محمد عيسى
لم يكن يوم التاسع عشر من آذار يوماً عادياً في تركيا، بل كان لحظة مفصليّة كشفت الوجه الحقيقيّ للنظام الحاكم، الذي يواصل استهداف كلّ من يقف في طريق بقائه في السلطة. واعتقال أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول، ليس مجرد حادثة قانونيّة، بل حلقة جديدة في مسلسل طويلٍ من القمع والاستبداد.
اعتقال إمام أوغلو جاء بعد إعلان جامعة إسطنبول إلغاء شهادته الجامعيّة، في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات حول التوقيت والدوافع السياسيّة وراء هذا القرار. وفي غضون ساعات، كانت قوات الأمن التركيّة تقتحم منزله وتقتاده إلى جهة غير معلومة، وسط حالة من الغضب الشعبيّ العارم. لم يكن هذا الحدث سوى تأكيد جديد على أنّ الدولة التركيّة، بقيادة أردوغان، لا تؤمن بالديمقراطيّة، ولا تقبل بأيّ صوتٍ معارض، سواء كان كرديّاً أو من التيارات السياسيّة الأخرى.
نهج قمعي يهدد مستقبل تركيا
إذا عدنا بالذاكرة إلى السنوات القليلة الماضية، سنجد أن ما يحدث اليوم في تركيا ليس وليد اللحظة، بل هو استمرار لنهج قمعيّ متأصل في سياسات الدولة التركيّة، التي لم تتوقف عن استهداف القوى السياسيّة المعارضة، سواء كانت كرديّة أو تركية. فمنذ عام 2016 وحتى الآن، شنّ أردوغان حملة شرسة ضد رؤساء البلديات المنتخبين ديمقراطيّاً، خاصة في المناطق ذات الغالبية الكرديّة، حيث تم إقالة العشرات منهم، واستبدالهم بأوصياء موالين لحزب العدالة والتنمية الحاكم، تحت ذرائع واهية تتعلق بـ”محاربة الإرهاب”. لكن في الواقع، كانت هذه الخطوات تهدف إلى سلب الإرادة الشعبيّة، والقضاء على أيّ صوت معارض داخل المؤسسات المحلية، مما حوّل العملية الديمقراطيّة في تركيا إلى مجرد ديكور شكليّ لا يعكس إرادة الناخبين.
ولم تقتصر هذه السياسات القمعية على المناطق الكرديّة فحسب، بل امتدت لاحقاً إلى المدن الكبرى، حيث أصبحت المعارضة التركيّة بأكملها هدفاً لحملة تضييق ممنهجة.
عززت إعادة انتخاب أكرم إمام أوغلو رئيساً لبلدية إسطنبول عام 2024 سمعته كسياسيّ بارز قادر على هزيمة أردوغان في صناديق الاقتراع، وهو ما دفع النظام التركيّ إلى تصعيد استهدافه، إدراكاً لخطورته كخصم سياسيّ محتمل في الانتخابات المقبلة. ومع تصاعد شعبيّته، لم يكن غريباً أن تسعى السلطات التركيّة إلى تهميشه وتحييده، تماماً كما فعلت مع رؤساء البلديات الكرديّة، في محاولة لضمان بقاء حزب العدالة والتنمية مسيطراً على المشهد السياسيّ.
شرارة غضب شعبيّ
لم يكن اعتقال أكرم إمام أوغلو مجرد حادثة فردية، بل كان إعلاناً رسمياً من النظام التركيّ بأن أي تهديد لهيمنته لن يُسمح له بالاستمرار. خطوة كهذه تعكس بشكل واضح أن القمع لم يعد موجهاً فقط ضد الكرد، بل بات يستهدف الأحزاب السياسيّة التقليدية، التي تشكل تهديداً لحكم أردوغان. فبعدما أدرك النظام التركيّ أن خصومه السياسيّين لم يعودوا محصورين في حزب الشعوب الديمقراطيّ، بل امتدوا ليشملوا حزب الشعب الجمهوري وأحزاب المعارضة الأخرى، بدأ باستخدام الأساليب ذاتها التي اعتمدها ضد الحركة السياسيّة الكرديّة: تلفيق الاتهامات، واستهداف الشخصيات البارزة، فرض الوصاية على البلديات المنتخبة، وتشويه سمعة الخصوم بكل الوسائل الممكنة. لكن؛ هذه الخطوة لم تمر مرور الكرام، بل فجّرت موجة من الغضب الشعبيّ اجتاحت مختلف المدن التركيّة، وعلى رأسها إسطنبول وأنقرة. خرجت الجماهير الغاضبة متحديةً القمع الأمنيّ، رغم فرض الحكومة حظراً للتجمعات لمدة أربعة أيام، في مشهد يعكس عمق الاستياء الشعبيّ من سياسات أردوغان الاستبدادية. لم تقتصر الاحتجاجات على أنصار حزب الشعب الجمهوري أو الأحزاب السياسيّة المعارضة، بل امتدت إلى الجامعات والنقابات العمالية، حيث تصدر الشباب والطلبة المشهد في مظاهرات واسعة ذكّرت الجميع بانتفاضة ميدان تقسيم عام 2013، التي كانت إحدى أكبر التحديات التي واجهها النظام التركيّ.
في ظل هذا التصعيد السياسيّ، لم يكن الاقتصاد بمنأى عن الأزمة، بل سرعان ما انعكست التداعيات السياسيّة على الأسواق المالية، حيث سجلت الليرة التركيّة انهياراً حاداً بنسبة 12% أمام الدولار خلال ساعات قليلة، وهو مؤشر خطير يعكس اهتزاز ثقة المستثمرين بالاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ للبلاد. وهذا التراجع ليس مفاجئاً، فتركيا تعاني أصلاً من أزمة اقتصاديّة خانقة، مع ارتفاع معدلات التضخم، وتراجع الاستثمارات الأجنبيّة، وارتفاع نسبة البطالة. ومع استمرار القمع السياسيّ، بات واضحاً أن السياسات التي ينتهجها النظام التركيّ لا تهدد فقط الديمقراطيّة والحريات، بل تدفع البلاد نحو أزمة شاملة قد يكون من الصعب الخروج منها. ومع استمرار هذا النهج القمعيّ، تتزايد المخاوف من أن تركيا لن تشهد فقط مزيداً من التوتر السياسيّ، بل قد تنزلق إلى حالة من عدم الاستقرار الداخلي، يصعب التنبؤ بتداعياتها. فاعتقال إمام أوغلو قد يؤدي إلى تعبئة الشارع المعارض ضد الحكومة، مما قد يشكل تحدياً حقيقيّاً لحزب العدالة والتنمية في الانتخابات القادمة. ويشير محللون إلى أنّ إدانته بعد استكمال التحقيقات، وهو سيناريو مرجح، قد يدفع عدداً كبيراً من الناخبين إلى التصويت لمرشح المعارضة البديل، فيما يشبه تصويتاً عقابيّاً ضد النظام، في إشارة واضحة إلى أنّ القمع لن يكون وسيلة ناجحة لإسكات أصوات المعارضة.
في المحصلة، باتت تركيا تقف عند مفترق طرق خطير. فإما أن تستمر في نهجها السلطويّ، ما قد يؤدّي إلى انفجار داخليّ تصعبُ السيطرة عليه، أو أن تتبنى إصلاحات حقيقيّة تفتح الطريق أمام ديمقراطيّة فعليّة تضمن حقوق جميع الشعوب. لكن؛ وبالنظر إلى سياسات أردوغان القائمة على الإقصاء والتهميش، يبدو أنّ الطريق الذي اختاره هو المضي قدماً في قمعه، وهو مسار يحمل في طياته مخاطر جسيمة على مستقبل تركيا السياسيّ والاقتصاديّ.
انتقادات واسعة للنظام التركيّ
لم تقتصر ردود الفعل الغاضبة على الداخل التركيّ فحسب، بل امتدت سريعاً إلى أوروبا، حيث أعربت العديد من الحكومات والمنظمات الدوليّة عن قلقها العميق إزاء تصعيد القمع السياسيّ في تركيا. فقد وصفت رئيسة المفوضية الأوروبيّة، أورسولا فون دير لاين، اعتقال إمام أوغلو بأنه “مقلق للغاية”، مشيرة إلى أن هذه الخطوة تؤكد مجدداً التراجع الخطير في التزام تركيا بالقيم الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
بدورها، أدانت وزيرة الخارجية الألمانيّة، أنالينا بيربوك، الاعتقال بشدة، معتبرة أنه يشكل “ضربة قاصمة للديمقراطيّة في تركيا”، مشيرة إلى أن تكرار مثل هذه الممارسات يقوّض بشكل خطير فرص تحقيق إصلاح سياسيّ حقيقي في البلاد.
لكن هذه الإدانات الرسميّة لم تكن سوى بداية لموجة واسعة من ردود الفعل الأوروبيّة الغاضبة، إذ بادر رؤساء بلديات كبرى المدن الأوروبيّة، مثل باريس، روما، أمستردام، برشلونة، بروكسل، وهلسنكي، إلى توقيع بيان مشترك يطالب بالإفراج الفوري عن إمام أوغلو. وأكد البيان أنّ ما حدث لا يعدو كونه “انتهاكاً واضحاً وصارخاً للمبادئ الديمقراطيّة”، مع التشديد على أن “تركيا تسير في طريق مقلق نحو السلطوية”. واعتبر الموقعون على البيان أنّ “إمام أوغلو، المنتخب ديمقراطيّاً، يحمل أملاً في مستقبل لتركيا قائم على التعدديّة، والعدالة، وسيادة القانون”، وهو ما يجعل استهدافه بهذا الشكل إشارة واضحة إلى أن الحكومة التركيّة تسعى لإقصاء أي صوت معارض يمكن أن يهدد سلطتها المطلقة.
ولا يقتصر الأمر على رؤساء البلديات فقط، بل شهدت الساحة الأوروبيّة أيضاً تحركات دبلوماسية تهدف إلى الضغط على أنقرة. فقد بدأت بعض الدول الأوروبيّة مناقشة إمكانية فرض عقوبات على مسؤولين أتراك متورطين في حملات القمع السياسيّ، وهو ما قد يزيد من عزلة تركيا دوليّاً. ويبدو أن أنقرة، التي لطالما سعت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبيّ، تجد نفسها اليوم أبعد من أي وقت مضى عن هذا الهدف، بعدما باتت تُعامل كدولة استبدادية تنتهك حقوق الإنسان وتضرب بعرض الحائط مبادئ الديمقراطيّة.
إن هذا التصعيد لا يقتصر على مجرد الإدانة، بل يعكس حقيقة أن الثقة الدوليّة في تركيا تتراجع بشكل متسارع، مما قد يكون له تداعيات خطيرة على علاقاتها مع أوروبا، سواء على الصعيد السياسيّ أو الاقتصاديّ. فالاتحاد الأوروبيّ، الذي كان يشكل الشريك التجاري الأكبر لتركيا، قد يعيد النظر في الكثير من الاتفاقيات والتفاهمات الاقتصاديّة، خاصة إذا استمرت أنقرة في سياساتها القمعية. وبذلك، تبدو تركيا اليوم في مواجهة ليس فقط مع المعارضة الداخلية، بل أيضاً مع المجتمع الدوليّ الذي يرى فيها نظاماً يزداد قمعاً واستبداداً يوماً بعد يوم.
الحل في الديمقراطيّة وحقوق الشعوب
في ظل الأزمات المتفاقمة التي تعصف بتركيا، من القمع السياسيّ إلى التدهور الاقتصاديّ وصولاً إلى العزلة الدوليّة، تبرز الحاجة الملحة إلى حل حقيقي ينهي هذا الانحدار المستمر. لم تكن مبادرة السلام التي أطلقها القائد عبد الله أوجلان في 27 شباط 2025 مجرد خطاب نظري، بل كانت طرحاً جاداً وعملياً لحل الأزمات العميقة التي تعاني منها تركيا، من خلال الاعتراف بحقوق جميع الشعوب التي تعيش داخل حدودها، سواء كانوا كرداً أو أتراكاً أو من باقي الشعوب.
لقد أكد القائد أوجلان في مبادرته أنَّ الحلَّ لا يكمن في القمع والاستبداد، بل في الانتقالِ إلى مرحلةٍ جديدةٍ من النضال، قائمة على التغيير الديمقراطيّ الحقيقي. فالسلامُ لا يتحقق إلا عبر الاعتراف بحقوقِ الشعوب، وضمان العدالة والمساواة بين جميع الشعوب. لكن على مدار العقود الماضية، أثبتتِ الدولة التركيّة أنّها غير قادرة على استيعاب هذه الحقيقة، بل استمرت في سياساتها الإقصائيّة التي لم تؤدِ إلا إلى مزيدٍ من التأزم والصراعات الداخليّة.
إنَّ غيابَ الديمقراطيّة الحقيقيّة هو السبب الجذريّ لجميع الأزمات التي تمر بها تركيا. فالقمع السياسيّ المتمثل في اعتقال رؤساء البلديات الكرديّة، وتكميم الأفواه، والزجّ بالمعارضين في السجون، لم يمنع تصاعد الغضب الشعبيّ، بل زاد من الاحتقان الداخلي. التدهور الاقتصاديّ ليس مجرد نتيجة لسياسات خاطئة، بل هو انعكاس مباشر لغياب العدالة والمساواة، حيث يتم إقصاء قطاعات واسعة من المجتمع، خاصة الكرد والشعوب الأخرى، من المشاركة الحقيقية في صنع القرار. أما العزلة الدوليّة، فهي نتيجة طبيعية لنظام يرفض الإصلاح، ويمعن في القمع، ويغلق أي أفق للحوار الديمقراطيّ.
إذا لم تتجه الدولة التركيّة إلى إصلاحات حقيقية تستند إلى مبادئ الديمقراطيّة والمساواة والعدالة، فإن الأزمات لن تتوقف، بل ستتفاقم حتى تصل إلى نقطة اللاعودة. تركيا اليوم ليست أمام أزمة سياسيّة عابرة، بل أمام اختبار وجوديّ حقيقي: إما أن تفتح الطريق أمام الديمقراطيّة، وتعترف بحقوق الشعوب، وتضمن العدالة للجميع، أو أن تستمر في سياسة القمع والإقصاء، مما سيؤدي في النهاية إلى انفجار داخلي لا يمكن السيطرة عليه.
لقد أثبت التاريخ أن القمع لا يمكن أن يكون حلاً مستداماً، بل هو وصفة للانهيار. وكل محاولة لقمع إرادة الشعوب، كما حدث مع اعتقال أكرم إمام أوغلو وقبله رؤساء البلديات الكرديّة، لن تؤدي إلا إلى زيادة المقاومة الشعبيّة. فالشعوب التي تناضل من أجل حريتها لن تتوقف حتى تحقيق العدالة والمساواة.
إن الحل الحقيقي يكمن في تبني الديمقراطيّة كنظام حكم يضمن حقوق الجميع، ويعترف بالتعدديّة، ويحقق السلام القائم على العدالة. وكما أكد القائد أوجلان، فإن السلام لا يتحقق عبر البنادق والاعتقالات، بل عبر الحوار والانفتاح والاعتراف المتبادل. تركيا أمام خيار مصيري: إما أن تحتضن الديمقراطيّة كطريق للسلام والاستقرار، أو أن تستمر في سياسات القمع، لتواجه مستقبلاً محفوفاً بالمزيد من الأزمات والانهيارات.