محمد عيسى
مع دخول عام 2025، بات ملفّ المعتقلين السوريّين في السّجون اللبنانيّة قضية ملحّة أكثر من أيّ وقتٍ مضى، خاصة في ظلّ التحوّلات السياسيّة الكبرى، التي شهدتها سوريا بعد سقوط نظام الأسد في الثامن من كانون الأول 2024 وتولي أحمد الشرع السلطة الانتقالية. هذا التغيير السياسيّ ألقى بظلاله على أوضاع المعتقلين السوريّين في لبنان، حيث بدأت سلطة دمشق الجديدة المؤقتة إعداد قوائم بأسماء الموقوفين، وإرسال طلبات رسمية إلى السلطات اللبنانيّة لتسليمهم، في خطوة قد تعيد ترتيب العلاقات بين البلدين بعد سنواتٍ من التوتر. القضية تعود جذورها إلى السنوات الأولى من الأزمة السوريّة عام 2011، حين وجد العديد من السوريّين أنفسهم في لبنان، إما كلاجئين أو كمعتقلين لأسبابٍ متعددة، منها المشاركة في الثورة السوريّة، أو الانخراط في أنشطة معارضة، أو حتى التورط في أعمال قتالية على الأراضي اللبنانيّة. وعلى مدار أكثر من عقد، ظلّ هذا الملف خاضعاً لحسابات سياسيّة وأمنيّة معقدة، وسط انتقادات حقوقيّة واسعة بشأن انتهاكات جسيمة يتعرض لها المعتقلون داخل السجون اللبنانيّة، ولا سيما في سجن رومية المركزي، حيث يواجه الموقوفون السوريّون ظروفاً قاسية وسط اكتظاظ غير مسبوق، وإهمال طبي متعمد.
السجون اللبنانيّة واقع مأساوي للسورين
عاش السجناء السوريّون في لبنان واقعاً مأساوياً، تتفاقم حدّته يوماً بعد يوم، حيث تشير الإحصاءات إلى أن عددهم يصل إلى 2351 سجيناً، وهو ما يشكل قرابة 35% من إجمالي المعتقلين في البلاد، وهو رقم يعكس حجم الأزمة التي يعاني منها السوريّون داخل السجون اللبنانيّة، لا سيما في ظلّ الأوضاع الاقتصاديّة المتردية التي تمرّ بها البلاد منذ عام 2019. ويُحتجز معظم هؤلاء داخل سجن رومية، الذي يُعدّ الأكبر في لبنان، حيث تبلغ طاقته الاستيعابية 1200 سجين، لكنه يضم حالياً ما يقارب 4000 معتقل، ما يجعل الظروف المعيشيّة داخله تفتقر إلى أدنى المعايير الإنسانيّة، إذ يتكدّس السجناء في زنازين ضيقة تفتقر إلى التهوية والمياه النظيفة، بينما تعجز السلطات عن توفير الاحتياجات الأساسيّة لهم، خاصة مع انهيار العملة اللبنانيّة، وعجز الحكومة عن تمويل المرافق الحيويّة، بما في ذلك السجون.
منذ عام 2015، يواجه أغلب المعتقلين السوريّين في لبنان مصيراً مجهولاً، فتم توقيفهم دون محاكمات عادلة، وُجّهت إليهم تهم تتعلق بالإرهاب أو الانتماء إلى جماعات مسلحة، بينما لم تقدّم المحاكم اللبنانيّة أيّ أدلة قانونيّة ملموسة تثبت تورطهم في أعمال عنف. ويعتمد القضاء اللبنانيّ، خصوصاً في المحاكم العسكريّة، على اعترافات يُقال إنها انتُزعت تحت التعذيب، وفق ما وثّقته تقارير حقوقيّة متعددة خلال السنوات الماضية. ورغم مرور أكثر من تسع سنوات على اعتقال بعضهم، إلا أن العديد منهم لا يزال رهن الاحتجاز التعسفيّ دون محاكمة أو بتهم ملفّقة لم يُثبتها القضاء بأي أدلة قانونيّة واضحة.
ومع تدهور الوضع الاقتصاديّ اللبنانيّ بعد عام 2019، باتت أوضاع السجناء أكثر سوءاً، خاصة على صعيد الرعاية الصحية، إذ يعاني المعتقلون من نقصٍ حادٍّ في الأدوية والعلاجات، وقد تمّ توثيق وفاة عدد من السجناء نتيجة الإهمال الطبي، حيث تُوفي بعضهم بعد معاناتهم من أمراض مزمنة دون الحصول على العلاج اللازم، في ظلّ غياب أيّ تحرك رسمي لمعالجة هذا الوضع الكارثي. وعلى الرغم من مطالبات المنظمات الحقوقيّة بالتدخل لتحسين الظروف داخل السجون اللبنانيّة، إلا أن السلطات لم تتخذ أيّ إجراءات ملموسة لمعالجة الأزمة.
في العاشر من شباط 2025، قرر أكثر من 100 موقوف سوري داخل سجن رومية الدخول في إضراب مفتوح عن الطعام، في خطوة تصعيدية احتجاجاً على المماطلة المستمرة في تنفيذ الاتفاق الذي تم التوصل إليه بين لبنان وسوريا في بداية العام ذاته، والذي نصّ على تسليم المعتقلين إلى سلطة دمشق الجديدة لمتابعة محاكماتهم هناك. ورغم مرور أكثر من شهر على توقيع الاتفاق، لم يتم اتخاذ أيّ خطوات فعلية لتنفيذه، ما دفع المعتقلين إلى إعلان الإضراب في محاولة للضغط على السلطات اللبنانيّة والسوريّة للإسراع في معالجة أوضاعهم. وأكد المعتقلون أنّ تحركهم يأتي بعد تجاهل السلطات اللبنانيّة مطالبهم المتكررة بالإفراج عنهم، أو محاكمتهم وفق إجراءات عادلة، وبعد فشل السلطة السوريّة المؤقتة في تعيين مسؤول يتابع قضيتهم.
ومع استمرار الإضراب، بدأت أوضاع بعض المعتقلين الصحية في التدهور، حيث أُبلغ عن حالات إغماء ونقص حادٍّ في التغذية بين المضربين، في حين لم تبادر السلطات اللبنانيّة إلى اتخاذ أيّ إجراءات للاستجابة لمطالبهم أو تقديم الرعاية الطبية اللازمة لهم. وبينما كانت هناك آمال بأن يُسهم الاتفاق الموقع في إنهاء معاناة المعتقلين السوريّين في لبنان، إلا أن استمرار المماطلة في تنفيذ بنوده زاد حالة اليأس بين السجناء، الذين يؤكدون أنهم مستمرون في إضرابهم حتى تحقيق مطالبهم أو الحصول على ضمانات حقيقية ببدء تنفيذ الاتفاق.
ازدواجية المعايير في التعامل مع المعتقلين
يكشف تعامل السلطات اللبنانيّة مع ملف المعتقلين السوريّين عن تناقضات صارخة، تتجلى في ازدواجية المعايير التي تتبعها الدولة اللبنانيّة فيما يتعلق بالموقف من الأفراد المنخرطين في النزاع السوريّ. فبينما يُعامل المعتقلون السوريّون بصرامة تحت ذريعة “الإرهاب” لمجرّد دعمهم الثورة السوريّة أو انتمائهم لجماعات ما تسمى بالمعارضة للنظام السوريّ السابق، يتم التغاضي عن جرائم بعض الميليشيات اللبنانيّة، التي قاتلت إلى جانب النظام نفسه، بل ويتم تكريم قتلاها واعتبارهم “شهداء”. هذه الازدواجية تثير تساؤلات جوهرية حول مدى التزام لبنان بالمعايير القانونيّة والإنسانيّة في تعامله مع الملف، خصوصاً أن هناك تقارير حقوقيّة موثقة تتحدث عن تورط بعض هذه الميليشيات في عمليات قتل ممنهجة وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
ورغم أن السلطات اللبنانيّة تبرر استمرار احتجاز الموقوفين السوريّين بذرائع أمنيّة، فإن هذا الطرح أصبح موضع شك بعد التغيرات السياسيّة الكبرى، التي شهدتها سوريا، والتي تمثّلت في سقوط نظام الأسد أواخر عام 2024، وتولي سلطة جديدة زمام الأمور، وتشكيل حكومة انتقاليّة. فالنظام الذي كانت بيروت تتحجج سابقاً بضرورة التنسيق معه أمنيّاً لم يعد موجوداً، ما يطرح تساؤلات حول المبررات الحقيقيّة لاستمرار احتجاز هؤلاء المعتقلين. والأدهى من ذلك، أن استمرار لبنان في اعتقالهم يُعدّ خرقاً واضحاً للاتفاقيات القضائيّة الثنائية المبرمة بين البلدين، والتي تنص على تبادل المطلوبين وفق إجراءات قانونيّة واضحة. وقد سبق أن خرق لبنان هذه الاتفاقيات في الماضي عندما سلّم معتقلين سوريين إلى النظام السابق، ليختفوا قسرياً في سجونه؛ ما أثار موجة انتقادات حقوقيّة دوليّة.
ورغم تأكيد مصادر رسمية لبنانيّة أن تسليم السجناء السوريّين إلى حكومتهم الجديدة سيساهم في تخفيف أزمة الاكتظاظ داخل السجون اللبنانيّة، إلا أن تنفيذ هذه الخطوة لا يزال مرهوناً بعوامل سياسيّة داخليّة، أبرزها استكمال سلطة دمشق الجديدة إجراءاتها الدستوريّة ونيلها ثقة البرلمان بعد إنجاز بيانها الوزاريّ. وهذا التعقيد السياسيّ يضيف بُعداً جديداً للأزمة، حيث يبدو أن لبنان يربط مصير هؤلاء المعتقلين بتطورات المشهد السياسيّ السوريّ، بدلاً من التعامل مع قضيتهم كمسألة قانونيّة وإنسانيّة بحتة.
في المقابل، تواصل المنظمات الحقوقيّة، وعلى رأسها الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، مطالبة الحكومتين اللبنانيّة والسوريّة باتخاذ إجراءات عاجلة لإنهاء معاناة المعتقلين السوريّين، الذين يواجهون ظروفاً قاسية داخل السجون اللبنانيّة، تتراوح بين الاكتظاظ الشديد، وسوء الرعاية الصحيّة، وحرمانهم من التواصل مع عائلاتهم، إلى جانب خضوعهم لمحاكماتٍ غير عادلة أمام القضاءِ العسكريّ اللبنانيّ. وقد أكّدت الشبكة في تقاريرها أنّ بعض هؤلاء المعتقلين لا يزالون محتجزين منذ سنوات دون محاكمة، في انتهاك صارخ للقوانين المحلية والدوليّة.
كما شددت الشبكة في بيانها الأخير على ضرورة أن يتم تسليم هؤلاء المعتقلين إلى السلطات السوريّة الجديدة وفق ضمانات قانونيّة تضمن لهم محاكمات عادلة، وأن تُشرف على ذلك منظمات حقوقيّة دوليّة لمنع تكرار حوادث الاختفاء القسريّ والانتهاكات التي تعرّض لها المرحّلون سابقاً. إلى جانب ذلك، دعت الشبكة إلى تحسين ظروف المعتقلين داخل السجون اللبنانيّة إلى حين تسليمهم، والعمل على توفير برامج دعم نفسيّ واقتصاديّ للعائدين إلى سوريا، إلى جانب وضع آليات رقابيّة تضمن عدم تعرضهم لانتهاكات جديدة بعد عودتهم إلى بلادهم.
المعتقلون مفتاح التوتر والتسوية
مع استمرار المماطلة اللبنانيّة في حلّ ملف المعتقلين السوريّين، تبرز تساؤلات جدّيةِ حول ما إذا كانت السلطات السوريّة الجديدة ستلجأ إلى استخدام هذا الملف كورقة ضغط على السلطات اللبنانيّة. فالعلاقات بين البلدين ليست فقط سياسيّة، بل هي أيضاً اقتصاديّة وأمنيّة، حيث يعتمد لبنان بشكل كبير على المعابر البريّة السوريّة في تجارته ونقل البضائع، فضلاً عن كونه منفذاً رئيسيّاً لحركة العبور بين لبنان والدول الإقليميّة. وعليه، فإنّ تأخير تنفيذ اتفاق تسليم المعتقلين قد يقود السلطات السوريّة إلى اتخاذ إجراءات عقابيّة بحق لبنان، مثل فرض قيود مشددة على الحركة التجاريّة، أو حتى إغلاق بعض المعابر الحدودية، ما قد يؤدي إلى تفاقم الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة المتأزمة أصلاً.
ولعلّ هذا السيناريو ليس ببعيد، خاصة أنّ السلطات السوريّة الجديدة تعمل على ترسيخ شرعيتها السياسيّة والدبلوماسيّة بعد سقوط النظام السابق، وتسعى لإعادة بناء مؤسسات الدولة وفق قواعد جديدة. وبالتالي، فإنّ تعامل لبنان مع هذا الملف سيكون بمثابة اختبار لمدى التزامه بالمواثيق الدوليّة واحترامه للاتفاقات الموقعة مع دمشق.
وإن لم يُبدِ الجانب اللبنانيّ جدية في تسليم المعتقلين وفق القوانين المتفق عليها، فقد تجد بيروت نفسها في مواجهة ضغوط متزايدة من سلطة دمشق المؤقتة، التي قد تربط التعاون الاقتصاديّ والأمنيّ بين البلدين بحلّ هذه القضية العالقة.
ومع استمرار التعقيدات السياسيّة والقانونيّة المحيطة بملف المعتقلين السوريّين في لبنان، يبقى هؤلاء السجناء رهائن حسابات سياسيّة متشابكة، بينما يعانون من أوضاع إنسانيّة كارثية داخل المعتقلات. فالاكتظاظ الشديد، وغياب الرعاية الصحية، وحرمانهم من المحاكمات العادلة، كلّها عوامل تزيد خطورة استمرار احتجازهم. وفي ظلّ هذه الظروف، لا يمكن استبعاد سيناريو التصعيد بين الطرفين، خاصة إذا ما استمر لبنان في التسويف والتذرع بذرائع أمنيّة واهية لعدم تنفيذ الاتفاق.
وفي الوقت الذي تتواصل فيه المفاوضات بين الجانبين اللبنانيّ والسوريّ، يظلّ مصير هؤلاء المعتقلين معلّقاً في انتظار قرار سياسيّ حاسم. فالسؤال الأبرز الذي يطرح نفسه اليوم: هل ستفي الحكومة اللبنانيّة بالتزاماتها القانونيّة والأخلاقية، وتحترم حق هؤلاء المعتقلين في العودة إلى بلادهم لمحاكمتهم أمام قضاء حكومتهم الجديدة؟ أم ستواصل التهرب والمماطلة؛ ما قد يؤدي إلى تفجير أزمة دبلوماسية جديدة بين بيروت ودمشق؟
ويبقى الأمل الوحيد أمام المعتقلين السوريّين في لبنان هو أن تتحرك الجهات الدوليّة والمنظمات الحقوقيّة للضغط على السلطات اللبنانيّة من أجل إنهاء معاناتهم، وضمان حصولهم على محاكمات عادلة تتماشى مع التغيرات السياسيّة، التي شهدتها سوريا بعد سقوط النظام السابق. أما إذا استمر التعنت اللبنانيّ، فإنّ الأزمة لن تبقى محصورة في ملف المعتقلين فحسب، بل قد تتفاقم لتشمل العلاقات السياسيّة والاقتصاديّة بين البلدين، في وقت يعاني فيه لبنان من أزمات متراكمة لا تحتمل المزيد من التصعيد، أو العزلة الإقليميّة.