اتفاق الشيخ مقصود والأشرفية… خطوة جديدة لبناء الثقة والتعاون
محمد عيسى
منذ بداية الثورة السوريّة في 2011، كان حيّا الشيخ مقصود والأشرفية في حلب شاهدين على مقاومة شعبيّة بامتياز، إذ تصدّى الأهالي فيهما لمحاولات القمع والتهجير الممنهج الذي مارسته سلطات النظام السوريّ. وسرعان ما تحوّل الحيان إلى رمزٍ للمقاومة الشعبيّة ضد ظلم النظام، وشكّلت مكوناتهما الكرديّة خط دفاع قوي ضد كافة محاولات الاستسلام للواقع المرير الذي فرضه القمع السياسيّ والعسكريّ، ورغم الهجماتِ العنيفةِ التي شنّها النظام في الأشهر الأولى من الثورة، كان أهل الشيخ مقصود والأشرفية يقاومون ببسالةٍ في 2012، ودارت معارك طاحنة لتأمين الأرض وحمايتها من السيطرةِ العسكريّة للنظام السوريّ.
مع بدايةِ اندلاع الهجمات الإرهابيّة من مرتزقة داعش في المنطقة في 2014، وجد سكان الحيين أنفسهم مرةً أخرى في مواجهةِ التهديداتِ الوجوديّة، ولكنهم صمدوا أمام عاصفة الإرهاب والجوع والحصار. وفي عام 2015، تعرض الحيّان لعدةِ محاولاتٍ من قبل المرتزقة الموالين لدولةِ الاحتلال التركيّ للسيطرة عليهما، إلا أنّ المقاومة المحليّة، من وحدات حماية الشعب (YPG)، ووحدات حماية المرأة (YPJ)، تصدّت ببسالةٍ لهذه الهجمات، ولم يقتصر الأمر على الدفاع عن الأرض، بل كانت مقاومة حقيقيّة للتهديدات التي استهدفت الوجودِ الكرديّ في سوريا.
ومع تقدم السنوات، تمكّن سكان الشيخ مقصود والأشرفية من تحقيق انتصار صامد، حتى اليوم الذي وصلوا فيه إلى اتفاقٍ مع حكومةِ دمشق في 1 نيسان 2025.
الاتفاق خطوة نحو السلام
في خطوةٍ هامة نحو تعزيز الاستقرار في المنطقتين، تم توقيع اتفاق بين المجلس المدنيّ لحيي الشيخ مقصود والأشرفية وسلطة دمشق في الأول من نيسان 2025. وتضمن الاتفاق 14 بنداً رئيسيّاً، ويعدُّ خطوة جديدة في تعزيز العيش المشترك وحماية السكان، في وقتٍ تشهد فيه سوريا مرحلة مفصليّة من التحولات السياسيّة والعسكريّة.
يأتي هذا الاتفاق بعد سلسلة من التفاهمات التي تمّت بين الحكومة السوريّة الجديدة وقوات سوريا الديمقراطيّة في إطار سعي الطرفين إلى توسيع دائرة التعاون، وذلك ضمن مساعي تحقيق الأمن والاستقرار في المدينة، خاصةً في ظل التقلبات السياسيّة التي تشهدها البلاد. ويعدُّ هذا الاتفاق، الأول من نوعه بين سلطة دمشق والمجالس المدنيّة الكرديّة، ويعتبر علامة فارقة في تاريخ العلاقة بين الجانبين، بعد سنوات من التوترات والصراعات التي شهدتها المنطقة.
الاتفاق، الذي يتكون من 14 بنداً رئيساً، يشمل العديد من القضايا الجوهريّة التي تهدف إلى تنظيم حياة سكان حيّي الشيخ مقصود والأشرفية، مثل تعزيز العيش المشترك بين مكونات الشعب السوريّ، وحماية السكان من أيّ تهديدات أو مظاهر مسلحة قد تؤثر على استقرار المنطقة، ويتضمن الاتفاق عدة نقاط محوريّة من أبرزها:
ـ تعزيز العيش المشترك وحماية السكان: الاتفاق يركّز على تحسين ظروف المعيشة لأهالي الحيين وتوفير بيئة آمنة ومستقرة للجميع، بغض النظر عن الانتماءات العرقيّة أو السياسيّة.
ـ منع المظاهر المسلحة: يتعهد الاتفاق بمنع أي مظاهر مسلحة أو فصائل مسلحة من فرض وجودها في الأحياء، مما يُسهم في تقليل التوترات الأمنية ويساعد على استعادة الاستقرار.
تنظيم الأمن الداخليّ: تم الاتفاق على أن تتولى قوى الأمن الداخليّ، العاملة تحت مظلة الإدارة الذاتيّة، مسؤولية حفظ الأمن في الحيين بشكلٍ رسميّ، مع وضع آليّةٍ واضحةٍ لتنظيم الحواجز الأمنيّة في المنطقة.
تشكيل لجان لتنفيذ البنود: يتم تشكيل لجان مشتركة تضمّ ممثلين عن كلٍّ من المجلسِ المدنيّ وقوى الأمن الداخليّ وسلطة دمشق، لتنسيقِ عمليات تطبيق البنود وتسهيل الحركة والتنقل بين الأحياء.
يشير هذا الاتفاق إلى نية حقيقية من الأطراف المعنية للعمل على تقليل التوترات وتعزيز التعاون بين مختلف المكونات السوريّة في إطار الجهود الرامية إلى تعزيز السلم الأهلي.
تبييض السجون وتبادل الأسرى
في الثالث من نيسان 2025، تم تطبيق أولى بنود الاتفاق الذي تم التوصّل إليه بين المجلس المدنيّ لأحياء الشيخ مقصود والأشرفية وسلطة دمشق. تمثّل هذا البند في عملية “تبييض السجون”، وتم إطلاق سراح 146 أسيراً من الطرفين، بما في ذلك 97 عنصراً من قوات سلطة دمشق، مثّل هذا التبادل خطوة بالغة الأهمية في مسار تنفيذ الاتفاقات المبرمة بين الجانبين، وجاءت كإشارةٍ قويةٍ على حُسنِ النية من كلا الطرفين في تنفيذ بنود الاتفاق.
تمت مراسم تبادل الأسرى في مكان محدد أمام دوار “شيحان” في أطراف حي الأشرفية، بحضورٍ جماهيريّ لافتٍ من أهالي مدينة حلب، الذين تجمعوا في مشهدٍ يعكسُ الارتياحَ والتفاؤلَ لهذه الخطوة، والتي اعتبروها نقطةَ تحوّلٍ هامةٍ في مسارِ العلاقاتِ بين الكرد وسلطات دمشق. وخلال المراسم، رفعت شعارات تدعو إلى الوحدة بين أبناء الشعب السوريّ، تؤكد على أهميّةِ العيشِ المشتركِ، وتعزيز التعايش بين جميع مكوناته العرقيّة والطائفيّة، هذه الأجواء تحمل دلالة رمزيّةً كبيرةً في الوقت الذي تسعى فيه الأطراف لتحقيق نوع من التفاهم السياسيّ والاجتماعيّ.
يُعدّ هذا التبادل خطوة إيجابيّة هامة نحو بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة، حيث يعكس التزام الطرفين بالعمل على تعزيز العلاقات وتخفيف التوترات المستمرة، وعلى الرغم من أنّ هذا التبادل لا يُعتبر حلاً شاملاً للمشكلات العالقة، إلا أنّه يعدُّ مؤشراً قوياً على إرادة الأطراف في المضي قُدماً في تحقيق التفاهمات السياسيّة والاجتماعيّة التي تخدم مصلحة الشعب السوريّ بأسره، وترسّخ خطوات عملية نحو تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
“استجابة للاتفاق وتعزيز للاستقرار”
في يوم الجمعة 4 نيسان 2025، خرجت القوات العسكريّة من حيي الشيخ مقصود والأشرفية في مدينة حلب، وذلك تنفيذاً للاتفاق الذي تم التوصل إليه بين المجلس العام لأحياء الشيخ مقصود والأشرفية وسلطة دمشق. وجاءت هذه الخطوة في إطار البند السادس من الاتفاق المبرم، الذي يتضمن انسحاب القواتِ العسكريّة بأسلحتها من الحيين إلى مناطق شرق الفرات، ما يعكس حسن نية من قوات وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة في تنفيذ هذا الاتفاق واستكماله.
وفي بيان أصدرته القيادة العامة لوحدات حماية الشعب، أكدت أن هذا الانسحاب هو جزء من التزام القوات بمبادئ الإدارة الذاتيّة والإرادة الشعبية. كما أشار البيان إلى أن أهالي الشيخ مقصود والأشرفية في حلب تمكنوا منذ بداية المرحلة الأخيرة من النزاع في سوريا من بناء منظومة دفاعية ذاتيّة ومنظمة بشكلٍ فعال لمواجهة التهديدات المستمرة، وبتقديم الدعم والتعزيز من قبل وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة.
خلال هذه الفترة، قدمت القوات تضحيات كبيرة، إلى جانب المكاسب الاستراتيجيّة التي تحققت بفضل هذا الخط الدفاعيّ، حيث لعبت وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة دوراً حاسماً في ضمان أمن واستقرار المدنيين في المنطقة، وقد برهن هذا الدور على فعاليّة وصمود هذه القوات في مواجهة التحديات، ما جعلها جزءاً لا يتجزأ من معادلة تحقيق الأمن في المنطقة.
في سياق الاتفاق الأخير بين الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا والحكومة السوريّة الانتقالية، تم نقل مسؤوليّة حفظ الأمن في الحيين إلى قوى الأمن الداخليّ العاملة تحت مظلة الإدارة الذاتيّة، ما يعكس توافقاً بين الأطراف المعنية لتحقيق الاستقرار المستدام في المنطقة. وقد تم بالفعلِ إنجاز انسحاب جزئيّ للقوات، على أن تتمَّ إعادة نشر الوحدات المتبقية بشكلٍ تدريجيّ ومنظم خلال الأيام القادمة.
إن هذا الانسحاب الجزئيّ يُمثّل خطوةً نحو إتمام الاتفاق، حيث تعكس هذه القوات التزامها العميق بالسلام والانتقال نحو مرحلةٍ جديدةٍ من الاستقرار الأمنيّ والإداريّ. وستظل وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة على موقفها المبدئيّ في دعم الإدارة الذاتيّة وتكييف استراتيجياتها بما يتناسب مع التحديات المقبلة ومتطلبات المرحلة الجديدة، وفي سعي مستمر لتحقيق تطلعات الشعب وتحقيق الأمن والتنمية في المنطقة.
خطوة لبناء الثقة بين الكُرد ودمشق
يعدُّ الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين سلطة دمشق وقوات سوريا الديمقراطيّة في حلب خطوة هامة نحو تعزيز الثقة بين الجانبين، في وقتٍ حساس تمر به سوريا التي تعاني من نزاعٍ طويل الأمد. يأتي هذا التفاهم في ظل محاولات مستمرة للوصول إلى حلول سياسيّة تؤدي إلى استقرار البلاد، ويمثل بداية جديدة لتعاون قد يساهم في معالجة العديد من القضايا العالقة في مناطق متعددة من سوريا.
بدران جيا كرد، مستشار الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة، عبّر عن أهميّة هذا الاتفاق في تعزيزِ الاستقرار في حلب والمناطق المجاورة لها، وأكّد أنَّ هذه التفاهمات بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطيّة تمثّل المرحلة الأولى من خطةٍ أوسع تهدفُ إلى تأمين العودة الآمنة لأهالي عفرين إلى منازلهم، وهو ما يعكس التزام الجانبين بتقديم حلول إنسانيّة وتنمويّة تساهم في إعادة بناء المناطق المتضررة جراء النزاع. كما أكّد جيا كرد أنّ المفاوضات بين الطرفين لا تزال مستمرة، ما يفتح المجال لتحقيق مزيد من التقدم في هذا الاتجاه، ويعكس الإرادة الجادة للطرفين في البحث عن حلول تضمن التعايش السلميّ والتعاون بين مختلف الشعوب السوريّة، سواء في حلب أو في مناطق أخرى.
العديد من المتابعين يرون أنّ هذا الاتفاق قد يكون نقطة انطلاق لمفاوضات أوسع تشمل المناطق الأخرى التي تشهد توترات وصراعات مستمرة، مثل عفرين والمناطق الكرديّة التي ما زالت تعاني من آثار النزاع المسلح. من خلال هذه التفاهمات، يمكن أن تحقق رؤى مشتركة بين جميع الأطراف، ما يساعد في تعزيز الاستقرار على المدى الطويل، ويضع الأسس اللازمة لتحقيق السلام الدائم.