دجوار أحمد آغا
بحسب الكثير من المؤرخين، فإن أول ظهور لنظام الدولة قد قام خلال الحضارة السومرية في ميزبوتاميا السفلى (بلاد الرافدين) وذلك خلال البحث والتنقيب الذي أدى الى العثور على الواح طينية مكتوبة بالمسمارية. ومع مجيء الدولة، بدأت بتنظيم السلطة في يدها وأسست أدوات تفرض من خلالها سلطتها. الدولة وعبر تاريخها الطويل، لم تكن في يوم من الأيام في خدمة الشعوب والمجتمعات، بل على العكس من ذلك، دوماً كانت وبالاً كارثياً عليها خاصةً عندما تتحوّل الى دولة استبدادية.
بحسب أحد كبار مفكّري وروّاد النهضة العربية “عبد الرحمن الكواكبي” 1849 ـ 1902 فإن الاستبداد (أسوأ أنواع السياسة وأكثرها فتكاً بالإنسان وبغيره في المجتمع المحكوم بالظلم والطغيان، مما يؤدي الى تراجع كافة مرافق الحياة). إذاً الاستبداد عبارة عن داء تبتلي به الشعوب والمجتمعات في مراحل معينة من التاريخ. النظام الاستبدادي يسيطر على كافة مفاصل الحياة، السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية، الحقوقية، وجميعها عن طريق القوة. الدولة ذات النظام الاستبدادي تسيطر على السياسة، النظام المالي، الإعلام، القوات المسلّحة، تنكر أية حقوق للشعب.
تأسيس الأنظمة الاستبدادية
لم تتأسس هذه الأنظمة القمعية والمستبدة سواء في منطقتنا الشرق الأوسط أو بقية مناطق العالم عن عبث أو تأتي من فراغ، فمن كان يحتل الأوطان ويستعمر الشعوب، قرر بعد أن اضطر إلى الخروج منها تحت ضغط الثورات والانتفاضات التي قامت بها حركات التحرر الوطني، أن يضع على سدة الحكم أنظمة تابعة وعميلة له، تعمل على تأمين مصالحه وكأنه موجود.
مع تطور الدولة شيئاً فشيئاً، وتحولها الى قوى هيمنة عالمية وذات نفوذ عابر للقارات، بدأت بالطلب من تلك الأنظمة الاستبدادية العميلة لها والتي لم تعد قادرة على مواصلة السير وفق الطريق الذي رسمته لها وتأمين مصالحها، بزيادة أجهزتها القمعية وأدواتها الإجرامية ومواجهة الشعوب المنتفضة بقوة. بينما قامت هي بتطوير طرق سيطرتها على الشعوب وحتى الأنظمة، من خلال ممارسة طرق أكثر وحشية ودناءة مما سبق وبدأت بتطبيق مسائل فرض العقوبات، الحصار الاقتصادي، دفع عملائها الإقليميين بالتدخّل، وصولاً الى التدخّل المباشر، الأمر الذي يؤدّي الى ويلات وكوارث بشعة بحق الشعوب ولا يؤثّر بشيء على الأنظمة الاستبدادية والقمعية، التي تستمر في ارتكاب المجازر والإبادات بحق الشعوب.
بعض النماذج من المجازر الحديثة
مجزرة حلبجة
المدينة الكردية الهادئة الواقعة عند سفح منطقة هورامان الجبلية في باشور كردستان. دخلت التاريخ من أبشع وأفظع أبوابه. قُبيل انتهاء الحرب العراقية الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات 1980 ـ 1988، وبحجة دخول القوات الإيرانية إلى المدينة، قام نظام البعث المجرم بقيادة الطاغية صدام حسين، في 16 آذار 1988 بقصف مدينة حلبجة بغاز الخردل الكيماوي والمحرّم استخدامه دولياً في إطار ما أسماها “حملة الأنفال” تحت إشراف علي حسن المجيد الملقب بـ “علي الكيماوي” حيث ارتقى للشهادة في غضون ساعة ما يزيد عن 5000 شخص جُلّهم من المدنيين العُزّل بالإضافة الى إصابة ما لا يقل عن 10 آلاف آخرين بحالات من الاختناق، الإعياء، والإغماء، أطفال، نساء، شيوخ، أجساد متناثرة في أزقة وطرقات المدينة المفجوعة.
انضمت حلبجة إلى لائحة المدن المفجوعة (هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، غرنيكا الإسبانية، ماي لاي الفيتنامية، دير ياسين وكفر قاسم الفلسطينيتين، صبرا وشاتيلا وقانا في لبنان وغيرها من المدن التي تعرّضت الى أبشع وأشنع الجرائم عبر التاريخ على يد الأنظمة الديكتاتورية والفاشية.
شنكال
شنكال من المناطق المتنازع عليها بين حكومة إقليم كردستان العراق والحكومة المركزية في بغداد، الى جانب مدن خانقين، مخمور، كركوك، والموصل. يعيش في شنكال المجتمع الإيزيدي منذ آلاف السنين، مجتمع بسيط يعيش في جباله وقراه وبلداته الهادئة والوديعة بعيداً عن الكره والحقد ولا يحمل الضغينة لأحد. على الرغم من تعرض هذا المجتمع إلى 74 فرماناً بمثابة مجزرة وإبادة عبر تاريخه الطويل، إلا أنه بقي صامداً في جباله وقراه.
العاشر من حزيران 2014 احتل “داعش” الإرهابي وبشكل مفاجئ مدينة الموصل بعد تراجع وهروب الآلاف من جنود وضباط الجيش العراقي وتركهم للأسلحة الثقيلة وراءهم. وفي الثالث من آب 2014 بدأت جحافل المرتزقة من عناصر الإرهابي بالهجوم على القرى الإيزيدية مثل كرزك، تل عزير، سيبا شيخ خدر، جدّالة، وغيرها وسط تراجع وهروب بيشمركة الحزب الديمقراطي الكردستاني، وارتكبوا مجازر وحشية وهمجية بحق هذا المجتمع المسالم. جرائم يندى لها جبين البشرية وقاموا بخطف وسبي الفتيات والنساء الإيزيديات وبيعهن في أسواق النخاسة في الموصل، الرقة، وإدلب وغيرها.
جرت كل هذه المذابح والإبادات أمام أنظار العالم دون أن يُحرِّك ساكناً، لكن شنكال لم تُترك لوحدها، فقد نزل بضعة مقاتلين من قوات الكريلا من الجبال (11مقاتل ومقاتلة) لتنظيم المقاومة وحماية الأهالي، وفتحت وحدات حماية الشعب YPG والمرأة YPJ ممر إنساني آمن لنقل الأهالي الهاربين من الجحيم إلى أراضي روج آفا، حيث تم إنقاذ ما يزيد عن 150 ألف شخص. الأهوال والفظائع التي ارتكبها داعش الإرهابي سبّبت الكثير من الآلام والأحزان التي ما تزال في قلب كل إنسان شريف خاصةً وأنه وفق بعض الإحصائيات الرسمية 3504 امرأة إيزيدية و869 رجلاً وعدداً كبيراً من الأطفال تعرضوا للاختطاف، وتم العثور حتى الآن على أكثر من 80 مقبرة جماعية.
عفرين
عفرين وجع القصيدة والجرح النازف، عفرين ذات الطبيعة الخلاّبة الواقعة في أقصى شمال غرب روج آفا والتي تنتشر على مساحة تُقارب 4000 كيلومتر مربع. تضم حوالي 350 قرية وبلدة ومدينة لعل أبرزها عفرين المدينة، بلبلة، جندريسه، راجو، موباتا، شيه، شيرا، كفر جنّة، قسطل جندو، شيروا وغيرها. عفرين التي انطلقت منها الشرارة الأولى ضد المستعمرين الفرنسيين وكانت مركز للمقاومة والثورة، تعرّضت للخيانة من جانب نظام الأسد البعثي البائد وتم مقايضتها بالقضاء على مسلّحي الغوطة من خلال اتفاق بينها وبين الروس والأتراك.
أطلق الأتراك ما أسموها عملية “غصن الزيتون” على العملية العدوانية التي قاموا بها مع مرتزقتهم لاحتلال عفرين ورغم التفوق الساحق في الطيران والأسلحة الثقيلة من مدافع ودبابات، إلا أن مقاتلي وحدات حماية الشعب والمرأة خاصوا معارك شرسة في مواجهة العدو وكبّدوه خسائر فادحة لمدة 58 يوماً ومن أجل تجنيب المدنيين المجازر تم الانسحاب من عفرين التي دخلها الطغاة يوم 18 آذار 2018.
ما فعله مرتزقة دولة الاحتلال التركي وجنودها في عفرين ونواحيها، يفوق الوصف. عمليات خطف، تعذيب، قتل، بحق الأهالي وبخاصةٍ النساء والأطفال وكبار السن. الاعتداءات عليهم مستمرة إلى الآن. عمليات التهجير القسري والتغيير الديمغرافي جاري على قدمٍ وساق. وصل الأمر بهم الى الانتقام من طبيعة عفرين من خلال حرق الغابات وقطع أشجار الزيتون وتدمير البيئة.
الساحل السوري
لم يكن يوماً من الأيام أهل الساحل السوري من الطائفة العلوية الكريمة دُعاة حرب وقتل وانتقام، ولم يكونوا جميعاً مع نظام الأسد البائد، بل أكثر من ذلك، لا تزال معظم مناطق الساحل السوري مهمّشة وغير مخدمة باستثناء مناطق عائلة الأسد وأزلامه. بعد هروب الطاغية ليلة 8 كانون الأول 2024، توجّس الأخوة العلويين خوفاً من انتقام يطالهم باعتبار الرئيس المخلوع كان من الطائفة، وبالفعل بدأ التجييش الإعلامي ضد أبناء الطائفة الكريمة بشكلٍ عام وإطلاق اسم “النصيرين” عليهم.
خوفاً من الانتقام ترك معظم العلويين بيوتهم وأماكن سكناهم وعادوا إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم في الساحل السوري، لكن هذا الأمر لم يشفع لهم وبحجة ملاحقة فلول النظام البائد، توجهت حشود كبيرة مما يُسمّى بالأمن العام الى مدن وبلدات الساحل وتعرضت يوم السادس من شهر آذار الجاري بحسب الرواية الرسمية إلى كمينٍ من جانب فلول النظام مما أدى إلى سقوط 250 قتيل منهم. الأمر الذي دفع بتوجه الآلاف من مرتزقة المجموعات المتطرفة (الحمزات والعمشات) وغيرها بالتوجه إلى الساحل وقامت بارتكاب مجازر مروعة بحق المدنيين العزّل، خاصةً الأطفال والنساء في مشهدٍ يحاكي الإبادات العرقية. أكثر من 2000 مدني سقط في هذه المجازر البشعة التي ارتكبها الإرهابيون في بانياس، جبلة، طرطوس، اللاذقية، القرداحة، وأريافها.
مجازر كوباني
مقاومة كوباني الأسطورية، لم تكن مجرد معركة ضد “داعش” الإرهابي، بل كانت دفاعاً عن القيم والمبادئ والأخلاق الإنسانية النبيلة في مواجهة الجهل والتخلّف والظلام. كانت مقاومة واختبار حقيقي وحيّ للإرادة الحرة في مواجهة العبيد، كانت صراع بين الجمال، تعدّد الألوان، الرقي، الحضارة، من جهة، والبشاعة، اللون الواحد “الأسود”، التخلف، التطرّف، من جهة أخرى.
ولأن مقاومة كوباني كانت بداية النهاية لـ”داعش” الإرهابي وبعد الانتصار التاريخي وكسر شوكة داعش الإرهابي وداعميه، قام عناصر داعش بالتسلل إلى داخل المدينة ليلة 25 حزيران 2015 وارتكبوا مجزرة فظيعة أودت بحياة 253 شهيداً و273 جريحاً، ولم تتوقف الجهات الداعمة للإرهاب وعلى وجه الخصوص، دولة الاحتلال التركي عن استهداف كوباني وريفها بشكلٍ شبه يومي للانتقام لهزيمة الإرهاب فيها، آخر هذه المجازر حدثت منذ عدة أيام حينما قامت طائرات حربية تركيّة بقصف عائلة مزارع تعمل في أرضها الواقعة بين قريتي “قومجي” و”برخ بوتان” جنوبي كوباني مما أسفر عن استشهاد الأب والأم وسبعة أطفال وإصابة الثلاثة الباقين بجروحٍ.
موقف قيادة قوات سوريا الديمقراطية
عبّر القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي عن تعازيه الحارة لذوي الشهداء في تغريده له على موقع “إكس” تويتر سابقاً جاء فيها:
“نُعزّي ذوي الضحايا الأبرياء الذين قضوا في القصف التركي لعائلة بأكملها في ريف كوباني، ونتمنّى الشفاء العاجل للمصابين. استهداف مزارع وأطفاله جريمة ضد الإنسانية. على الحكومة المؤقتة تحمّل مسؤولياتها تجاه قتل مواطنيها على يد دول أخرى، كما نناشد التحالف الدولي والقوى الفاعلة، القيام بإيقاف هذه الجرائم، وقف إطلاق النار في كامل الأراضي السوريّة أصبح ضرورة لا بدّ منها لنجاح المرحلة الانتقالية نحو سوريا مستقرة وآمنة|.
الصمت الدولي المخزي
ليس غريباً على المجتمع الدولي القائم على عقلية السلطة والاستبداد أن يُغمض عينيه عن الجرائم التي ترتكبها الأنظمة القمعية القوموية التي أقامها هو نفسه بحق شعوب المنطقة. فالمجتمع الدولي الحالي هو نتاج الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945) والتي انتصر فيها الحلفاء (بريطانيا، فرنسا، أمريكا، الاتحاد السوفيتي، الصين) على المحور (ألمانيا، إيطاليا، اليابان) وبموجب هذا الانتصار فرضت الدول المنتصرة شروطها على الدول المهزومة وأعطت نفسها حق النقض “الفيتو” وجعلت من نفسها دول دائمة العضوية في مجلس الأمن الذي شكّلته بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة.
لذا؛ نرى بأن معظم هذه الدول، تبقى صامتة إزاء ما يجري بحق الشعوب في مختلف مناطق العالم، وخاصةً في الشرق الأوسط، فقد رأينا ما جرى ـ ولا زال يجري – في غزة ولبنان واليمن والعراق وسوريا من جرائم بشعة ترتقي إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية؛ لأن المجتمع الدولي يبقى صامتاً طوال الوقت.
منظمات المجتمع المدني والمنظمات الحقوقية
يبقى الأمر بيد منظمات المجتمع المدني التي يشكّلها أبناء المجتمعات التي تتعرض لهذه الجرائم وتقوم بتوثيق هذه الانتهاكات والأعمال البشعة، وترفعها إلى الهيئات والمؤسسات الحقوقية التي سوف تضطر تحت ضغط الرأي العام العالمي والحقائق الموجودة أمامها في ملفات موثوقة وشهادات حيّة، وخوفاً من فقدان مصداقيتها لدى شعوب العالم، أن تقوم بما يُمليه عليه ضميرها وواجبها الإنساني في تقديم هؤلاء القتلة والمجرمين إلى محاكمات دوليّة عادلة لينالوا جزاء ما اقترفت أيديهم من أفعال شنيعة ومجازر يندى لها جبين البشرية.