أسعد العبادي (كاتب وناشط سياسي)
من يتابع التحولات السياسية في سوريا والمنطقة والتطورات الدولية بعد السقوط الدراماتيكي لنظام الأسد. سيجد بأن هناك عدم وضوح في الرؤى أو المقدرة السياسية على إدارة وتنظيم التداعيات التي تلت سقوط النظام. فالمجموعة الحاكمة الجديدة تبدو عاجزة عن التعامل مع التحديات الهائلة التي خلّفها النظام السابق. مضت الى الآن أكثر من أربعة شهور لم تتمكن خلالها الإدارة الجديدة تحقيق أي تقدم على صعيد أهم الملفات التي من شأنها أن تنتقل بسوريا إلى مفهوم الدولة القابلة للاستمرار أو الحياة الديمقراطية المتوقعة، ويأتي على رأس هذه الملفات: الأمن، العدالة الانتقالية، السلم الأهلي، تفكيك المجموعات المسلحة، توحيد الجغرافيا السوريّة والمجتمع السوري.
لم تستوعب السلطة الجديدة بعد المهام الثقيلة المُلقاة على عاتقها، وربما يعود ذلك للسرعة غير المتوقعة لسقوط النظام، ولعدم وجود خارطة طريق لإدارة البلاد فيما بعد، ولأسباب معروفة فقد حظيت السلطة الجديدة بالقبول العربي والإقليمي والدولي الواسع والسريع، فضلاً عن ترحيب غالبية اجتماعية في سوريا ذاتها تجلت بالالتفاف حولها بُعيد الإنجاز الكبير المتمثل في إزاحة النظام.
إن إسقاط النظام جاء في ظرف إقليمي استثنائي. على خلفية ارتدادات كارثية لعملية «طوفان الأقصى». كان القبول العربي ـ الإقليمي ـ الدولي قائماً على رغبة الدول المعنية باستعادة الاستقرار الذي طال غيابه في سوريا ولبنان. والتداعيات الخطيرة التي وصلت آثارها إلى تلك الدول، كالإرهاب وتدفق اللاجئين والمخدرات والأعباء الاقتصادية المرتبطة بها.
أما على المستوى السوري فقد كانت هناك رغبة عامة لدى الشعب في انفتاح الأفق أمام تأسيس جديد يقوم على أنقاض الماضي الكارثي، إضافةً إلى الأداء المقبول لهيئة تحرير الشام وحلفائها أثناء عملية «ردع العدوان» وبخاصةٍ في مناطق حساسة كحلب ودمشق وجبال الساحل، حيث لم تشهد المعركة عمليات انتقامية واسعة النطاق أو أعمال عنف على أساس طائفي أو تضييقاً واسع النطاق على الحريات العامة والخاصة.
غير أن خيبة الأمل ألقت بظلالها على الساحة السوريّة، الإقليمية، والدولية كنتيجةٍ لعدم قدرة النظام الجديد على التحول الذي يتناسب مع مرحلة ما بعد التغيير، والتصرف بعقلية رجال الدولة بدلاً عن تصرفات وسلوك الثوار المقاتلين المؤدلجين فكرياً وأخلاقياً.
لقد شهدنا تراجعاً في شعبية الفريق الحاكم بمرور الأيام، وكانت بدايات هذا التراجع ابتداءً من مسرحية «مؤتمر الحوار الوطني» مروراً بالمجازر الطائفية التي اجتاحت الساحل والتي ذهب ضحيتها مئات بل وآلاف المواطنين الأبرياء من النساء والأطفال، ومن ثم جاء الإعلان الدستوري ليكرس خيبة الأمل تلك، وليكشف مرةً أخرى الذهنية غير القادرة على استيعاب الآخر المختلف عرقياً أو أيديولوجياً، وهو الأمر الذي جوبِه بانتقادات واسعة من جميع أطياف ومكونات الشعب السوري خصوصاً الكرد الذين لم يترددوا في إبداء حُسن النوايا تجاه النظام الجديد، وذلك عبر توقيع الاتفاقات التي من شأنها أن تحفظ لسوريا وحدتها ووحدة نسيجها الاجتماعي الديمقراطي.
المشهد السياسي تميّز بغياب الثقة بين قطاعات وشرائح واسعة من المجتمع لم تقتصر على الكرد وحدهم أو العلويين والأقليات. خصوصاً بعد تنامي ظاهرة العدوانية اللفظية لدى مؤيدي النظام الجديد في مواجهة أي نقد لسلوكياتها غير المسؤولة وغير المنضبطة.
كذلك مبادرة السلطات فيما يتعلق بـ «لجنة تقصي الحقائق» التي تفتقر إلى المصداقية، والتي لم تقدم لنا نتائج تحقيقاتها لحد الآن بالرغم من انقضاء الفترة التي حددتها لها سلطات دمشق.
نستطيع القول بأن التفويض (المشروط) الذي حصل عليه النظام الجديد بدأ يهتز ويتآكل يوماً بعد يوم سواء على المستوى الداخلي أو الإقليمي أو الدولي والكثيرون ممن راهنوا عل التحولات الكبرى التي بنوا عليها الآمال في سوريا الجديدة.مستقبل سوريا بيد الأحرار من أبنائها
يكفينا هنا أن نطّلع ونتمعّن في أحد بنود الإعلان الدستوري وهو البند المتعلق برئاسة الجمهورية، حيث ورد فيه شرط يتصل بدين رئيس الجمهورية من غير أي إشارة إلى (جنسيته)، ربما لأن اللجنة الدستورية التي عينها الشرع لم تخطر ببالها (مع حُسن نوايانا طبعا)، هذه الثغرة الخطيرة حتى لو تعلقت باحتمال قريب من الصفر…! فوفقاً لهذا الشرط يمكن لأي مسلم أن يشغل منصب رئاسة الجمهورية حتى لو كان غير سوري الجنسية، مع العلم أن هيئة تحرير الشام ومجموعات أخرى فيها أعضاء أجانب من جنسيات مختلفة، وبينهم من تم تجنيسهم على عجل وبصورة غير معلنة.
وهنا نستطيع أن نتلمس بوضوح التجاهل التام لقيمة المواطنة المتساوية لجميع السوريين وفسح المجال للغرباء ليستأثروا بحكم وإدارة سوريا على حساب أبنائها من مختلف ألوان ومكونات الشعب السوري.
إن ديمقراطية الدولة وعلمانيتها هما شرطان لازمان لقيام دولة في سوريا تمثّل جميع مواطنيها. إن الغموض الذي يكتنف رؤى واستراتيجيات السلطة الجديدة، وبخاصةٍ قائدها أحمد الشرع في مسائل حساسة وحيوية كشكل الدولة ونظام الحكم وغيرها يحتاجان إلى توضيح.
وبناءً على هذه الحقيقة بات من الواجب على قوى الشعب التي ثارت على الاستبداد ودفعت الأثمان الباهظة من أجل الحرية، بات لزاماً عليها النضال من أجل الحرية وإجبار النظام الجديد على تغيير نمط تفكيره المتمثل بالتمسك الأعمى ببرنامجهما الأيديولوجي المعروف القائم على الفكر السلفي والنزعة الطائفية السنية، وفسح المجال دستورياً وقانونياً للمشاركة المتساوية لبقية أطياف ومكونات الشعب في صناعة القرار السياسي في سوريا المستقبل. إن هذا الغموض قد تجلى عن أسوأ الكوابيس التي استبعدها السوريون في لحظة تفاؤل، ولكن وللأسف الشديد تفجر العنف الطائفي واتضحت الميول السلطوية والإقصائية للعهد الجديد دون أن يظهر ضوء في نهاية النفق حتى لو كان على المدى البعيد والعذر في ذلك هو حجم المشكلات الهائل وضعف وسائل معالجتها.
أقول على الرغم من هذه المؤشرات المقلقة، علينا أن نلتمس العذر للنظام الحاكم وعلى رأسه أحمد الشرع لأن السلطة ما زالت ضعيفة وهشة، وخاضعة لاشتراطات كثيرة أغلبها للأسف خارجي، ستكون السلطة ورئيسها مرغمين على التعاطي الإيجابي معها لاستكمال شرعيتها المنقوصة، وعلينا أن نمنح الحكومة فرصة لحل مشكلة العقوبات المفروضة على سوريا، كمعطل لعجلة الاقتصاد، وإلا فلا يمكن للسلطة أن تحافظ على ما تبقى لها من شعبية قبل ذلك.
كما علينا أن لا ننسى الحراك الاجتماعي السوري وهو أخطر ما يواجه الحكم الجديد في قادم الأيام، والمتمثل في مشكلة «الشعوب» التي فشلت السلطة إلى الآن في إدماجها.
لقد سعت السلطة الجديدة للتحايل على المكوّنات الطائفية والعرقية والثقافية بدلاً من معالجة مشكلاتها بروح وطنية.
إن الاتفاق الذي وقّعته السلطة مع “قسد” بدأ للوهلة الأولى بأنه اتفاق «تاريخي» في أعقاب مأساة أهل الساحل، لكن الإعلان الدستوري بالصورة التي صدر بها بُعيد التوقيع قد أضعف من تاريخية هذا القرار، ووضع قسد والإدارة في موقفٍ محرج، فلا رضيت عنه قسد ولا المكونات الأخرى من أمثال دروز السويداء بقيادة الشيخ حكمت الهجري.
أنا أرى بأن سوريا التي يجب أن تمثل جميع مواطنيها، ولكي تؤسس لمستقبلها الواحد الذي لا يستثني أحد على قاعدة “المواطنة المتساوية” حتى لو كلف ذلك أركان السلطة وعودها (للمؤثر) الخارجي، بحكم الأيديولوجيا التي تحكم تفكيرهم وتشكل القاسم المشترك بينها وبين ذلك المؤثر. عليها أن تغلّب مصلحة سوريا والسوريون على ما سواها من مصالح ذاتية أو إقليمية.
يجب على السلطة أن تمضي بهذا الاتجاه، ولو بخطوات بطيئة، حتى لا تصل بسوريا الى سيناريوهات كارثية، كتقسيم البلاد أو الحكم الطائفي والشعبوية القاتلة.
يحتاج الشرع اليوم وحكومته إلى تحالفٍ عريض مع فئات اجتماعية واسعة وخصوصاً القوى الكردية وممثليهم الرسميين، ليتمكن من تأسيس شرعيته. في حين أن الاستفراد بالسلطة والعجز عن تفكيك الجماعات المسلحة وتوحيد مناطق البلاد هو السائد إلى الآن مع شديد الأسف.
إن الحل في سوريا بحاجة إلى تضافر كافة القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني من نساء ورجال، وشبيبة واعية لاستيعاب أكبر للتحولات الجارية على مستوى العالم، وما يريده الجار الإقليمي الطامع بأجزاء مهمة وعزيزة من الوطن السوري.