دجوار أحمد آغا
بعد أن تعرّفنا على حقيقة وصول الأتراك إلى الأناضول، وكذلك تأسيس حزب العمال الكردستاني، وبروز الصراع بين الطرفين على خلفية الأحداث الدامية التي شهدتها المنطقة، وخاصة انقلاب 12 أيلول 1980 الدامي.
نتطرّق في هذا الجزء إلى النداءات والمبادرات التي طرحها القائد عبد الله أوجلان، من أجل السلام لوقف إطلاق النار، بالإضافة إلى مسار مفاوضات عملية السلام، التي جرت خلال منتصف الربع الأول من القرن الحالي، هذه المفاوضات التي وصلت إلى مرحلة متقدّمة للوصول إلى الحل، لكن السلطات الحاكمة تنكّرت لها، وأدارت ظهرها لعملية السلام، وعادت إلى سياسة الحرب والقتل والدمار.
وقف إطلاق النار وموقف الدولة التركية
البدء بمرحلة السلام من موقع قوة، وليس ضعفاً مهم جداً، وهذا ما قام به القائد عبد الله أوجلان، كان ذلك عام 1993، حينما كلّف الرئيس التركي، توركوت أوزال، رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني، جلال الطالباني، بالتوسط بينه وبين القائد عبد الله أوجلان، من أجل وقف القتال والعمل لإيجاد حل سياسي للقضية الكردية.
وافق القائد عبدالله أوجلان ببدء مرحلة سلام، وأعلن من خلال مؤتمر صحفي مشترك مع الطالباني، وكمال بورقاي، سكرتير الحزب الاشتراكي الكردستاني، وقفاً للقتال من طرف واحد لمدة شهر في 17 آذار 1993، ثم قام بتمديد وقف إطلاق النار، لأجل غير مسمّى في مسعى منه لإعطاء الرئيس التركي، توركوت أوزال فرصة أكبر للعمل على الحوار السياسي والتفاوض السلمي، وعلى الرغم من إفشال مبادرة أوزال للسلام، إلا أن القائد عبد الله أوجلان، أعلن وقفاً جديداً لإطلاق النار من طرف واحد في 24 كانون الأول 1995 من أجل أن تمضي الانتخابات البرلمانية بهدوء.
الدولة التركية وتحديداً، الدولة العميقة، لم تكن تريد أن يتم حل القضية الكردية بشكل سلمي، فهي تريد استمرار الحرب؛ لأنها تجد فائدتها في ذلك. لذا؛ قامت بالتنسيق مع عملائها ضمن صفوف حزب العمال الكردستاني، وخاصة الخائن شمدين صاقق “زكي”، حيث أعطوه إحداثيات باص فيه جنود أتراك للهجوم عليهم، وبالتالي اتهام الحزب بخرق الهدنة وإفشال المبادرة.
ومن جهة أخرى قاموا بتسميم رئيس الجمهورية الأسبق، توركوت أوزال، الذي تجرأ على طرح الحل السياسي والعمل من أجل البدء بمفاوضات مع القائد عبد الله أوجلان، كما قامت عناصر هذه الدولة العميقة بتفجير طائرة الهيلوكوبتر، التي كانت تقلّ الجنرال أشرف بدليسي، قائد قوات الجندرمة المؤيد لمبادرة أوزال، في مفاوضات أوسلوا، واتهموا جماعة “فتح الله غولن” في فشلها.
مؤامرة التاسع من تشرين الأول 1998
شاركت الدولة التركية بشكل فعّال في المؤامرة الكونية، ضد القائد والمفكر الكبير عبد الله أوجلان، من خلال الضغط على سوريا، من أجل خروجه، وحشد الجيش التركي على الحدود والتلويح بالحرب، الأمر الذي دفعه للخروج من سوريا، وساحة الشرق الأوسط لتجنيبها ويلات الحرب. لكن؛ كان لدولة الاحتلال التركي وقوى الهيمنة العالمية مخطط خبيث، حيث قاموا مجتمعين بحبك خيوط مؤامرة دولية، شاركت فيها قوى من الماسونية العالمية، والصهيونية، إلى جانب أجهزة استخبارات عالمية (CIA الأمريكية، والموساد الإسرائيلي، وMIT التركي، وEYB اليونانية، والمخابرات الروسية، والمخابرات الكينية، وSIS البريطانية، وغيرها)، هذه المؤامرات التي بدأت في التاسع من تشرين الأول 1998، بخروجه من سوريا، وتواصلت عبر الرحلة بين أثينا، وموسكو، وروما، وانتهت المرحلة الأولى منها في 15 شباط 1999 عبر عملية قرصنة، ليتم خطفه من العاصمة الكينية نيروبي، وتسليمه إلى حكومة بولنت أجاويد في أنقرة.
رغم المؤامرة الكونية بحق القائد عبد الله أوجلان، واختطافه، إلا أنه أبدى رغبة كبيرة في السلام وحل الصراع القائم بين الطرفين بشكل سلمي، منطلقاً في ذلك من رؤيته للخطر الكبير الذي يحدق بشعوب المنطقة.
القائد عبد الله أوجلان، له رؤية واقعية للأحداث، وتحليل عميق لأسباب حدوثها، وكيفية إيجاد الحلول المناسبة لها. لذا؛ نراها ومنذ اللحظة الأولى، قد طرح مسألة الحل السلمي، والعيش المشترك، بين الشعبين الكردي والتركي، ضمن إطار جمهورية ديمقراطية حقيقية.
وبالفعل وجّه نداء للسلام وأمر بإرسال وفود من الكريلا إلى تركيا، تعبيراً عن حقيقة الرغبة في السلام، كما أن العديد من قادة حزب العمال الكردستاني، التقوا مع رئيس جهاز الاستخبارات التركية حينها، “حقان فيدان”، ممثل رئيس الوزراء التركي أردوغان، في العاصمة النرويجية أوسلو، في محادثات من أجل السلام استمرت لأكثر من سنتين 2010 ـ 2011، لكنها باءت بالفشل.
مفاوضات السلام بين عامي 2012 و2015
لعل أبرز وأهم المفاوضات التي جرت بين القائد عبد الله أوجلان، والدولة التركية، هي تلك التي بدأت في أواخر 2012 واستمرت حتى 2015، السبب الرئيسي وراء بدء تلك المفاوضات حاجة السلطات التركية الحاكمة إلى تغيير في الوضع الداخلي، خاصة مع تقلّص نفوذ الحزب الحاكم (العدالة والتنمية)، في مناطق باكور كردستان. لذا؛ لجأت كالعادة إلى فتح حوار وبدء مفاوضات معه، حيث أوفدت مرة أخرى رئيس جهاز استخباراتها “حقان فيدان” إلى إمرالي، أواخر عام 2012 وبدأت عملية المفاوضات وفق مسار السلام.
نوروز 2013، كان استثنائياً، حيث تم قراءة رسالة القائد عبد الله أوجلان، في نوروز آمد، أمام ما يقرب من مليونيّ شخص، وبتاريخ 28 شباط 2015، وبعد مفاوضات معقّدة، شاركت فيها منظومة المجتمع الكردستاني، وحزب الشعوب الديمقراطي، توصل الطرفان إلى اتفاق من عشر نقاط سُمّي باتفاق “دولمة بخجة”، نسبة إلى القصر التاريخي دولمة بخجة، حيث كانت من المفترض التوقيع في القصر.
جرت الانتخابات البرلمانية في السابع من حزيران 2015، وفاز حزب الشعوب الديمقراطية بنسبة كبيرة جداً في معظم مناطق باكور كردستان، حيث حقق انتصاراً كاسحاً واستطاع أن يتجاوز حاجز ال 10%، واستطاع إيصال 81 نائباً ونائبة إلى البرلمان التركي، وأصبح بالتالي ثالث كتلة برلمانية على مستوى عموم تركيا، حدث هذا الانتصار في ظل تراجع نفوذ حزب العدالة والتنمية الحاكم في المنطقة، الأمر الذي دفع بالسلطات التركية إلى السعي لخلق مشكلات من أجل إعادة إجراء الانتخابات.
العشرون من تموز من العام نفسه، كان يوماً دامياً، فقد نفّذ عملاء الاستخبارات التركية عملية تفجير في منطقة سروج المتاخمة لحدود المدينة الكردية كوباني، في روج آفا، التي كانت تتعرض لهجوم وحشي من مرتزقة “داعش” الإرهابي، التفجير جرى بحق تجمّع من الشبان والشابات الذين قدموا من مختلف مناطق تركيا وباكور كردستان، دعماً لمقاومة كوباني، وسقط فيها 32 شهيداً بالإضافة إلى إصابة 100 آخرين، استغلت السلطات الحادثة وبدأت في 25 من الشهر نفسه بقصف مدن جزيرة، سلوبي، وسورآمد، وميردين، ونصيبين، بالمدفعية والدبابات، وارتكبت مجازر بحق الأهالي، لم تكتفِ بذلك بل قامت بإعادة اجراء الانتخابات البرلمانية في الأول من تشرين الثاني، لمنع الكرد من التمثيل البرلماني، لكن الكرد نجحوا رغم ذلك، وأوصلوا 31 نائباً للبرلمان.
ردة فعل الدولة التركية وتشديد العزلة
انهارت المفاوضات، وبدأت السلطات التركية مرة أخرى بهجمات وحشية ضد الشعب الكردي، الذي انتفض في العديد من المدن، ضد هذه السياسة القائمة على الإنكار والإبادة، كانت ردّة فعل الدولة شديدة وعنيفة جداً، حيث قامت بالدرجة الأولى بتشديد العزلة على القائد عبد الله أوجلان، ومنع هيئة المحامين وعائلته من زيارته تحت حجة فرض “عقوبات انضباطية” بحقه، وجميعنا يعلم مدى انضباطه والتزامه الصارم بالنظام، وهذا ما يؤكّد أن السلطات الحاكمة قررت المضي قدماً في ممارسة سياسة القمع والحسم العسكري.
لم يقبل الشعب هذه السياسة، وأصبح أردوغان في وضع لا يُحسد عليه، الأمر الذي دفع به إلى حبك خيوط مسرحية تحت اسم محاولة انقلاب في 15 تموز 2016، وقامت الأجهزة القمعية التابعة له، بعمليات تصفية من خلال اعتقال عشرات الآلاف، من مختلف دوائر وأجهزة ومؤسسات الدولة، الأمنية، والإدارية، والقضائية، بحيث أصبحت الدولة بكامل مؤسساتها على مقاس السلطات الحاكمة، والمثال الأبرز على ذلك، تحويل نظام الحكم في تركيا من برلماني إلى رئاسي، حيث أصبحت مقاليد الحكم جميعها في يد رئيس الجمهورية، بعدما كانت في يد رئيس الوزراء، وتحت المساءلة البرلمانية.