د. طه علي أحمد
في ظِلِّ تحدياتٍ استثنائيةٍ تواجه سوريا، أعلن رئيسُ المرحلة الانتقالية أحمد الشرع عن تشكيل أول حكومة رسمية للبلاد بعد سقوط نظام حزب البعث رسمياً في 8 كانون أول الماضي، ومن المُقرر أن تضطلع الحكومة الجديد بقيادة البلاد وتسيير شؤونها خلال فترة قد تصل إلى خمس سنوات يُفترض أن يتم خلالها “بناء دولة قوية ومستقرة” كما ذكر الشرع في كلمةٍ ألقاها خلال مراسِم الإعلان عن الحكومة الجديدة التي تتكون من 23 وزيراً، والتي يشير هيكلها وسياقها العام يثير عدداً من الملاحظات والتحفظات بين قطاع كبير من السوريين.
فالحكومة الجديدة تأتي في توقيتٍ بالغ الحساسية؛ إذ تتعرض البلاد لتحديات أمنية هائلة سواء على مستوى الانتهاكات الإسرائيلية والتركية المتواصلة لسيادة البلاد تمثَّلَ آخرُها وأسوأُها في الاستهداف الإسرائيلي – على مدار الأيام الأخيرة – لمناطق عديدة من بينها ريف درعا الغربي ومطار حماة ودمشق وريف حمص في استهداف مُعلن لتدمير ما تبقى من مُقدَّرات الدولة السوريّة، أو على مستوى الأوضاع الاقتصادية “المنهارة” والتي لا تنفصل عن الأوضاع السياسية والأمنية المضطربة في وقتٍ تسعى سلطة دمشق لرفع العقوبات الدولية المفروضة على البلاد، الأمر الذي يفرض وجودَ حالةٍ من الاصطفاف الداخلي لمواجهة التحديات المذكورة وغيرها، ولهذا الغرض قال أحمد الشرع في كلمته بمناسبة تشكيل الحكومة إن: “تشكيل حكومةٍ جديدةٍ اليوم هو إعلان عن إرادتنا المشتركة لبناء دولة جديدة”، وأكد على ذلك وزير دفاعه مرهف أبو قصره “إن هدفه الرئيس سيكون بناء جيش مُحترف من الشعب وللشعب”.
غير أنه لا يُتصور تحقق حالة الاصطفاف المطلوبة بدون حكومة يتوفر لديها شروط هذا الاصطفاف في مرحلةٍ هي الأخطر في تاريخ سوريا التي تتداعى عليها المشروعات الإقليمية التي تقوم على تفتيت الدولة السوريّة بالأساس، وهذا ما لا يتمناه السوريون ولا أيٌ من المخلصين لهم من الشعوب المحيطة. وهنا يثار التساؤل؛ هل تدرك “الإدارة الانتقالية” في دمشق لخطورة هذه اللحظة التاريخية ومتطلباتها؟ ربما ينطوي الشكل العام للحكومة الجديدة على جانب من الإجابة على هذا التساؤل المُتَّسع.
فمن حيث الحجم، تندرج الحكومة المكونة من 23 وزيراً تحت فئة الحكومات “المتوسطة” والتي تتراوح بين 15 – 25 وزيراً، وهو ما يعكس اتجاهاً عاماً للتخلص من أعباء البيروقراطية الزائدة والتحلِّي بالمرونة الإدارية في حين لا ينفي ذلك وجود ميلٍ نحو المركزية “المفرطة” وهو ما يتعزز بالقدر الهائل من الصلاحيات التي يضمنها الإعلان الدستوري الأخير للرئيس “الانتقالي”، وقد ظهر ذلك في إلغاء منصب رئيس الوزراء لصالح إشراف الشرع على عمل الوزراء. بجانب ذلك، لا يزال التشدد الأيديولوجي هو السَمْتُ العام لعددٍ ممن تولى المناصب السيادية في هذه الحكومة، وهو ما يُعرَف شخصيات رئيسية فيها مثل وزير العدل مظهر الويس، الذي يفتقر إلى الخلفية العلمية التشريعية اللازمة لترأس المؤسسة التشريعية في البلاد، (خريج كلية الطب البشري بجامعة دمشق) وقد عُرِفَ عنه الإدلاء بتصريحات مذهبية متشددة عبر حسابه على وسائل التواصل الافتراضي. ويبدو – بشكلٍ واضح – أن اختيار غالبية أعضاء الحكومة الجديدة قد جاء على أساس انحدارهم من “هيئة تحرير الشام” خلال سيطرتها على إدلب منذ 2017، وهو ما يعكس إصراراً واضحاً من جانب حكومة دمشق على تبنِّي نموذجٍ مركزيٍ “صارم” بل وممزوج بأيديولوجيا قومية وانحياز مذهبي “ضَيِّق” يُعيق التشاركية المطلوبة في هذه المرحلة.
كما يغلب على الحكومة الجديدة الطابع السياسي وليس التقني، بما يعكس شكلاً ملحوظاً من التمثيل الرمزي وليس التشاركي. فاختيار امرأة واحدة ووزير واحد من الشعب الكردي وآخران درزي وعلوي مع اقتصار الحقائب السيادية في شخصيات مُقرَّبة من أحمد الشرع إنما يؤكد التجاهل الصارخ للكفاءات الموجودة بالفعل، والمطلوبة لبناء الدولة وتعافيها بغض النظر عن الانتماءات العرقية أو المذهبية في هذه المرحلة الحاسمة. بعبارةٍ أخرى، تكمن أزمة الحكومة الجديدة في غياب “الإرادة” المطلوبة لتحديد الشكل المناسب للدولة والنظام السياسي والإداري الذي تفرضه المرحلة التي تمر بها البلاد فضلاً عن عدم ملائمتها للتنوع السكاني والسياسي.
الأزمة المذكورة تفرض على حكومة دمشق إعادة النظر في سياساتها بما يفرض إطلاق حوار واسع يشمل الشعوب التي لم تنخرط في التجربة السابقة التي أطلقتها الحكومة في فترةٍ وجيزة خلال فبراير الماضي، ونخص بالذكر الكرد والدروز نظراً لما يعانيه كلاهما من تهميشٍ وغُبْنٍ سواء من جانب الحكومة الحالية أو من جانب حكومات البعث لأكثر من ستين عاماً. ما يعني أن الحوار – الحقيقي وليس المزعوم – إنما هو السبيل الأمثل لتجاوز الأزمة العميقة التي يعيشها المجتمع السوري سياسياً واجتماعياً، بل إنه ما لم تُتَح الفرصة لهذا الحوار بالجدية المطلوبة، فإن أقرب السيناريوهات المحتملة هو إنتاج نظام استبدادي قومي مذهبي ضيق يجعل السوريون بصدد نسخةٍ مشابهة لحزب البعث، وما ذلك إلا تحذيراً من تداعيات إنتاج نظام “البعث”.
غاية القول، فإن اللحظات الاستثنائية التي تمر بها سوريا؛ إنما تشترط حكومة استثنائية الأمر الذي يتعذر تصوّره بدون إدارة ذات ذهنية تشاركية حقيقية.