.
كما أوضح مصطفى رستم أنه “لم نرَ في الإعلان الدستوريّ أيّ انفتاح على اللامركزيّة بل على العكس تماماً كرّس مركزيّة الدولة خصوصاً وإن سوريا تتشكل من جديد وفيها اصطفافات عديدة فإذا كانت هذه السلطة تقدم نفسها على إنها سلطة جامعة يجب أن تكون منفتحة على كل هذه الاصطفافات ورسم معالم سوريا الجديدة اللامركزيّة”.
على النقيض من كلّ هذه السلبياتِ التي شابت الإعلان الدستوريّ كانت الإدارة الذاتيّة سبّاقة في تبنّي عقدٍ اجتماعيّ للشعوب والمكونات والأطياف المتعايشة على بقعة جغرافيّة متنوعة ديمغرافياً عرقياً ودينيّاً وأثنياً فالعقد الاجتماعيّ تم تطويره عبر عملية تشاركيّة محلية استمرت لأشهرٍ.
شارك في الصياغة والتوافق كل من المجالس التشريعيّة المحلية وممثلون عن مختلف الشعوب “الكُرد، العرب، السريان، الآشوريون، التركمان…إلخ” والمكونات الدينيّة، إضافةً إلى تمثيل واسع للنساء وصادق عليه “المجلس العام”، وهو هيئة تشريعيّة محلية في شمال وشرق سوريا.
وفيما يخصُّ ملفَ المرأةِ فالعقد الاجتماعيّ يُعدُّ من أكثر الوثائق الدستوريّة تقدماً في المنطقة بهذا السياق، حيث يعتمد مبدأ التمثيل المتساوي بين النساء والرجال ويفرض كوتا نسائيّة لا تقلُّ عن 50% في جميع مؤسسات الحكم، كما ينصُّ على “حرية المرأة أساس المجتمعِ الديمقراطيّ”.
فالعقدُ الاجتماعيّ يطرح بوضوحٍ نموذج اللامركزيّة الديمقراطية، ويؤمنُ بأنّ السلطةَ يجب أن تُدار من القاعدة نحو المركز، وليس العكس، وينصُّ على نظام “الإدارة الذاتيّة”، ويعترف بحق المجتمعات في إدارة شؤونها من خلال الكومينات والمجالس المحليّة كما يقرُّ صراحةً ودون مواربة أنّ سوريا كدولة متعددة القوميّات، وتضمن لكافة الشعوب من القوميات والأديان والثقافات، حقوقاً لا تنازلَ عنها.
لذا فإنّ العقد الاجتماعيّ الذي أثبت نجاحه وبمقارنةٍ بسيطةٍ يكونَ خير دليلٍ على إثباتِ فشلِ الإعلانِ الدستوريّ الصادرِ عن دمشق على الرغم من كلّ النوايا التي تحاول إعلانها السلطة الجديدة في دمشق يبقى الإعلان وثيقة مشوّهة تفتقر إلى الشرعيّة، والمضمون، والتشاركيّة ولا يصلحُ لبناءِ دولةٍ بحسب تقييم حقوقيّين ومختصين كونه لا يعكسُ وجدانَ شعبٍ خاض واحدةً من أجرأ الثوراتِ في العصرِ الحديثِ، ولا يمكنُ الحلّ في ترقيع الإعلان، بل في تجاوزه نحو صياغةِ دستورٍ جديد، يكتبه السوريّون بأيديهم، ويُعبّر عنهم لا عمن يتحدث باسمهم ويدّعي تمثيلهم.