دجوار أحمد آغا
منذ نشوء البشرية، والمجتمعات تعيش حياة مشاع بدائية، لا يوجد فيها استغلال ولا طبقات، الكل سواسية والأم تقوم بتوزيع عادل لكل ما يتم الحصول عليه سواء من الصيد، أو من الإنتاج الزراعي، ومع ظهور الدولة في العصر السومري قبل 5000 عام، بدأت مسائل السلطة والسيطرة والاستبداد، تظهر إلى الوجود، وبالتالي لم يعد هناك مجال للعيش بحرية، فربطت الدولة من خلال أجهزتها القمعية كل شيء بنفسها، وسيطرت على مقدرات المجتمعات، وأصبحت تتحكم بنمط حياتها وتُسيّرها وفق مصالحها.
المرحلة الأخطر على الإطلاق في تاريخ البشرية نعيشها الآن في عصرنا هذا، الذي تسيطر عليه بالكامل قوى الحداثة الرأسمالية التي تتحكم بمصير الشعوب والمجتمعات، وفي الوقت نفسه، فعصرنا هو عصر القائد المفكّر والفيلسوف الكبير عبد الله أوجلان، هذا القائد الذي استطاع بفضل فكره، أن يُنشئ نموذجاً قائماً على العقل الأيكولوجي، وحرية المرأة، ونهج الحداثة الديمقراطية، في مواجهة أمراض الحداثة الرأسمالية، من أجل القضاء على هذه الأمراض، وحل المشكلات والأزمات التي تعاني منها الشعوب والمجتمعات، وبمناسبة الرابع من نيسان ميلاد القائد عبد الله أوجلان، سنتحدث عن هذه الولادة وأثرها في حياة شعوب المنطقة والعالم أجمع.
زمات
الشعب الكردي والانتكاسات
بعد قضاء السلطات الفاشية التركية بقيادة مصطفى كمال “أتاتورك” على ثورة آكري 1927 ـ 1931 بالحديد والنار، وارتكاب مئات المجازر الوحشية، التي ينّدى لها جبين البشرية، بحق النساء والأطفال والشيوخ الكرد، في باكور كردستان، وبعد ذلك، غرق الشعب الكردي في سُبات طويل، لم يشهد أية محاولة لمواجهة العدو مستسلماً لقدره المحتوم في العيش تحت ظل الاحتلال التركي الفاشي، فقط في ديرسم الكردستانية الثائرة رفض “سيد رضا” القائد الديني المرموق للكرد العلويين، المظالم والاضطهاد الذي مورس بحقهم، فخاض ثورة عنيفة في جبال ديرسم المقدّسة، ضد العدو 1937 ـ 1938 لكنها كسابقاتها بمجرد إلقاء القبض على قائدها سيد رضا، وإعدامه، انتهت الثورة وعادت الآلة الوحشية التركية، بارتكاب أبشع الجرائم بحق أهالي ديرسم، حتى قاموا بتغيير اسمها إلى “تونجلي”.
ونتيجة تلك المجازر البشعة، لم يجرؤ الشعب الكردي على القيام بأية انتفاضة أو ثورة، ضد العدو خوفاً من الإبادة بشكل كامل، وهو ما كانت تسعى إليه السلطات التركية، وعندما لم تحصل على ما تريده، بدأت باتباع سياسة الإبادة الثقافية، والتتريك، فحُرم التحدث باللغة الكردية حتى في البيوت، وأصبح لفظ الكرد وكردستان، خطراً يُهدد الأمن القومي التركي، وبالتالي يستوجب العقوبة، وتم الزجّ بعشرات ومئات الآلاف من الكرد، في السجون والمعتقلات جراء ذلك.
رغم الشجاعة والبسالة النادرة التي كان يتحلى بها الكرد، في المعارك التي خاضوها في مواجهة العدو، إلا أن جميع هذه الثورات فشلت، لأسباب متشابه، أبرزها الخيانة التي كانت تتعرض لها قيادة الثورة من أحد المقربين منها، وكذلك تعاون السلطات المحتلة لكردستان فيما بينها، لكن السبب الأهم باعتقادي هو عند اعتقال زعيم أو قائد الثورة؛ تنتهي الثورة.
بالتأكيد كان هناك قادة عظام لهذه الثورات، وقدموا أرواحهم في سبيل شعبهم وقضيته العادلة، وهم رموز مقدّسة لدى شعبنا الكردي أمثال (مير بدرخان بك، ومير محمد باشا الراوندوزي، والشيخ عبيد الله النهري، والشيخ محمود الحفيد، وسمكو آغا شكاكي، والشيخ سعيد بيران، وإحسان نوري باشا، والسيد رضا، والقاضي محمد، والملا مصطفى البارزاني)، لكن هؤلاء القادة لم يكن لديهم فكر أو أيديولوجيا، تسير عليها الثورة؛ لنجاحها.
بالتأكيد؛ فإن قيادة الثورة أو الانتفاضة لها دور هام وأساسي في سيرها وصولاً إلى تحقيق أهدافها المرسومة لها، لكنها تحتاج أيضاً إلى فكر ونظرية تستند إليها، لا يجوز أن تقوم ثورة أو انتفاضة بشكل عشوائي، دونما تحضير وتنظيم جيد لقيادة الشعب، الكثير من الثورات العالمية أثبتت ذلك والتاريخ يتحدث عنها، الثورة الفرنسية 1789 مثلاً وسقوط سجن الباستيل، الثورة الاشتراكية في روسيا القيصرية 1917، ثورة أمريكا اللاتينية بقيادة سيمون دي بوليفار 1821 ـ 1825.
ميلاد القائد عبد الله أوجلان
كان من المهم للشعب الكردي، أن يكون هناك قائد مفكّر، يستطيع أن يقود الشعب إلى تحقيق أهدافه في الحرية والاستقلال، نعم كان هناك الكثير من المثقفين الذين لعبوا دوراً كبيراً في نشر التوعية، وزرع الروح الوطنية في قلوب وعقول الشعب الكردي، سواء عبر الأشعار أو القصص والروايات، أو حتى الأغاني الثورية، لكن لم يستطع أحد منهم أن يصبح قائداً لثورة هذا الشعب الذي عانى على يد الغزاة المحتلين.
قرية أمارا التابعة لناحية خلفاتي، التي بدورها تتبع لولاية الرها، والتي أسماها الأتراك (شانلي أورفا)، التي كانت تفتقر إلى الكهرباء والماء، ولم يكن فيها مدرسة لتعليم الأطفال، شهدت ولادة القائد المفكّر، الذي طال انتظاره في الرابع من نيسان، عام 1949، لعائلة كادحة تعمل في الزراعة، مؤلفة من أب فلاح بسيط، وأم تدافع عن بيتها أكثر من الأب، وكانت تحاول دائماً التمرد على الواقع.
الأم كانت ذات شخصية قوية، يقول عنها القائد عبد الله أوجلان: “كان لديها مبدأ فرضته علي، ولا زلت أتذكره، ففي إحدى المرات فُجّ رأسي في مشاجرة مع أطفال القرية، وعُدّت الى البيت باكياً، واشتكيت لوالدتي قائلاً إنهم ضربوني، وطبعاً ببكائي كنت أطلب الحماية من والدتي، وانتظر منها الدفاع عني، ولكن والدتي وبدلاً من أن تقوم بحمايتي والدفاع عنّي، قالت لي: “إما أن تذهب وتأخذ بثأرك، أو لن تدخل هذا البيت مرة أخرى، قالت هذا وأبعدتني، وهذا الموقف كان مبدئياً وضاغطاً، وفيما بعد فقد تأثرت بهذا المبدأ وكنت أطبقه في أعمالي كلها”.
منذ الصغر؛ تبلورت شخصية القائد عبد الله أوجلان، المتمردة على الواقع السيء الذي يعيش فيه، وبرز لديه أسلوب المواجهة مع أهل القرية، خاصة فيما كانوا يتحدثون عنه رغم أنه كان يشعر بالألم من ذلك، حيث يقول: “كانت سنوات طفولتي، ولم أكن قد تجاوزت السابعة، حيث كان أهل قريتي يقولون (نرجو الله ألا يجعل أطفال أحد مثل طفلهم لأن ذلك سيدمر حياتهم)، وهذا أليم، فقد كنت في ذلك الوقت متعلقاً بزملائي، أما أسر الأطفال فكانت تحاول إبعاد أطفالهم وإخفاءهم عني، ويقولون لي إنك ستدمر نفسك، وأنت تنشغل بأمور فارغة، فاترك أولادنا وشأنهم”.
أما نزعته للقيادة فقد ظهرت أيضاً في طفولته، حيث يقول: “كنت اصطاد بعض العصافير، وأقول للأولاد تعالوا سأطعمكم منها، فيجتمع الأطفال حولي، وأتوجه بهم إلى الجبل، أما الذي كنت أعطيه لهم فلم يكن يتجاوز فخذ عصفور أو جناحاً لكل واحد منهم، وطبعاً هذا شيء يسير جيداً، أي إنني استطعت تجميع الأطفال حولي والتوجه بهم إلى الجبل”.
“عندما سمعتُ بأنّ أمين، ابن عائلةِ الجيران، قد بدأ بمطالعةِ كتاب “علم الحال”؛ ازدادَ اهتمامي بالإسلام والجامع، ومقابل حفظ عدة أدعية، كنتُ نجحتُ في التسلل إلى الصفوف الأمامية خلفَ الإمام مسلم مباشرة، وعندما سمعتُ بعد ذلك قولَ مسلم عني “إذا استمر عبد الله بهذه الوتيرة، فسوف يطير”، لَم أَنسَه أبدا”.
المصادر
ـ مانيفستو الحضارة الديمقراطية بمجلّداته الخمس، وهي مرافعات القائد أوجلان 2009 ـ 2010 الى المحكمة الأوروبية لحقوق الانسان.
ـ ملحمة الانبعاث، حوار أجراه الأستاذ “يالجين كوجوك” مع القائد عبد الله أوجلان الطبعة الأولى 1994
ـ أوجلان الزعيم.. والقضية، رجائي فايد / أحمد بهاء الدين الطبعة الأولى 1999
ـ مسألة الشخصية في كردستان عبد الله أوجلان الطبعة الأولى 1986
ـ التاريخ مخفي في حاضرنا ونحن مخفيون في بداية التاريخ عبد الله أوجلان الطبعة الأولى 1997م.