رامان آزاد
اشتعل الشارع التركيّ بالمظاهرات وعمّت الاحتجاجات الساحات والشوارع والجامعات في عدة مدن تركيّة إثر اعتقال السلطات التركيّة رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو مساء الأربعاء 19/3/2025، أحد أبرز المنافسين السياسيين في الانتخابات الرئاسيّة لعام 2028، بتهم تتعلق بالفساد والإرهاب، وانتقد حزب المعارضة الرئيسيّ “حزب الشعب الجمهوريّ” اعتقال إمام أوغلو، أبرز المنافسين السياسيين لرئيس النظام التركيّ أردوغان، في خطوةٍ اعتبرها “محاولة انقلاب على الرئيس المقبل”.
ملامح انقلاب جديد
جاء اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو قبل أيام قليلة من الانتخابات التمهيديّة داخل حزب الشعب الجمهوريّ وتسميته رسميّاً مرشحاً للحزب، وكان يُنظر إلى إمام أوغلو كمرشح محتمل لانتخابات الرئاسة المقبلة، وسبق الاعتقال إعلان جامعة إسطنبول الثلاثاء إلغاء شهادة إمام أوغلو الجامعية، ما قد يمنعه من الترشح للرئاسة، ومن شأن الخطوة عرقلة ترشح إمام أوغلو في انتخابات الرئاسة المقررة في 2028، إذ ينص الدستور التركيّ على وجوب أن يكون أي مرشح رئاسي حائزاً على شهادة تعليم عالي.
لكن الحديثَ عن تزويرٍ في الشهادة الجامعيّة لأكرم إمام أوغلو مجرد ذريعة، لأنّه حصل على الشهادة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وهي مدة طويلة وكان يفترض تجاوزُ القصةِ قبل ترشحه في الانتخابات البلديّة التي جرت في آذار 2019، كما أنّ جانباً من المسألةِ يتعلق بالنظام التعليميّ وتحكم السلطاتِ السياسيّة به وقدرتها على سحبِ الشهادات من أيّ شخصٍ لإزاحته أو تصفيته سياسيّاً.
مساء الأربعاء، ورغم البرد القارس، تجمّع عدة آلاف أمام مبنى بلدية إسطنبول رافعين الأعلام التركيّة. ورددت الحشود شعارات مناهضة للحكومة، هاتفين “أردوغان ديكتاتور” و”إسطنبول في الشوارع، لصوص في القصر” و”إمام أوغلو، لست وحدك”.
وشهدت المظاهرات هتافات تطالب أردوغان بالاستقالة، ووفق وكالة فرانس برس وهتف الآلاف معظمهم من طلاب الجامعات، “استقل” متوجهين لأردوغان، فيما طرق المتظاهرون على الأواني في مناطق عدة وأطلقت السيارات أبواقها تضامناً مع الاحتجاجات، وخرجت الماهرات رغم حظر التجمعات لأربعة أيام.
تركيا دولة الشخص الواحد، واعتقال أكرم إمام أوغلو عمدة إسطنبول، جاء وفق خطة مدروسة، يراد بها أن تكون أكبر من قصة انقلاب 15/7/2016، والمسألة لا تتعلق بشخصٍ بل الإطاحة بملايين أصوات الناخبين الذين صوّتوا لصالح إمام أوغلو رؤساء بلديات آخرين، والتهم الموجهة معلّبة وجاهزة!
استهداف حزب الشعب
وفي أول تعليق له على الاحتجاز، رفض أردوغان انتقادات المعارضة ووصفها بأنها “مسرحيات” و”شعارات” لا وقت لها في البلاد.
وقال أردوغان الجمعة: إنّ تركيا لن تتسامح مع أي تهديد للنظام العام وتعهّد بالوقوف بحزم ضد أعمال التخريب والعنف في الشوارع، وسط تصاعد الاحتجاجات على اعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وصدامات مع الشرطة شهدتها مدينتي إسطنبول وإزمير، وأضاف في خطاب خلال فعاليّة بمناسبة عيد “النيروز” في إسطنبول “لن نسمح بالإخلال بالنظام العام ولن نستسلم للتخريب أو الإرهاب في الشوارع”، وأردف “نقول لمثيري الشغب: إنّنا لن نسمح للسارقين بإثارة الفوضى”، وأكد أنّ دعوة زعيم حزب الشعب الجمهوريّ المعارض أوزغور أوزيل “للنزول إلى الشوارع بدلاً من الاحتكام للقضاء خطأ وعدم مسؤولية” وسط حظر على التجمعات العامة فرضته الحكومة لمدة أربعة أيام.
ما يحدث اليوم يتجاوز الإطاحة بمرشح شرس يحظى بشعبيّة كبيرةٍ، ومعلوم أنّ من يفوز ببلدية إسطنبول يفوز بتركيا كلها، وبذلك فما يحدث هو معركة الإطاحة بحزب الشعب الجمهوريّ بكل تاريخه ورموزه.
أردوغان ليس في وارد الاستسلام بل إنّه حضّر لمعركة البقاء بالقوة، وبدأ بإزاحة أحد أقوى الأحزاب التركيّة، وهنا يمكن فهم سبب فتور الموقف الحكوميّ إزاء مبادرة دولت بهجلي للسلام مع الكرد، واعتقال عدد من رؤساء البلدية الكرد، ومواصلة القصف في سوريا. ومع خبر اعتقال علي أصلان أوزون، رئيس جمعية “يشيلكنت” العلويّة في إسطنبول. يتضح حجم المعركة المدارة!
أردوغان السلطان معروف باللعب على شفير الهاوية، ويدفع الوضع في البلاد إلى أقصى درجات الخطورة ليضع الناخب التركيّ أمام خيارين: إما الفوضى أو التصويت لصالح الحزب الحاكم! أيّ أنّ الانتخابات هي اللعبة المفضلة، فهو يصنع بعناية بيئة الانتخابات البرلمانيّة أو البلديّة، وأيّاً كانت النتيجة فإنّه يعتقل الفائزين بالانتخابات سواء كانوا نواباً بالبرلمان أو رؤساء بلديات، ويطيح بنتائج الانتخابات لاحقاً!
الصرخات في الشوارع لا يعوّل عليها لإنجاز التغيير في تركيا، والمؤسسة العسكريّة قد تمَّ تقليمُ أظافرها منذ الانقلاب المزعوم في 15/7/2016. ولا يمكن لجنرالاتٍ الجيشِ إعلان الانضمام للحراك المعارض أو دعمه ما لم يحصلوا على ضمانات بالدعم الخارجيّ وتحديداً من واشنطن. والرهان على التظاهر لإحداث التغيير ضعيفٌ، إلا بمشاركة واسعة تتجاوز حزب الشعب الجمهوريّ إلى كلّ أحزاب المعارضة، والتي سبق أن ثبت ضعف تنسيقها في الانتخاباتِ الرئاسيّة عام 2024. وفقط إن حدث وتوسعت دائرة التظاهر، فإنّ خيار استخدام العنف وقمع التظاهر ستكون خطيئة أردوغان القاتلة ويبدأ بعدها العد التنازليّ!
دعوات لاستمرار الاحتجاجات
تواصلت الاحتجاجات في تركيا بعد توقيف رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو بشبهة الفساد والإرهاب، وتجمَّع الآلاف أمام مبنى بلدية إسطنبول في ظل إجراءات أمنيّة مشددة، وأطلقت شرطة مكافحة الشغب التركيّة الغاز المسيّل للدموع والرصاص المطاطيّ بعد محاولة بعض المحتجين عبور حواجز وضعتها الشرطة، واشتبك بعض المتظاهرين مع الشرطة في أنقرة وإزمير وإسطنبول، بما في ذلك في الجامعات، وذلك رغم الحظر المفروض على التجمعات في الشوارع.
وحذّر أوزغور أوزيل، زعيم حزب الشعب الجمهوريّ، الشرطة من استفزاز المتظاهرين. وقال “لا أريد رؤية الرصاص المطاطي هنا، وإلَّا ستتحمل شرطة إسطنبول مسؤولية ما يحدث”. وأضاف أوزيل “رئيس البلدية أكرم ليس متورطاً في الفساد ولا في الإرهاب. إنه ليس لصاً ولا إرهابياً”، محذّراً الرئيس رجب طيب أردوغان من أن الاحتجاجات لن تتوقف. وتابع موجهاً خطابه لأردوغان “لم أملأ هذه الساحة وهذه الشوارع، أنت من فعل ذلك، إنها مليئة بفضلك”.
فيما دعا إمام أوغلو من داخل مكان احتجازه الشعب والقضاء إلى اتخاذ موقف ضد تحرك الحكومة لإسكات المعارضة، في رسالة نقلها فريق الدفاع، وقال إمام أوغلو “نحن كأمة يجب علينا الوقوف والتحرك ضد أولئك الذين يدمرون القضاء”. وأضاف “لا يمكنكم ولا ينبغي عليكم البقاء صامتين”.
وندد حزب الشعب الجمهوريّ، حزب المعارضة الرئيسي في البرلمان، بتوقيف إمام أوغلو، واصفاً ما حدث “بالانقلاب السياسي”، بينما قال أوزيل “إن جريمة إمام أوغلو الوحيدة هي تصدُّر استطلاعات الرأي”. ودعا حزبه إلى مزيد من الاحتجاجات في أكبر مدينة تركيّة، ووصفت المعارضة ما حدث بمحاولة “انقلاب” على الرئيس المقبل.
ووقعت اشتباكات عنيفة بين قوات الأمن والمتظاهرين أمام حاجز بوزدوغان في إسطنبول، وحاولت الشرطة منع المظاهرات من الوصول إلى ميدان تقسيم قلب المدينة، ووصولها إليها يعني مزيداً من التصعيد الاحتجاجيّ. وسبق أن شهدت ساحة تقسيم وحديقة غيزي، احتجاجات جماهيرية حاشدة قبل أكثر من عقد. فيما لا يزال الوصول للإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مقيَّداً إلى حدٍ كبير.
حملة اعتقالات وتشويش إعلاميّ
وصرّحت الحكومة التركيّة الخميس أنّ السلطات اعتقلت 37 متهماً بنشر منشورات “استفزازيّة” فيما يتعلق باعتقال رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، في مسعى لقمع الاحتجاجات، وأغلقت عدداً من الطرق وقيّدت الوصول إلى بعض وسائل التواصل الافتراضي بالإضافة إلى حظر الاحتجاجات.
وقال وزير الداخلية علي يرلي كايا على منصة إكس إنّ السلطات التركيّة حددت 261 حساباً على مواقع التواصل الافتراضي منها 62 في الخارج كتبت “منشورات استفزازية”، وأشار إلى مواصلة تعقب باقي المشتبه بهم، وأضاف كايا أنّ منصة إكس شهدت مشاركة 18.6 مليون منشور عن إمام أوغلو في أقل من 24 ساعة من اعتقاله، ويشكّل موظفو بلدية إسطنبول الجزء الأكبر من الأشخاص الذين اعتُقلوا مع إمام أوغلو، وعددهم 105.
كما أقيل نقيب محامي إسطنبول إبراهيم كابوغلو وهو نائب سابق من حزب الشعب الجمهوريّ، وأعضاء مجلس النقابة الملاحقين بتهمة “الدعاية الإرهابيّة” و”نشر معلومات خاطئة” من مناصبهم الجمعة بموجب قرار قضائيّ، ويأخذ عليهم القضاء التركيّ مطالبتهم بتحقيق حول استشهاد صحفيين كرديين نهاية كانون الأول 2024، باستهداف مسيّرة تركيّة، شمال وشرق سوريا حيث يستمر تصدي قوات سوريا الديمقراطية لهجمات مرتزقة الاحتلال التركيّ.
وقال كابوغلو بعد خروجه من محكمة تشاغليان في إسطنبول “إنّه يوم أسود، ولعلّنا قد شهدنا في كنف قصر العدل هذا انهيار النظام القضائيّ” التركيّ، وقال رئيس اتحاد نقابات المحامين في تركيا أرينتش صاغكان “لا أحد له سلطة إسكات نقابات المحامين”، ووصفه بالقرار المشين.
روّجت حسابات على مواقع التواصل الافتراضي مقطعاً مصوراً قالت إنّه لمظاهرة مليونيّة احتجاجيّة في تركيا بعد اعتقال رئيس بلدية إسطنبول. وحظي المقطع بمئات آلاف المشاهدات، وتم التعليق عليه بعبارات من قبيل “هذه الصور لن تنشرها قناة الجزيرة… ولا أذرع الإخوان ولا إعلام أردوغان.. لن تنشر عن هذه الجماهير المليونيّة التي ثارت ضد أردوغان اليوم ومازالت في جميع أنحاء مدن تركيا”.
ويبدو أنّ السلطات التركيّة هي التي تقف وراء ترويج المقطع للتشكيك بمصداقيّة التظاهر والتشويش الإعلاميّ، إذ تبيّن المقطع لا صلة له بالاحتجاجات في تركيا، ويرتبط بتظاهرات حدثت في صربيا قبل نحو أسبوع، والمقطع المتداول لمظاهرة خرجت في 15/3/2025، بعد احتجاجات استمرت أشهراً ضد الرئيس الصربيّ للرئيس ألكسندر فوتشيتش في بلغراد، ضمن حراك مناهض للفساد، بعد حادثة انهيار مظلة خرسانيّة في محطة قطار مدينة نوفي ساد في تشرين الثاني 2024.
إسطنبول ثقل انتخابيّ
المعروف في تركيا أنّ الفائز ببلدية إسطنبول يمكنه الفوز بالانتخابات التركيّة، فالمدينة التي يتجاوز عدد سكانها 15 مليوناً تعدُّ خزاناً انتخابيّاً يحدد مصير أيّ انتخابات. وكانت فيما مضى منطلق أردوغان ليصل إلى أنقرة، وثمة تقاطعات تفصيليّة بين أردوغان وأكرم إمام أوغلو.
واستغل أردوغان رئاسته لبلدية إسطنبول في التسعينياتِ لإقناعِ الناخبين بقدرته على إدارةِ تركيا بكفاءةٍ، وخلق إمام أوغلو السمعة نفسها، وهو يتمتع بشعبيّة كبيرة، وبارع في جذب الدعم، حتى من الحواضن التقليديّة المؤيدة لأردوغان ما يجعله تهديداً كبيراً لأردوغان فقرر الانقلاب عليه في ضربة استباقيّة.
في 31/3/2019، خاض إمام أوغلو انتخابات رئاسة بلدية إسطنبول الكبرى كمرشح عن حزب الشعب الجمهوريّ، ورغم المنافسة الشرسة مقابل بن علي يلدريم مرشح حزب العدالة والتنمية الحاكم، فقد فاز بالانتخابات بفارق ضئيل. وأُلغيت نتائج الانتخابات، وأُعيدت في 23/6/2019، وحقق إمام أوغلو فوزاً كاسحاً، ليكون أول رئيس بلدية معارض لأردوغان في إسطنبول منذ عام 1994.
ومدد أردوغان حكمه لعقدٍ ثالث بعد فوزه في انتخابات رئاسيّة حاسمة عام ٢٠٢٣، وضمِن بذلك ولاية ثانية لكن حزبه فشل في استعادة مدينة إسطنبول، وبقيت بيد حزب الشعب الجمهوريّ المعارض الرئيسي. وفي انتخابات البلدية في 31/3/٢٠٢٤، جدد إمام أوغلو فوزه بنسبة ٥١.١٤٪ من الأصوات، وتغلب على مراد كوروم مرشح أردوغان الذي كان عازماً على استعادة المدينة وقام بجولة في عدة مدن وعقد مهرجانات انتخابيّة لدعم مرشحه. فيما عزز إمام أوغلو بفوزه مكانته كقوةٍ صاعدةٍ في السياسة التركيّة، وبذلك لأصبح منافساً محتملاً في الانتخابات الرئاسيّة.
أكثر من حسابات انتخابيّة
تركيا هي دولة الفرد، والحاكم المطلق الذي يتحكم بكل مفاصل الدولة، ويعمل على تهيئة الأسباب لتوريث السلطة في عائلته. وفي منحى آخر المطلوب إزاحة شخص أتاتورك من الذاكرة التركيّة كمؤسس للدولة وأبٍ للأتراك وتجاوزه!
يسعى أردوغان إلى تمديد حكمه لولاية ثالثة. ووفقاً للدستور، يُسمح للرؤساء بالترشح لفترتين فقط، وللالتفاف على هذه القاعدة، يتعين عليه تعديل الدستور أو الدعوة إلى انتخابات مبكرة، وسبق أن عدّل أردوغان الدستور في استفتاء 2017، وحوّل نظام الحكم من برلمانيّ إلى رئاسيّ، بصلاحيات واسعة للرئيس، والدعوة لانتخابات مبكرة، تمنحه خمس سنوات أخرى على الأقل بالحكم، إذ ستكون ولايته الثانية غير مكتملة، وللترشح للرئاسة في انتخابات مبكرة، سيتعين على البرلمان اتخاذ القرار، وفقاً للمادة 116 من الدستور.
ويتطلب تعديل الدستور تصويت أغلبية ثلثي البرلمان، وبذلك؛ فإنّ تغيير الدستور يحتاج دعم حزب الشعب الجمهوريّ، ثاني أكبر حزب في البرلمان ولديه أكثر من 130 عضواً بعد حزب العدالة والتنمية الحاكم، الذي يحتجز أكثر من 270 مقعداً.
وأردوغان قد يُخطئ في حساباته، فاعتقال الخصم الرئيسيّ قد لا يفيده، ولعله يعزز، من حيث لا يريد موقف خصمه السياسيّ ويجعل من إمام أوغلو بطلاً سياسيّاً، تماماً كما حدث باعتقال أردوغان ١٩٩٩.
تركيا في عهد أردوغان تنتقل من “نظام استبداديّ مفتوح إلى نظام استبداديّ كامل” وفق النموذج الروسيّ والبيلاروسيّ، ويبدو أنّ التخطيط بدأ الخريف الماضي، ومن غير الواضح بعد فيما إذا كانت المعارضة ستتمكن من الصمود في هذا المسار، إلا أنّ إمام أوغلو لن يتراجع.
في كلّ دول العالم يكون الانقلاب على السلطة للإطاحة بها، إلا في تركيا، فالسلطة تدبر الانقلاب على الشعب، وتستثمر ذلك للبقاء.