رامان آزاد
تواجه سلطات دمشق في المرحلة الانتقاليّة، أحد أكثر الأوقات المفصليّة، أمام صراع متعدّد الأطرافِ، داخليّ وخارجيّ، يهدّد مباشرة بقاءها، وكذلك مستقبل سوريا، ويبدو أنّ شهر العسل مع المجتمع الدوليّ، وتحديداً الاتحاد الأوروبيّ قد انتهى، على وقع المجازر التي شهدتها قرى وبلدات الساحل السوريّ بحق المدنيين من أبناء الطائفة العلويّة، إضافة للإعلان الدستوريّ” الذي جعل الشرع حاكماً مطلقاً لسوريا، لخمسِ سنواتٍ قادمة. ومن جملة التحديات أوضاع السوريين المنهكين اقتصاديّاً والمنقسمين اجتماعيّاً، في ظلّ اضطرابات أمنيّة، وتواصل القتال على جبهات سد تشرين بين مرتزقة الاحتلال التركيّ وقوات سوريا الديمقراطيّة”، وكان يفترض توقف كلّ الجبهات بعد إعلان توقيع الاتفاق بين “قسد” وسلطات دمشق الذي تضمن دمج “قسد” في المنظومةِ الوطنيّة الدفاعية، والتفاهم حول جملة مبادئ أساسيّة. كما يواصل الجيش الإسرائيليّ توغله في الجنوب ويقصف المواقع العسكريّة، فيما لم تحسم محافظة السويداء خياراتها مع تعدد المسارات بالمحافظة.
آلاف الضحايا في الساحل السوريّ
لا تتوفر حتى اليوم إحصائيّة نهائية لعدد ضحايا المجازر المرتكبة في قرى ومدن الساحل السوريّ، وتشير مصادر محليّة إلى تجاوز العدد ثلاثة آلاف، وجاءت الأحداث بعد إعلان التعبئة العامة بدعوى ملاحقة “فلول النظام”، وأطلقت المساجد في عدة مناطق نداءات “للجهاد”، لتتوجه على إثرها إلى مختلف مناطق الساحل السوريّ أرتالٌ عسكريّة بعضها تابعٌ للإدارة العسكريّة الجديدة، مع استجابة عشوائيّة للنداء وداهمت العديد من القرى والأحياء السكنيّة، ذات الأغلبية العلويّة، وارتكبت في الأيام الثلاثة الأولى 25 مجزرة جرى توثيقها. وجرى توثيق 811 فيديو والتحقق من أسماء 2246 ضحية، معظمهم من الشباب، مع نسبة من كبار السن والأطفال والنساء على أساس انتمائهم للطائفة العلويّة. وجرى توثيق 42 ضحية من طوائف أخرى؛ لتعاطفهم ومحاولاتهم إخفاء المدنيين. إضافة لوجود عدد كبير من المفقودين لا يُعرف مصيرهم، وجثث قتلى في مستشفيات الساحل لم يستلمها ذووهم.
تعاني المنطقة من كارثة إنسانيّة غير مسبوقة بسبب الفقر الذي تجاوزت نسبته 97%، وتجاوز عدد حالات الاعتقالات غير القانونيّة والاختفاء القسريّ عشرة آلاف حالة موثقة، وتسريح عاملي الدولة من مختلف القطاعات العسكرية والمدنية، وتسريح 2014 شخصًا من قطاعي الصحة والتعليم. بحسب المرصد السوريّ، إضافة إلى التعديات على الأملاك الخاصة، وزيادة انتشار خطاب الكراهية والتحريض الطائفيّ، وتصاعد حالة الخوف والرعب في عموم منطقة الساحل السوريّ المنكوب.
وبدأت الأحداث في 6/3/2025، عندما تعرضت دورية لعناصر الأمن العام لاعتداء مسلح في قرية الدالية في منطقة جبلة بمحافظة اللاذقية؛ لإلقاء القبض على “مطلوب” حسب ما هو متداول، فرفض ذوو المطلوب تسليمه، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات بين الأمن وأهالي القرية. وسبق الحادثة مطالبات من أهالي المنطقة بمحاكمة من اُعتقلوا خلال الأشهر الماضية بتهمة أنّهم من “فلول النظام”، وإخلاء سبيل الأبرياء منهم. وتمّ تجاهل هذه المطالب، وكان الرد بأنّه “سيُنظر في الأمر لاحقاً”. والمجموعة التي نفذت الهجوم على الدورية اختفت.
بدأ القصف باستهداف أهالي القرية من الكلية البحريّة في جبلة، ثم تطورت الأمور بتدخل الحوامات، وسُمعت أصوات إطلاق النار تُسمع في كل مكان. اليوم التالي، العدد الأكبر من المجازر. بعدما أعلنت وزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة السيطرة على الأمن في المنطقة، وخرجت بعض العوائل من القاعدة ظناً منها أنّ الأوضاع قد عادت إلى طبيعتها. لكنّها؛ فوجئت بدخول تعزيزات عسكريّة وأرتال ومجموعات محليّة وأجنبيّة، بدأت بارتكاب الجرائم بحق السكان بالتزامن مع دعوات للجهاد ضدّ من سموهم “النصيريين”.
حملات أمنيّة ودعوة للتغيير الديمغرافيّ
أفاد المرصد السوريّ لحقوق الإنسان، الإثنين 24/3/2025، بأنّ قوات عسكريّة وصلت إلى مدينة الدريكيش بريف طرطوس، و”أطلقت النار عشوائيّاً وألقت قنابل يدوية” على منازل مواطنين. وأوضح المرصد، أنّ هذه القوات “وصلت وتجولت في المدينة، السبت، وسط تكبيرات وهتافات إسلاميّة، ما أثار الخوف بين الأهالي”. وأشار إلى أنّ “تعزيزات كبيرةً وصلت إلى الحواجز الأمنيّة عند جسر أرزونة في طرطوس”، وتضم التعزيزات نحو 50 سيارة، تقل عددا كبيراً من العناصر يرتدي بعضهم “زياً جهاديّاً” لا يشبه اللباس الخاص بقوات الأمن العام ووزارة الدفاع.
وانتشرت عناصر أمنيّة على حواجز في الشيخ سعد وجسر أرزونة، وأخرى في المنازل المحيطة، التي هجرها أهلها خوفاً من عمليات استهداف، حسب المرصد. وأثار وصول التعزيزات تخوف الأهالي من القيام بعمليات أمنيّة انتقاميّة بالمنطقة. والإثنين تم تداول خبر العثور على جثة الصيدلانيّة مايا علو في أحراش بعد جسر تلكلخ وقد اختطفت مع شقيقها على جسر أرزونة، ولعل الخبر يُقصد به البلبلة.
وإذ يشكّل التجييش الطائفيّ في سوريا وزيادة حدة خطاب الكراهية، خطراً حقيقياً على نسيج المجتمع والسلم الأهليّ، ويفسح المجال لمزيد من عمليات القتل بدوافع انتقاميّة، ويكرس حالة الخوف ما يعطّل الحياة الطبيعيّة. إلا أن المسألة تتجاوز البعد الأمنيّ وملاحقة ما يسمونه الفلول إلى تطهير عرقيّ وتغيير ديمغرافيّ في الساحل. ففي 19/3/2025، تم تداول مقال كتبه المسؤول الشرعيّ والمسؤول العسكريّ السابق في “هيئة تحرير الشام”، “يحيى بن طاهر الفرغليّ” المعروف بـ”أبي الفتح الفرغلي” وهو مصريّ الجنسيّة، مقالاً بعنوان “الساحل ليس مهما”، دعا فيه إلى توطين من وصفهم بـ”المجاهدين” وعائلاتهم، وخاصة الأجانب، في الساحل السوريّ لتغيير تركيبته السكانيّة للأبد (تغيير ديمغرافيّ). وقال الفرغلي: “الساحل السوريّ ليس مهماً حقيقةً، بل هو أهم منطقة في سوريا على الإطلاق، ولا يشك عاقل في أنّ مؤامرة دوليّة حيكت وتُحاك لفصله عن سوريا عاجلاً أم آجلاً. لذلك، أكرر مطالبتي بتوطين المجاهدين وعائلاتهم فيه، وخاصة المهاجرون لسهولة تنقلهم اجتماعيّا، بأيّ طريقة كانت، وتغيير ديموغرافيا المكان للأبد، وعدم الاكتفاء بالحلّ الأمنيّ الذي هو بطبعه حلّ تكتيكيّ موؤود، وانتهاز هذه اللحظة الفارقة في التاريخ، وإلا سنبكي دماً على فرصة لم نكن رجالها”.
الإعلان الدستوريّ عزز المخاوف
برزت مواقف التنديد الغربيّة، وبدأها وزير الخارجيّة الأمريكيّ، ماركو روبيو، في 9/3/2025، وأدان ما يرتكبه المرتزقة المتطرفون بمن معهم ممن يسمون أنفسهم بجهاديين “أجانب”، من قتل للمواطنين في الساحل السوريّ، ودعا الإدارة السوريّة إلى محاسبة مرتكبي المجازر ضد الأقليات في سوريا. وقال وزير الخارجية البريطانيّ، ديفيد لامي: “إنّ التقارير التي ترد حول المدنيين الذين يُقتلون في المناطق الساحلية السوريّة “مروّعة”، وأضاف: “من الضروريّ أن تضمن السلطات في دمشق حماية جميع السوريين”. فيما أصدرت الخارجيّة الألمانيّة بياناً أعلنت خلاله إدانتها لأعمال العنف في طرطوس واللاذقية وحمص، ووصفت “التقارير حول قتل المدنيين والأسرى”، بـ”الصادمة”. وحمّلت الحكومة الانتقاليّة مسؤولية منع المزيد من الانتهاكات، والتحقيق في الحوادث، ومحاسبة المسؤولين.
بعد المواقف الدوليّة أعلنت وزارة الدفاع بالحكومة المؤقتة “العملية العسكريّة” في الساحل السوريّ في 10/3/2025. وفي محاولة لاحتواء ردود الفعل الدوليّة، أعلن الشرع تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في المجازر وقال في لقاء مع وكالة “رويترز: إنّ “سوريا دولة قانون، والقانون سيأخذ مجراه على الجميع”. وتابع أنّ “الاعتداء على حرمةِ الناس ودمائهم أو أموالهم خط أحمر في سوريا، ولا نقبل بأن تكون هناك قطرة دم تُسفك بغير وجه حق، أو أن يذهب هذا الدم سدى دون محاسبة أو عقاب”. وحمّل الشرع قوات من “الفرقة الرابعة وقوى أجنبيّة” مسؤوليّة العنف في الأيام الماضية، وأنّ “أطرافاً عديدة دخلت الساحل السوريّ وحدثت انتهاكات عديدة”.
ورغم وعود الشرع بمعاقبة مرتكبي المجازر، فقد منح رتبة “عميد” لمتزعم مرتزقة “الحمزات” المتهمة بالضلوع بالمجازر، المدعو “سيف الدين بولاد” وعينه قائد للفرقة “76” بريف حلب الشمالي.
وما زاد تعقيد الأزمة الصيغة التي ورد بها الإعلان الدستوريّ في 13/3/2025، نظراً لما تضمنه من بنود وضعت كلّ خيوط إدارة سوريا بيد الشرع، الذي لا يمكن عزله، وهو الذي يعيّن ثلث مجلس الشعب ويشرف على تشكيله ويترأّس القوات المسلحة، ومجلس الأمن القوميّ، كما ألغي منصب رئيس الحكومة وهو أهم منصب في السلطة التنفيذيّة، ووضعت هذه المسؤوليّة في عهدة “الشرع” ومُددت المرحلة الانتقاليّة لخمس سنوات، وجاءت الإشارة إلى التعدديّة السوريّة فضفاضة عموميّة.
متغيّر في الموقف الدوليّ
قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأمريكيّة، تامي بروس، الجمعة 21/3/2025، إنّ الولايات المتحدة تراقب تصرفاتِ القادة السوريين، وذلك في الوقتِ الذي تُحدد فيه واشنطن سياستها المستقبلية وتُواصل دعوتها إلى حكومة شاملة بقيادةٍ مدنيّة في سوريا. وأضافت بروس في إفادة صحفيّة يوميّة “نراقب تصرفات السلطات السوريّة المؤقتة بوجه عام، في عدد من القضايا، بينما نُحدد ونُفكر في السياسة الأمريكيّة المستقبليّة تجاه سوريا”.
وفي سياق تغيّر المواقف الغربيّة بعد مجازر الساحل، كشف مؤتمر المانحين الذي انعقد في بروكسل، في 17/3/2025، عن فقدان حكومة الشرع الثقة التي حاولت أوروبا منحها له؛ فإلى جانب تراجع حجم التعهدات المالية بنحو الثلث، مقارنة بالاجتماع الماضي، وتعهد بتقديم مساعدات بقيمة 5.8 مليار يورو (6.3 مليار دولار)، وهو مبلغ أدنى من التزامها السابق، بسبب عدم مساهمة الولايات المتحدة وهي 4.2 مليارات من الهبات و1.6 مليار من القروض.
تجاوز المؤتمر أيّ تعامل ماليّ مباشر مع تلك الحكومة، وحصر آلية تقديم الأموال في منظمات مستقلة، علماً أنّ قسماً كبيراً من الدعم الماليّ سيذهب إلى الدول التي لا تزال تستضيف لاجئين سوريين، بما فيها الأردن وتركيا ولبنان، الذي شهد أخيراً موجات لجوء لسوريين فرّوا من مجازر الساحل، الأمر الذي يفتح الباب أمام استمرار أزمة اللجوء.
مع التغيّر اللافت للموقف الأوروبيّ الذي قد يشهد تسارعاً في أي وقت، رغم التطمينات المستمرة، يعيش السوريون على وقع أزمات متداخلة ومتشابكة، بعضها معيشيّ، وبعضها الآخر يرتبط بتركيبة السلطة الحاكمة غير المتجانسة، في ظلّ وجود مجموعات عديدة بعضها يحمل أجندات متشددة وتكفيريّة.
هجرة المسيحيين والتضييق عليهم
في حوار نشره موقع المدن في 23/3/2025، مع رئيس أساقفة حمص وحماة والنبك وحولها للسريان الكاثوليك المطران جاك مراد، قال معلقاً على الإعلان الدستوريّ: عندما توضع شرعة حقوق الإنسان والدولة المدنيّة، والديمقراطية (الكلمة التي لم يتم ذكرها، ولا مرة واحدة في كلّ مؤتمر الحوار الوطنيّ)، عند ذلك نفهم أنّ هناك نضجاً ووعياً عند هذا الشعب. وأضاف: أما اليوم فنحن لن نستطيع القول إننا نتكلم عن دولة متحضرة، ولن نقبل بذلك أبداً، وكلّ الشعب السوريّ لن يقبل به. وتساءل مراد: لماذا لا يكون لدينا مرة واحدة حكومة جريئة وشجاعة، تعطي للشعب صوته بدون قمع للحريات؟ وأضاف: نحن سنكون كمسيحيين متقبلين بشكل كبير ما يريده الشعب السوريّ. فنحن كمسيحيين نملك قوانيننا الخاصة ومحاكمنا الروحيّة الخاصة، وهذا لن يغيّرَ شيئاً. وخلص مراد للقول: “المعضلة اليوم كيف يمكن للإسلام أن يحلَّ مشكلته مع نفسه، والدولة منقسمة على ذاتها وهي هشّة ضعيفة”.
وعن تعامل الحكومة المؤقتة، يشير مراد إلى زيارة المسؤولين الجدد للكنيسة، تضمنت التقدير والتأكيد على مشاركة الجميع، لكن عملياً هناك تناقض كبير بين الأقوال والأفعال، فهناك تهميش للقيادات المسيحية، وللمسيحيين على حد سواء، وإغفال لدور الكنيسة. وهذا التهميش ينسحب على كل الأقليات الأخرى، وربما هناك تهميش لكل الشعب السوريّ.
ضجّت مواقع التواصل الافتراضي بمظاهر جديدة تشهدها بعض الشوارع، من انتشار “سيارات الدعوة” التي تحمل مكبرات صوت وتبث أناشيد أو خطابات تنادي بتعاليم دينية وتدعو لتطبيق الشريعة الإسلاميّة، إلى منشورات على وسائل النقل العامة تدعو إلى الحجاب واللباس المحتشم، ما أثار موجة جدل ومخاوف لدى السوريين من تأثيراتها على التنوع الاجتماعي والهوية الثقافية.
وشهدت دمشق نشاطات دعويّة مكثفة، فقد جالت سيارات تحمل مكبّرات الصوت على عدد من الأحياء، بينها القصاع وباب توما المسيحيين، والزاهرة والميدان، وبثّتِ السياراتُ أدعية وأناشيد بعضها متطرف، فيما قام أشخاصٌ بجولاتٍ دعويّةٍ مضمونها رسائل تدعو للإسلامِ والحجاب، في عدد من أحياء دمشق. وتسببت هذه الدعوات في حي القصاع ذي الغالبيّة المسيحية بمشاجرةٍ بين الدعاة وأهالي الحي ما استدعى تدخل قوات الأمن العام لفضِّ الخلاف. ولم يبدر أيّ موقف رسميّ من سلطات دمشق إزاء هذه الممارسات.
اليوم لا تتجاوز نسبة المسيحيين في سوريا 2.5%، وهو ربع نسبتهم سابقاً، ويعود تراجع نسبتهم إلى الهجرة، والتضييق عليهم وعمليات القتل، وفيما كان عدد مسيحيي حلب يبلغ نحو 170 ألف، فقد تراجع إلى 20 ألفاً، كما تراجعت أعدادهم في مدينتي إدلب وجسر الشغور وعدة قرى، وأُفرغت قرى مسيحية في حمص كالقريتين وأم شرشوح، وحوران من أبنائها.