محمد عيسى
مع حلول الحادي والعشرين من آذار، تتوهج مشاعل النوروز في سماء كردستان، لتعلن عن بداية عام جديد وفق التقويم الكردي، وترمز إلى الأمل والحرية والتجدد. وكما في كل عام، يحتفل الشعب الكردي بهذه المناسبة التاريخية، التي لم تعد مجرد عيد خاص به، بل باتت رمزاً لوحدة الشعوب التي تتطلع إلى الحرية والسلام.
نوروز رسالة عالمية
لم يكن النوروز مجرد احتفال تقليدي للشعب الكردي، بل أصبح عبر التاريخ رمزاً للنضال والتجدد، متجاوزاً حدوده القومية ليحمل أبعاداً سياسية واجتماعية واسعة. فمنذ فجر الأسطورة، حينما أشعل كاوا الحداد أول شعلة نوروز إيذاناً بنهاية الظلم والطغيان، ظل النوروز تعبيراً عن الحرية والانبعاث من جديد، وهو اليوم ليس مجرد عيد، بل مناسبة يتجدد فيها التأكيد على الهوية الكردية وحق الشعب الكردي في تقرير مصيره، في مواجهة كافة محاولات الطمس والتهميش.
في هذا العام، جاء النوروز في ظل تحولات سياسية واجتماعية لافتة، حيث شهد احتفاءً واسعاً لم يقتصر على الكرد وحدهم، بل امتد ليشمل شعوباً مجاورة وحتى دولاً لم تكن تعترف به سابقاً، فقد بات النوروز، بما يحمله من رمزية، مناسبة جامعة تلتف حولها الشعوب التي تنشد الحرية والعدالة. وفي المقابل، استمر موقف “حكومة هيئة تحرير الشام” في دمشق على نهجه المعتاد، متجاهلاً المناسبة رغم ادعاءاته المستمرة بحماية حقوق جميع الشعوب، ليكشف بذلك تناقضاته بين القول والفعل.
ما ميّز نوروز هذا العام، هو اتساع دائرة الاعتراف الدولي به كعيدٍ ثقافي عالمي، حيث وجّه رؤساء دول وحكومات من مختلف أنحاء العالم، عربيّة وغربية، رسائل تهنئة للشعب الكردي بهذه المناسبة، في إشارة واضحة إلى المكانة التي بات يحتلها النوروز على الساحة الدولية.
كان الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، من أوائل المهنئين، حيث قال: “بالنيابة عن الولايات المتحدة الأمريكية، أُقدّم أحرّ التهاني بالعيد.. نوروز مبارك”، بينما وجّه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تهنئة حملت بُعداً سياسياً قائلاً: “أتمنى أن يكون نوروزكم منتصراً”، في إشارة واضحة إلى رمزية العيد في مسيرة الحرية والانتصار على الظلم.
بدورها، أكدت السفارة الأمريكية في دمشق موقفها الداعم للشعب الكردي، عبر نشر تهنئة رسمية على حساباتها في “فيسبوك” و”إكس”، تضمنت صورة لشعلة النوروز ورسالة بثلاث لغات: الكردية والعربية والإنكليزية. وجاء في نص التهنئة: “كما أشعل كاوا أول شعلة نوروز ليعلن عن بداية يوم جديد، نتمنى أن يكون العام الجديد مليئاً بنور الأمل ووعود الربيع، نتمنى أن يكون عاماً مليئاً بالسلام والازدهار والصحة، نوروز سعيد”.
أما على الصعيد الإقليمي، فقد وجّه الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد، في بيانٍ رسمي، تهنئة بهذه المناسبة، قائلاً: “بمناسبة حلول عيد نوروز، نتقدّم بأحر التهاني والتبريكات إلى شعبنا الكردي، وجميع مكونات الشعب العراقي، متمنين أن تعود هذه المناسبة العزيزة على أبناء شعبنا بالخير واليُمن والبركات”.
وفي السياق ذاته، أكّد رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، في كلمته بهذه المناسبة، على عمق الروابط التي تجمع العراقيين بمختلف شعوبهم، قائلاً: “نوروز يذكرنا بروابط المحبة والمصير الواحد والتاريخ العظيم، التي تربط جميع العراقيين، في كل ربوع وطننا العزيز”.
ومن منطقة الخليج العربي، انضمت دولة الإمارات إلى قائمة الدول التي وجهت التهاني بهذه المناسبة، حيث عبّر رئيسها، محمد بن زايد آل نهيان، عن أطيب أمنياته للشعوب التي تحتفل بعيد النوروز، متمنياً لها ولشعوب العالم أجمع السعادة والسلام والتنمية، حيث نشر على منصة “إكس”: “خالص التهاني للشعوب التي تحتفل بعيد النيروز في كل مكان”.
هذا التفاعل الواسع من قبل الحكومات والزعماء العالميين يعكس بوضوح مدى الاعتراف المتزايد بالنوروز، ليس فقط كعيدٍ قومي للكرد، بل كتراث ثقافي عالمي يحمل في طياته قيم الحرية والسلام والتجدد، ولم يعد النوروز مجرد مناسبة احتفالية، بل بات مؤشراً على التحولات السياسية والاجتماعية التي يشهدها الشرق الأوسط، حيث تتزايد المطالب الشعبية بالعدالة والاعتراف بالحقوق القومية، ومع ازدياد حجم التهاني الرسمية، يتم التأكيد أن القضية الكردية لم تعد محصورة ضمن نطاق جغرافي معين، بل أصبحت محط أنظار العالم، في دلالة واضحة على عمق حضور الشعب الكردي في المعادلة السياسية الإقليمية والدولية.
احتفاء سوري واسع
لعلَّ أحد أبرز ملامح نوروز هذا العام هو المشاركة الشعبية الواسعة من مختلف الشعوب السورية، والتي حملت دلالات كبيرة على التحولات الجذرية التي يشهدها المجتمع السوري بعد سقوط نظام الأسد. فبعد عقود من القمع الممنهج الذي مارسته ضد الاحتفالات بالنوروز، وفرضها قيوداً صارمة وصلت حد حظر أي مظاهر احتفالية، تغيّر المشهد اليوم كلياً، فقد أصبح النوروز مناسبة وطنية جامعة، يجتمع فيها السوريون على اختلاف انتماءاتهم، في تأكيد واضح على قيم التعددية والتعايش، وترسيخ مشترك لمفهوم الحرية بعد أعوام من الاستبداد.
في المناطق الساحلية، حيث يقطن العلويون الذين طالما ارتبطت مصائرهم بالنظام، بدا هذا العام مختلفاً تماماً، إذ شهدت بعض المناطق مشاركة رمزية في احتفالات النوروز، في خطوةٍ تعكس تغيّر المزاج العام، فبعد أن كان العلويون يُصوَّرون ككتلة متماسكة تدين بالولاء المطلق للنظام، بدأت اليوم بوادر وعي جديد تتشكل، حيث أدرك كثيرون أن النظام لم يكن يوماً حامياً لهم، بل استغلهم كأداة لحماية سلطته. هذه المشاركة، ولو كانت رمزية، تُعد إشارة على بداية مرحلة جديدة من الانفتاح على القوميات والشعوب الأخرى، والاعتراف بحقوقها الثقافية والاجتماعية.
أما في السويداء، فقد شهدت احتفالات النوروز هذا العام حضوراً غير مسبوق من أبناء الطائفة الدرزية، الذين كانوا حتى وقت قريب يُنظر إليهم على أنهم بعيدون عن القضايا القومية الكردية، إلا أن السنوات الأخيرة، وما شهدته السويداء من حراك ضد الاستبداد، جعلت أبناءها أكثر انفتاحاً على قضايا الحرية والعدالة، الأمر الذي تجلّى في مشاركتهم العلنية في احتفالات النوروز هذا العام. لم تقتصر المشاركة على الأفراد، بل تعدتها إلى شخصيات فنية واجتماعية بارزة، كان من بينها مازن الناطور، نقيب الفنانين في السويداء، الذي وجّه رسالة تهنئة بهذه المناسبة، مؤكداً أن النوروز ليس مجرد عيد كردي، بل “عيد لكل السوريين الذين يؤمنون بالحرية والكرامة”.
أما في إقليم شمال وشرق سوريا، فقد تميّزت احتفالات النوروز هذا العام بمشهد استثنائي، حيث توافد إلى الساحات أعداد غفيرة من مختلف الشعوب، في أجواء احتفالية مهيبة تعكس روح التلاحم بين الشعوب، لكن ما لفت الأنظار بشكلٍ خاص، هو الحضور اللافت لعدد من الفنانين العرب الذين شاركوا في الاحتفالات، في موقفٍ يعكس تضامنهم مع الشعب الكردي واعترافهم بمكانته في النضال المشترك من أجل الحرية. كان من بين هؤلاء الفنان سميح شقير، الذي يعد أحد أبرز الأصوات المناهضة للديكتاتورية في سوريا، والذي عبّر عن اعتزازه بالمشاركة في النوروز، مؤكداً أن هذا العيد يحمل رسالة مقاومة تتجاوز الحدود القومية.
إن هذا التفاعل الواسع مع النوروز في سوريا، والذي شمل مختلف الشعوب، يؤكد أن الحرية لم تعد مطلباً خاصاً بمجموعة بعينها، بل أصبحت قضية جامعة لكل السوريين الذين يتطلعون إلى بناء وطن يحترم التنوع، ويكرّس العدالة والمساواة.
دمشق تجاهل مستمر
على الرغم من مرور أربعة أشهر فقط على تسلّم حكومة دمشق المؤقتة إدارة شؤون البلاد، إلا أن سياساتها بدأت تكشف عن توجهاتها الحقيقية، لا سيما في ما يتعلق بحقوق الشعوب السوريّة، ففي الوقت الذي شهد فيه عيد النوروز هذا العام احتفاءً واسعاً داخل سوريا وخارجها، اختارت السلطة الجديدة في دمشق أن تلتزم الصمت، متجاهلة هذه المناسبة التي تشكل جزءاً أصيلاً من الهوية الكردية والتاريخ الثقافي لسوريا. لم تصدر أي تهنئة رسمية، ولم يصدر عنها أي موقف يعكس اعترافاً فعلياً بحقوق الشعب الكردي، رغم ادعاءاتها بأنها جاءت لإدارة البلاد وفق نهج ديمقراطي شامل يضمن حقوق جميع الشعوب.
قد يُقال إن السلطة الجديدة لم تُمنح الوقت الكافي بعد لترسيخ سياساتها، لكن التجاهل الصارخ لمناسبة بحجم النوروز لا يمكن أن يكون مجرد تفصيل صغير، بل هو مؤشر واضح على استمرار العقلية الإقصائية التي لطالما حكمت البلاد. فمنذ عقود، كان النوروز مستهدفاً من قبل السلطات الحاكمة، حيث حُرم الكرد من الاحتفال به بحرية، وتعرضوا للقمع كلما حاولوا التعبير عن ثقافتهم. واليوم، ورغم سقوط النظام السابق، يبدو أن السلطة الجديدة لا تزال تسير على النهج نفسه، متجاهلةً المطالب الشعبية والواقع الجديد الذي يفرض نفسه على الأرض.
التناقض في موقف الحكومة السوريّة المؤقتة يزداد وضوحاً عندما ننظر إلى خطاباتها الرسمية التي تدّعي أنها تمثّل جميع السوريين، وتسعى إلى بناء دولة ديمقراطية قائمة على التعددية والاعتراف بحقوق الجميع، فلو كانت هذه الشعارات حقيقة، لكان من المفترض أن يكون هناك تغيير جذري في طريقة التعامل مع المناسبات القومية والثقافية، لكن ما حدث في عيد النوروز يؤكد أن السياسات الإقصائية لا تزال قائمة، وإن تغيّرت الوجوه.
إن غياب التهنئة الرسمية من دمشق لا يعكس فقط تجاهلاً لحق الشعب الكردي في الاحتفال بعيده القومي، بل يرسل أيضاً رسالة سلبية إلى جميع الشعوب السوريّة، مفادها أن هذه الحكومة الجديدة لا تزال عاجزة عن الخروج من عباءة الماضي، وأنها لم تستوعب بعد أن التعددية الثقافية ليست مجرد شعار يُرفع في المؤتمرات، بل هي جوهر أساسي لاستقرار سوريا المستقبل.
نوروز أكثر من مجرد عيد
مع مرور كل عام، يثبت عيد نوروز أنه ليس مجرد مناسبة احتفالية عابرة، بل هو رمز يحمل في طياته دلالات عميقة تتجاوز الفلكلور والتقاليد، ليصبح إعلاناً متجدداً عن التمسك بقيم الحرية والعدالة والمساواة، فإشعال شعلة النوروز لم يكن يوماً مجرد طقس احتفالي، بل كان ولا يزال تعبيراً عن إرادة الشعوب في مقاومة الظلم، وعن تطلعها إلى مستقبل لا تحدّه القيود المفروضة عليها.
هذا العام، جاء النوروز ليؤكد من جديد أن قضيته ليست محصورة في نطاق جغرافي معين، ولا تخص شعباً واحداً فقط، بل بات عيداً عالمياً يجد صداه بين كل من يؤمن بالحرية والكرامة الإنسانية، فقد أصبح الاحتفال به فرصة لتجديد العهد مع القيم التي يقوم عليها، ورسالة واضحة بأن الشعوب التي تناضل من أجل حقوقها، مهما تعرضت للقمع والتجاهل، قادرة على فرض وجودها وإيصال صوتها إلى العالم.