حمزة حرب
أحداثٌ دامية شهدها الساحل السوريّ، اُرتكبت خلالها مجازر يندى لها جبين الإنسانيّة في مشاهد لا يقل وصفها غير أنّها ترقى لمحاولاتِ الإبادةِ العرقيّة بحق الطائفة العلويّة في سوريا، وهذا يتطلب تضافر جهود المجتمع الدوليّ من أجل إنصاف الضحايا، وتحقيق العدالةِ الإنسانيّة لذوي من فقد حياته.
تسببت أحداث العنفِ التي بدأت في السادس من شهر آذار في منطقة الساحل السوريّ بصدمةٍ محليّة ودوليّة. وحصلت صحيفتنا على إفاداتٍ لشهودٍ عيان، فضّلوا عدم الكشف عن أسمائهم حفاظاً على حياتهم، بأنّ “أكثر من 1500 شخص فقدوا حياتهم، وجلهم لا صلةَ لهم بفلولِ النظام أو المسلحين المحليّين، وإنما قُتلوا بشكلٍ عشوائيّ على يد مسلحين غوغائيين متعطشين للدماء، ولا سبب سوى ذلك”، وليطرح السؤال العريض: من سيحاسب مرتكبي تلك الجرائم؟
أحداث الساحل
في السادس من شهر آذار هاجمت مجموعة مسلحة قيل، إنّها لفلول النظام حاجزاً للأمن العام التابع لحكومة دمشق المؤقتة، فبدأت على إثرها عمليّة أمنيّة، وفُتحَ الباب على مصراعيه لحوادث قتلِ وملاحقةِ عشوائيّة طالت كلّ من ينتمي للطائفة العلويّة، والسواد الأعظم ممن تم قتلهم بدمٍ بارد لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بكل ما حصل، فمنهم طلاب جامعيون، ومزارعون، وتجار، وصناعيون، ومعتقلون سابقون في صيدنايا لدى النظام السابق. ومع أن سوريا عاشت عشر سوداء كانت الأكثر دموية من القتل والانتقامات الطائفيّة، وُصفت بأنها الأسوأ منذ سقوط النظام. لكن وسط هذا الدمار، كان السوريّون يواجهون معركة إضافيّة من نوع آخر وهي تأجيج المشهد القائم على زيادة الخطاب الطائفيّ المبني على الحقد والكراهية.
يشير مراقبون إلى أن هذه “المجازر” تأتي في سياق التوترات المستمرة بين القوى الأمنيّة، والمجموعات المسلحة، لكن التحليلات تختلف حول طبيعة المسؤولية السياسيّة، والعسكريّة، وتأثيراتها على الوضع الأمنيّ في البلاد، وأن هذه الأحداث تعكس مشكلة أعمق تتعلق بعلاقة الإدارة السوريّة بأجهزتها الأمنيّة والعسكريّة، فاستمرار الحلول الأمنيّة دون إصلاح حقيقيّ، قد يؤدي إلى مزيد من الأزمات.
ولطالما عُدَّت الأجهزة الأمنيّة السوريّة سلطة فوق الدولة، حيث تُمنح حريةُ التصرفِ دون محاسبةٍ حقيقيّةٍ، إذا لم تتم إعادةُ هيكلة هذه المؤسسات وضبط سلوكها، فسيظل العنفُ يتكررُ بأشكال مختلفة، وسيصبح أيّ حديثٍ عن المصالحة مجردَ شعارات بلا أثر فعليّ، حسب وصف خبراء سياسيّين.
فالنظام السوريّ الجديد مطالبٌ بتقديم نموذجٍ جديدٍ للحكم، بعيداً عن المعالجات الأمنيّة العنيفة، التي أثبتت فشلها في احتواء الغضب الشعبيّ، وكانت باباً من الأبواب الرئيسيّة لاندلاع الأزمة السوريّة، وما يحدث اليوم هو نتيجة طبيعيّة لغيابِ استراتيجية واضحة لإدارةِ الأزمة، وبدأتِ سلطة دمشق الجديدة بتكرار الخطأ ذاته والاعتماد على القمع، الذي لن يؤدي إلا إلى مزيدٍ من الانقسامات، وقد تكون هذه المجزرة نقطةَ تحوّلٍ في كيفية تعاملِ المجتمع الدوليّ مع الأزمة السوريّة مستقبلاً.
هناك مسؤولية مباشرة على المجتمع الدوليّ في الضغطِ لإجراء تحقيقاتٍ مستقلة، لأنّ السكوت عن هذه الجرائم يعني إعطاء ضوءٍ أخضر لتكرارها، ولا يمكنُ الحديثُ عن حلولٍ سياسيّة دائمة ما لم يكن هناك مسار قضائيّ واضحٌ لمحاسبةِ المتورطين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسيّة أو العسكريّة.
وبينما دعتِ الولايات المتحدة، والأمم المتحدة إلى إجراء تحقيقٍ مستقل وشفاف، أعلنتِ سلطةُ دمشق تشكيلَ لجنة تحقيق رسميّة، مؤكّدة أنّها لن تتهاونَ مع أيّ طرفٍ يثبت تورطه في هذه الجرائم، إلا أنّ هذه الخطوة لم تخفف من حدةِ الانتقادات، خاصة أن تجاربَ التحقيقاتِ السابقة لم تحقق نتائج فعليّة.
المشكلة ليست في تشكيلِ لجان التحقيق، بل في جديّة هذه التحقيقات وقدرتها إلى الوصولِ إلى الجناةِ الحقيقيّين. وهناك تجارب سابقة تظهر أنّ مثل هذه اللجان تستخدم غالباً كأدوات سياسيّة لامتصاصِ الغضبِ الدوليّ، ثم يتمّ طيّ الملفاتِ دون أيّ محاسبةٍ حقيقيّةٍ.
من سيحقق العدالة؟
“القتل من المسافة صفر”، معظمُ الشهود أكّدوا أنّ عمليات القتل كانت تجري من المسافة صفر، بعد أن يلقوا القبضَ على الشبان العُزل ويخرجوهم خارج المنزل، ليتم قتلهم بدمٍ بارد، وتُلقى جثامينهم على قارعةِ الطريق، كما حدث مع أبناء أم أيمن زرقة سباهية وغيرها الكثير، والبعض منهم تم إحراق جثامينهم بعد قتلهم والبعض الآخر دُفنوا في مقابر جماعيّة كحال قرية المختارية في ريف جبلة على سبيل المثال.
لجنة تقصي الحقائق المكلفة بالتحقيق في أحداثِ الساحل السوريّ قالت خلال تصريحٍ لها، أدلت به في 14 من آذار الجاري، إنّها وثقت 95 شهادة، وتلقّت أكثر من 30 بلاغاً صوتيّاً ومكتوباً، فيما تواصل التحقيقات دون الإفصاح عن النتائج النهائية حتى اللحظة، فاللجنة لمحت إلى احتمال وقوع “جرائم ضد الإنسانيّة”، مؤكدةً أنّ بعض المتورطين لا يزالون خارج المساءلة.
شهود العيان الذين شاركونا شهاداتهم بعضهم من ذوي الضحايا في قرى تعرضت لانتهاكات في ريفي طرطوس واللاذقية، تقاطعت إفاداتهم على أنّ منازلهم أقتحمها مسلحون وسألوهم السكان عن انتمائهم الطائفيّ قبل قتلهم أو العفو عنهم، وهو ذاته ما وثّقه الجناة بلقطاتٍ مصورة حين القيام بأيّ عملية إعدام تطال المدنيين من مسافة قريبة، بعد تعذيبهم وتوجيه الشتائم إليهم.
اللجنة بدورها تحدثت عن أنها تمكّنت من فحص أكثر من “93 مقطعاً من الأدلة الرقميّة”، التي تم الحصول عليها عبر الإنترنت أو مصادر خاصة، مشيرة إلى أنّها تواصل التنسيق مع اللجنة الدوليّة للتحقيق في سوريا، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان، وفريق المبعوث الأمميّ.
وفيما تنتهي المهلة المحددة في القرار التأسيسيّ للجنة التحقيق بتاريخ التاسع من نيسان المقبل، استبعدت اللجنة قدرتها على إتمام مهمتها التي تحددت بثلاثين يوماً، فيما تخطط للانتقال خلال المدة المقبلة إلى مناطق طرطوس، وبانياس، وحماة، وإدلب، بغرض استكمال عملها، وقالت: إنّها قد ترفع تقريراً تمهيديّاً أوليّاً إلى الرئاسة عند انتهاء المهلة، وتطلب تمديدها لأجل قصير، وهو ما أثار تساؤلات حول احتمال نشر هذا التقرير الأوليّ، وإتاحته للاطّلاع العام، أم حصره بالرئاسة الانتقاليّة فقط.
ليثيرَ ما تقدّم الشكوك حول أفق محاسبة مرتكبي المجازر والمحرضين عليها في الساحل السوريّ، حيث لا تعتبر توصيات اللجنة ملزمة لإدارة الشرع على الرغم من تشديد المبعوث الأمميّ إلى سوريا، غير بيدرسن مؤخراً على أنّه يجب إجراء تحقيق كامل وشفاف حول أحداث الساحل السوريّ، مشيرًا إلى أنّ عمليات قتل جماعيّ ارتكبت خلال اشتباكات الساحل السوريّ ويستوجب انصاف ذوي الضحايا.
ليتساءل مراقبون ما الآليّة التنفيذيّة؟ وإن تمخضت قراراتٌ عن اللجنة تقضي بمحاسبة مرتكبي المجازر، فلا قانونَ سيحاسبهم ولا محاكم سيخضعون لها، وهو ما دفع اللجنة لأن تلمح بضرورةِ إنشاء محكمة وطنيّة خاصة لمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانيّة في سوريا.
كما أنّ الدخول في هذه الدوامة، وغياب العدالة سيُبقي البابَ مفتوحاً أمام مزيد من المجازر، لأنّ الإفلاتَ من العقابِ هو العامل الرئيسيّ في استمرار دوامة العنف، ومن الممكن أن يدخل سوريا في حلقةٍ مفرغةٍ من التصعيد العنيف التي لا نهاية لها.
ومن ناحية أخرى؛ فإنّ استمرار النهج الحالي قد يقود البلاد إلى مرحلة جديدة من التصعيد الداخليّ، إذا لم يكن هناك تحوّلٌ جذريّ في طريقة التعامل مع المعارضة والمكونات المختلفة للمجتمع السوريّ، فإنّ خطر التفكك الداخليّ سيظل قائماً، لأن المعالجات الأمنيّة وحدها لم تثبت نجاعتها على المدى البعيد.
مسارات المصالحة الحالية لا تزال محدودة التأثير لأنّها لا تتعامل مع الأسباب الجذرية للأزمة، فمن دون مشروعٍ وطنيّ شاملٍ يُعيد تعريفَ العلاقة بين الدولةِ والمجتمعِ ستبقى سوريا عالقةً في دوامةِ العنفِ، لأنَّ الحلولَ الأمنيّة وحدها لن تؤدي إلى استقرارٍ مستدامٍ.
آمال بوجود قسد في الساحل السوريّ
الأزمة في الساحلِ السوريّ يصفها مراقبون مستندون إلى ما جمعوه من معلومات، أنّها أزمة ثقة، ولا يمكن حلها لطالما لا توجد إرادة حقيقيّة لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب ولا توجد آليات، ولا يوجد أصلاً لقوى تحمي الأقليات في الساحل السوريّ من بطشِ التنظيمات الراديكاليّة والأطراف المنفلتة.
فبدأت تصدر أصواتٌ تنادي بآمال توجهِ قوات سوريا الديمقراطيّة الى الساحل السوريّ خصوصاً بعد أن تم عقد اتفاق وصف بالتاريخيّ توصل إليه رئيس المرحلة الانتقاليّة في سوريا أحمد الشرع، والقائد العامّ لقوات سوريا الديمقراطيّة مظلوم عبدي، يقضي باندماج كلّ المؤسسات المدنيّة والعسكريّة التابعة للإدارة الذاتيّة في شمال وشرق سوريا في إطار الدولة السوريّة.
ومن أهم بنود الاتفاقية أيضاً وقفُ إطلاق النار على الأراضي السوريّة كافة، ومنها الساحل السوريّ، فضلًا عن دعم الدولة السوريّة في مكافحتها لفلول الأسد، والتهديدات كافة التي تهددُ أمن ووحدة سوريا، وأيضاً فإنّ إدماج قسد في وزارة الدفاع يجعل من الممكن أن تتولى مهمة حماية الساحل، فهي الجهة الأكثر اعتدالاً والعابرة للطائفيّة والتعصب، ومنفتحة على أطياف الشعب السوريّ، وبالوقت نفسه الأكثر قبولاً من أبناء الساحل.
لا سيما وأنّ موقف قسد كان منذ البداية مستنكراً لما حدث في الساحل السوريّ، وهذا ما جاء على لسان القائد العام لقسد الجنرال مظلوم عبدي خلال دعوته رئيس السلطة الانتقاليّة أحمد الشرع بضرورة محاسبة مرتكبي الجرائم في المناطق الساحليّة، متهماً الفصائل المدعومة من تركيا بالوقوف في المقام الأول وراء عمليات القتل. هذا ما لقي صدىً طيباً في نفوس أهالي الساحل السوريّ، لتؤكّد مصادر متقاطعة أن المناخ العام مؤيد لقوات سوريا الديمقراطية خصوصاً بعدما شهدته مدنهم وقراهم من أعمال عنفٍ ممنهج وباتت قسد تحظى بحاضنة شعبيّة كبيرة على امتداد الساحل السوريّ، على العكس تماماً من المجموعات والقوات الموجودة اليوم في الساحل والتي باتت شبه فاقدة الشرعيّة والمشروعيّة هناك.
وتبقى عيون السوريّين في الساحل السوريّ شاخصة نحو تسوية داخلية، وإنهاء حالة الصراع، التي دامت لعقود على الأراضي السوريّة، وخلق مناخٍ جديد يعزز الموقف الوطني أمام المجتمع الدوليّ، ويحقق غاية السوريّين في العيش بأمن وأمان، وهذا ما شددت عليه المصادر الميدانيّة وشهود العيان الذين تحدثوا لصحيفتنا بأن المطلب الأبرز اليوم هو الأمن والاستقرار المفقودان هناك.