سوزدار رزكار (صحفية)
عند الحديث عن مقاومة حي الشيخ مقصود، لا بدّ من الإشارة إلى الدور البارز الذي لعبته المرأة الكردية، والتي أثبتت حضورها في مختلف ميادين الحياة العسكرية، السياسية، والاجتماعية، مقدّمة تضحيات كبيرة ومؤسِّسة لحالة من الوحدة تحت راية الحرية والمساواة والديمقراطية.
مع انطلاق شرارة الثورة في عموم المدن السورية، لم يتأخر حي الشيخ مقصود عن اللحاق بالركب، حيث خرجت أولى التظاهرات مطالبة بحرية الشعب الكردي. لكن؛ الحدث الفاصل تمثّل في استشهاد المناضلة “كوله سلمو”، التي أصيبت برصاص شبيحة النظام البعثي البائد العاشر من آذار، خلال اشتباكات بين الأهالي وعائلة “البكارى” المعروفة بارتباطها المباشر مع أجهزة النظام. شكلت هذه الحادثة نقطة تحوّل كبرى في مسيرة الحراك الشعبي بالحي.
لم تنكسر عزيمة أهالي الشيخ مقصود بعد فقدان كوله، بل تصاعدت وتيرة المقاومة، وتكاتف الجميع – نساءً ورجالاً، شباباً وكهولاً – للانتقام لروحها، وتمكنوا من طرد الشبيحة من الحي، ومهاجمة مقراتهم وإشعال النيران فيها.
على مدى 14عاماً، شكّلت النساء في الشيخ مقصود والأشرفية نموذجاً للنضال المستمر، حيث لعبن دوراً فاعلاً في المجالات السياسية، والدبلوماسية، والعسكرية، والاجتماعية، والاقتصادية، ما رسّخ مكانة المرأة الكردية قوة لا يُستهان بها.
اتفاقية مع سلطة دمشق… تحول سياسي واجتماعي
في خطوة مفصلية، وقع المجلس العام لأحياء الشيخ مقصود والأشرفية “هيفين سليمان، ونوري شيخو” اتفاقية مع سلطة دمشق الحالية بقيادة أحمد الشرع، وتأتي هذه الخطوة ضمن سياق معقّد أفرزته الأزمة السورية، التي دفعت مختلف القوى السياسية إلى البحث عن تقاطعات وتحالفات غير تقليدية.
تُعدّ هذه الاتفاقية بداية جديدة لإعادة إعمار مناطق عانت طويلاً من هيمنة المجموعات المتطرفة، وهي تحمل أبعاداً سياسية واجتماعية، أبرزها إرادة النساء في تحدي القوى الظلامية التي حاولت فرض رؤاها المتشددة على المجتمع.
ورغم المفاجأة التي حملها توقيع الاتفاق مع أحمد الشرع – أحد الوجوه البارزة في الجماعات المتطرفة – إلا أن الخطوة قد تمثل فرصة لتجاوز الانقسامات الطائفية، وفتح المجال لبناء مستقبل مشترك بعيد عن سيطرة الفكر المتشدد.
هيفين سليمان وكسر القيود وتحدي الظلام
بين نساء كثر تحدين الواقع، تبرز هيفين سليمان أيقونة نضال واجهت تحديات المجتمع والحرب معاً، ففي بيئة قاسية، كانت فيها النساء عرضة للقيود الاجتماعية وتسلّط المجموعات المتطرفة، نهضت هيفين لتقود مسيرة التغيير، مدفوعة بإيمانها العميق بدور المرأة في بناء المجتمع.
لطالما شكّلت المرأة الكردية رمزاً للتحدي والصمود، وها هي اليوم من خلال توقيع هذه الاتفاقية، تعبّر عن تصميمها في مواجهة الأيديولوجيات المتشددة، وتقديم صورة جديدة وفاعلة للمرأة في مجتمعات خنقتها سلطة المجموعات المتطرفة.
رسالة هيفين من خلال هذا التوقيع واضحة: لا بد من تجاوز الخلافات الطائفية والسياسية، والمضي نحو بناء وطن يحتضن مكوناته كلها، بعيداً عن التطرف، وقريباً من قيم الحرية والعدالة والتعايش.
بداية المسيرة النسائية في روج آفا
منذ اندلاع الثورة في روج آفا عام 2011، سارعت المرأة الكردية إلى أخذ مكانها في الخطوط الأمامية، من خلال الانضمام إلى وحدات الحماية الذاتية الشعبية (YXG) بدأت المسيرة بمجموعات صغيرة، وسرعان ما تطورت هذه الوحدات لتصبح نواة لتشكيل، قوة عسكرية نسائية منظمة، تحت اسم وحدات حماية الشعب (YPG) في 19 تموز 2011، ومنها تفرعت وحدات حماية المرأة (YPJ).
استشهدت المئات من المقاتلات الكرديات في ساحات المعارك، وسُجّل العديد منهن في صفحات التاريخ، مثل آرين ميركان وغيرهن ممّن خضن المواجهة ووقعن في الأسر.
لكن ما إن أفرج عن الأسيرات حتى تحولت لحظة اللقاء إلى مشهد إنساني لا يُنسى، وكأنهن أزهار تفتحت بعد شتاء طويل. دموع الأمهات، وابتسامات البنات العائدات، شكّلت صورة النصر، حيث امتزجت الدموع بالفرح، وكانت الأيدي المرفوعة بإشارات النصر شهادة حيّة على أن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع.
الأسيرات العائدات كنّ مناضلات في صفوف وحدات حماية المرأة، وواجهن داعش في الخطوط الأمامية بكل شجاعة لحظة تحررهن لم تكن مجرد حدث، بل كانت إعلاناً عن استمرار النضال، وحكاية أمل وسط الدمار.
نقطة تحوّل.. وميلاد أمل جديد
إن الاتفاقية مع سلطة دمشق لا يمكن النظر إليها كتحرك سياسي تقليدي، بل خطوة رمزية تعبّر عن كسر القيود والانتصار على الفكر المتطرف، وبداية تحول فعلي في مسار الأزمة السورية.
يبقى الأمل قائماً بأن تشكّل هذه الخطوة بداية لمرحلة جديدة تعزز فيها مكانة المرأة، ويتم فيها بناء مجتمع سوري متماسك، خالٍ من التطرف والانقسامات، ومفعم بالحرية والعدالة والتنوع.
وفيما كانت الأسيرات يتنفسن عبق الحرية، كان الأهالي حولهن يرقبون اللحظة التي طالما حلموا بها، يشهدون لم شملهم مع من غابت عنهم طويلاً، أمٌ تحتضن ابنتها، وأبٌ يغمض عينيه ليلمس صورة الفرح في قلبه، إخوة وأخوات يحتفلون بعودة من فقدوا الأمل في عودتها يوماً، كان الفرح يعم المكان كأنه الربيع بعد سنوات من الشتاء القاسي.