نيرودا كرد
تستمر سلطة دمشق بمحاولات المراوغة والهرب من الضغوطات الخارجية، وكذلك الاستحقاقات الداخلية، سعيا منها لكسب المزيد من الوقت للمناورة، لعلها تجد حلولا مناسبة للمشاكل التي تمر بها سوريا، لا سيما وأن هذه التحديات بالون اختبار يحدد من خلالها عمر هذه الحكومة.
على الرغم من الوعود التي يطلقها وزراء سلطة دمشق الجدد، والتي تتعلق بتحسين الواقع الخدمي والمعيشي للسوريين، إلا إن الوقائع على الأرض تقول إن السوريين اليوم باتوا أشد فقرا، مما كانوا عليه أيام النظام البائد، ما يؤدي بالضرورة إلى ضيق هامش الأمل لدى السوريين إبان سقوط النظام البعثي البائد.
من جهة أخرى، فإن حجم المشاكل المتراكمة بعد سقوط النظام، يظهر أن النمط المتبع من سلطة دمشق في الإدارة، عاجز عن تقديم الحلول المناسبة لهذه المشاكل، ما يظهر يوما بعد آخر ضرورة إعادة النظر بهذا النمط بشكل جذري، بحيث يفتح الباب أمام مشاركة السوريين في تقرير مصيرهم بنفسهم دون استفراد أو تهميش.
القضايا الوطنية الكبرى
لعل من أهم القضايا التي تعترض سلطات دمشق الحالية، للتعامل معها بمسؤولية أكبر هي القضايا الوطنية الكبرى، والتي باتت العامل الأهم في استهداف وحدة سوريا كحد أدنى، أو وجودها الجغرافي كحد أعلى، هذه القضايا تتمثل اليوم بالتدخلات الخارجية التي لا تزال تعاني منها سوريا، وتحديدا التدخلات التركية، التي تستمر حتى هذه اللحظة كي تفرض وصايتها على مراكز القرار السوري، وذلك من خلال استمرار بناء القواعد العسكرية التركية على مختلف الجغرافية السورية، وكذلك الحديث التركي الدائم حول الاستثمار بالقطاعات السيادية السورية، وصولا إلى الحديث عن تدريب الجيش السوري الجديد، من جهاز الاستخبارات التركية، فضلا عن استمرار الاحتلال التركي مساحات شاسعة من الأراضي السورية، دون أي حديث عن الخروج منها، وإعادتها إلى أهلها.
هذه المؤشرات تظهر أن دولة الاحتلال التركي، لا تزال تتعامل مع الملف السوري بالعقلية ذاتها، التي انتهجتها منذ بدء الأزمة السورية، وهي عقلية التدخل في الشؤون الداخلية، وكذلك فرض الوصاية على بعض الأطراف السورية، بهدف عرقلة الطرق التي يمكن أن تؤدي إلى بناء تفاهمات وطنية بين السوريين، الأمر الذي يتطلب العمل بأسرع وقت لإنهاء التأثير التركي على الملف السوري، والحد من هذه التدخلات التركية، لإفساح المجال أمام الاتفاق بين السوريين فيما يخص وطنهم.
القضية الوطنية الثانية، والتي لا تقل خطورة عن الأولى، هي التوغل الإسرائيلي المستمر في الأراضي السورية، ولا سيما في محافظتي درعا والقنيطرة، فضلا عن الهجمات الجوية الإسرائيلية المتكررة، والتي أودت بحياة العشرات من المواطنين السوريين، وكذلك الحديث الإسرائيلي المتكرر حول ضم المزيد من الأراضي السورية إلى الأراضي الإسرائيلية.
إن هاتين القضيتين الوطنيتين هما حجر الأساس في الحفاظ على وحدة الأراضي السورية، ومن المفروض على سلطة دمشق الجديدة، أن تتعامل معهما بأعلى قدر من المسؤولية الممكنة، وذلك من خلال الإسراع في بناء الجيش السوري الجديد، الذي يضم أبناء هذا الوطن، وتُناط به مهمة حماية حدود الدولة، من هذه التدخلات الخارجية، والخطوة الأولى لبناء هذا الجيش، هي المسارعة في تطبيق بنود الاتفاق الموقع بين قوات سوريا الديمقراطية، وحكومة وسلطات دمشق، من خلال تفعيل اللجان المشتركة، والمضي قدما في مسألة التفاهمات وصولا إلى الاتفاق الناجز والدائم بين الطرفين.
الانتقادات والضغوطات الخارجية
على صعيد آخر، فإن العيون الدولية لا تزال تراقب كل ما يجري في سوريا اليوم، ويوم بعد يوم تزداد الانتقادات الموجهة لسلطة دمشق، داعية الأخيرة إلى اتخاذ إجراءات حقيقية على أرض الواقع من شأنها تذليل العقبات أمام إخراج سوريا من عنق الزجاجة، التي لا تزال تقبع فيه، لا سيما بعد المجازر الأخيرة التي شهدها الساحل السوري، والتي راح ضحيتها الآلاف من السوريين.
وفي هذا السياق، أصدر مجلس الأمن الدولي، بيانا، في العاشر من شهر آذار الماضي، أعرب فيه عن قلقه البالغ إزاء تأثير هذا العنف على زيادة التوترات الطائفية بين مختلف المكونات في سوريا، ودعا الأطراف المعنية إلى الوقف الفوري للعنف، والأنشطة التحريضية، كما شدد على ضرورة ضمان حماية المدنيين، والبنية التحتية، بما في ذلك عمليات الإغاثة الإنسانية، والالتزام الكامل بحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني في الأوقات كلها.
كما أعرب المجلس، عن قلقه الشديد إزاء تهديد المقاتلين الإرهابيين الأجانب في سوريا، مؤكداً أن هذا التهديد يمكنه أن يتمدد إلى دول العالم، وطالب سلطة دمشق، باتخاذ تدابير حاسمة لمكافحة الإرهاب، والوفاء بالتزاماتها بموجب قرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
وفيما يتعلق بالعملية السياسية في سوريا، شدد مجلس الأمن على أهمية عملية سياسية بقيادة وملكية سورية، تيسرها الأمم المتحدة، وتستند إلى مبادئ القرار 2254، والتي تضمن حقوق السوريين، بغض النظر عن العرق أو الدين، كما أكد على ضرورة تلبية التطلعات المشروعة للشعب السوري، في سياق عملية ديمقراطية وسلمية تتيح لهم تقرير مستقبلهم.
وقالت مصادر إعلامية، إن واشنطن أبلغت البعثة السورية في نيويورك، مذكّرة تمّ تسليمها من خلال الأمم المتحدة، بتغيير وضعها القانوني من بعثة دائمة لدولة عضو لدى الأمم المتحدة، إلى بعثة لحكومة غير معترف بها من الولايات المتحدة.
وتضمّنت المذكرّة كذلك إلغاء التأشيرات الممنوحة لأعضاء البعثة، من فئة G1 المخصصة للدبلوماسيين المعتمدين لدى الأمم المتحدة، والمعترف بحكوماتهم في البلد المضيف، إلى فئة G3 التي تُمنح للمواطنين الأجانب المؤهّلين أممياً للحصول على سمة، من دون أن تكون الولايات المتحدة معترفة بحكوماتهم، وفقاً لما ذكرته جريدة النهار اللبنانية.
وجاء في برقية أرسلتها البعثة السورية إلى وزارة الخارجية في دمشق، تبلّغها من خلالها بمضمون المذكرة الأميركية، تتضمن المذكّرة إعلاناً صريحاً ومباشراً بعدم اعتراف الولايات المتحدة الأميركية، بالحكومة الانتقالية السورية الحالية، وقد تتبعها خطوات مماثلة لجهة عدم الاعتراف من دول أخرى تشاطر الإدارة الأميركية في مثل هذه الأمور.
تأتي هذه المواقف الدولية لمحاولة سلطة دمشق الاستفراد في السلطة، لا سيما فيما يتعلق بما يسمى بالإعلان الدستوري، وكذلك الحكومة الانتقالية، والتي حافظت فيهما سلطة دمشق على اللون الواحد، الذي يقصي أطياف الشعب السوري، من المشاركة ببناء وطنهم من جديد.
هذه المواقف الدولية، تفرض اليوم على السلطة في دمشق، تعديل سياساتها الداخلية تجاه الأطراف السورية الأخرى، وعليها إعادة النظر في الإعلان الدستوري، وكذلك التشكيلة الوزارية الجديدة، والتوجه نحو بناء دستور وحكومة تعبران عن تنوع الشارع السوري، للاستناد إلى هذا التنوع كمصدر قوة تستفيد منه سوريا في عملية البناء الجديدة، والخطوة الأولى في هذا الاتجاه هي الإسراع في عقد مؤتمر وطني عام وشامل، يشارك فيه السوريون دون إقصاء، ليكون سيد نفسه في اتخاذ القرارات والإلزام بتنفيذها.
التحديات والصعوبات الداخلية
على المستوى الداخلي، هناك تحديات كبرى، تتمثل هذه التحديات بالدرجة الأولى بقرارات الفصل الصادرة من سلطة دمشق، والتي طالت مئات الآلاف من الموظفين السوريين، الأمر الذي انعكس سلبا على مستوى معيشة السوريين بشكل عام، نتيجة قطع المصدر الوحيد لأرزاقهم، ما أدى إلى تدهور الوضع الاقتصادي لغالبية الشعب السوري، في ظل الارتفاع الباهظ في مستوى المعيشة.
إن تراجع مستوى معيشة السوريين، يهدد السلم الأهلي بشكل أكبر مما هو مهدد اليوم، وذلك من خلال فتح الباب بشكل أوسع أمام ارتكاب الجرائم المنظمة، وانتشار السرقات، وازدياد انتشار المخدرات، وغيرها من الأمراض الاجتماعية، التي يعاني منها السوريون أساسا منذ أكثر من عقد، الأمر الذي يفرض التعامل بعقلية جديدة أكثر انفتاحا على الشعب السوري، والالتفات إلى قضاياه الداخلية المحلة.
تعول سلطة دمشق، في هذا الموضوع، على رفع العقوبات الغربية والأمريكية المفروضة على سوريا، الأمر الذي لم يتم حتى هذه اللحظة، وليست هناك أية بوادر في الأفق القريب لرفعها، وبالتالي يتعين على سلطة دمشق، أن تعتمد بالدرجة الأولى على مواردها الداخلية لحل أزمتها الاقتصادية، وذلك من خلال الانفتاح على الحوار مع الأطراف السورية الأخرى، للوصول إلى الاقتصاد السوري القوي، وهي الخطوة الأولى لتحسين الوضع المعيشي للسوريين.
إن جملة التحديات التي تواجهها سلطات دمشق اليوم، تحديات كبرى لا يمكن فصلها عن بعضها، فالقضايا الوطنية، والقضايا الاقتصادية، هي قضايا مترابطة في جوهرها، وبالتالي فإن على سلطة دمشق، العمل وفق عقلية الإدارة الوطنية، التي يتعين عليها الاستماع إلى أطياف الشعب السوري، لحل الأزمة التي تتفاقم يوماً بعد آخر، وإن لم تمتثل سلطات دمشق لمطالب السوريين، ستلقى مصيرا أسود كالنظام السابق.