أفيندار مصطفى
في بلادٍ صار الدم فيها عملةً متداولة، والخراب بورصة مفتوحة على مدار الساعة، تتغير المواقف كما تتغير أسعار النفط والذهب في الأسواق العالمية. كلما سقطت قذيفة على مدينة، أو احترقت غابة، أو انفجرت سيارة مفخخة، تسابقنا إلى تحليل الحدث، لا لإدانته أو رفضه، بل لتحديد هوية الضحية ومدى استحقاقها للمواساة. حين كانت الطائرات الإسرائيلية تُمطر دمشق بصواريخها، انقسمنا بين من يرى في ذلك عدوانًا سافرًا ومن يراه عقابًا مستحقًا، وكأننا في محكمة دولية للفصل في شرعية القصف، وعندما كانت البراميل المتفجرة تمزق شوارع حلب، تفنّنا في تصنيف الضحايا بين “إرهابيين” و”أبرياء”، وكأن القذيفة تمتلك ذكاءً خارقًا لتحدد من يستحق الموت ومن يستحق الحياة.
وحين كانت تركيا تحرق القرى الكردية وتهجّر سكانها تحت راية “محاربة الانفصاليين”، لم نسمع صرخةً واحدةً موحدة، بل تنازعنا على تسميات الضحايا بين “خونة” و”مغرر بهم” و”ضحايا جانبيين”، وكأن الاحتلال إذا جاء من جارٍ مسلم، يصبح محمولًا على التأويل.
وعندما التهمت النيران الساحل السوري في صيفٍ حارق، ابتلعنا الرواية الرسمية كما هي، واقتنعنا أن الفلول هم من يتحكمون بالرياح واتجاهات النيران، وأن الحرائق ليست إلا مشهدًا آخر في المسرحية الدموية التي لم يعد فيها للجمهور سوى دور التصفيق أو الصمت.
أما حين تقصف المطارات والمراكز العلمية السوريّة، فلا نهبُّ كأمة واحدة، بل ننشغل بتحليل الرسائل المبطنة بين القوى المتصارعة، وكأننا طرف ثالث يشاهد مباراة شطرنج دولية دون أن يدرك أن الرقعة هي أرضه والبيادق هم أهله. نتحول إلى محللين استراتيجيين فجأة، نناقش الأبعاد السياسية والجيوبولتيكية، دون أن نتساءل لماذا أصبحت أرضنا ساحة بريد ناري يتبادل عليه الجيران رسائلهم بالصواريخ بدل الحروف.
لكن السؤال الحقيقي ليس لماذا يُقصف بلدنا؟ بل لماذا لا نتوحد في إدانة ذلك؟ لماذا أصبحنا نبحث عن مبررات لكل مجزرة بدل أن نرفضها بالمطلق؟ هل نحن عاجزون عن التوحد؟ أم إننا نجيد التكيف مع الانقسام حتى صار جزءًا من حمضنا النووي؟
نحن الشعوب الوحيدة التي تعتقد أن المبدأ موقف مؤقت، وأن التضامن رفاهية نخضعها لحسابات السوق السياسي. لا نعرف كيف نقف صفًا واحدًا في وجه الجلاد، بل نتفرق إلى طوائف ومذاهب وإثنيات واتجاهات أيديولوجية، كأننا في مزادٍ علنيّ على هوية الضحية.
لقد فقدنا البوصلة منذ زمن، وصار كل شيء خاضعًا لحسابات الربح والخسارة، لكن في هذا البازار المفتوح للموت، متى نصبح عملة واحدة؟ متى نتوقف عن التسعير ونبدأ في صنع المستقبل بدل انتظار النشرة الإخبارية القادمة؟