حمزة حرب
شهدت الثورة السوريّة منذ انطلاقتها المدوية في آذار 2011، أحداثاً مفصليّة وأياماً كان لها وقعها على مجرياتها ومسارها السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ، المظاهرات السوريّة بأنحاء البلاد كلها، منادية بإسقاط نظام بشار الأسد بكافة رموزه، الذي ردَّ بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين ونشر جيشه وقواته في الطرقات، وحاصر المدن وبدأ بدكّها على رؤوس سكانيها، ما فجّر واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في القرن المعاصر.
إذ ارتقى الآلاف إلى الشهادة، وعجّتِ المعتقلاتُ بالسوريّين وازدحمت سبلُ الهجرة الى الخارج ليتحول الملايين من السوريّين إلى نازحين داخل بلدهم أو لاجئين في شتّى أنحاء العالم، وكلّ هذه المعاناة رافقها حلم أن ينالوا بنهاية المطاف ما يتمنونه بتغيّر واقعهم ومستقبل بلدهم بشكل نهائيّ، دون نظام الأسد وميليشياته الذين سقطوا في الثامن من كانون الأول 2024.
سلميّة الثورة السوريّة
“سلمية.. سلمية” كلمة يذكرها السوريّون من شرقها لغربها ومن شمالها لجنوبها وكانت تعني حينها أن التظاهرة سلميّة فقط للتعبير عن الرأي والمطالب الشعبيّة المحقّة، واقتصرت حينها على إلغاء قانون الطوارئ وبعض التعديلات، إلا أنّ هذه الكلمة لم تكن لتشفع للسوريين جرأتهم ونزولهم للشارع للتعبير عن رأيهم في مملكةِ الرعبِ التي بنى نظام البعث جدرانها طيلة 50 عاماً.
فمنذ الصرخة الأولى التي نادت بحرّية السوريّين في 15 آذار 2011 وما تلاها من مظاهرات شعبيّة عفويّة سلمية، شُكّلت واحدة من أكثر الثورات السياسيّة في العالم انتشاراً على الجغرافيا التي وقعت عليها، ترفع هدفاً أساسياً يعمل على إنهاءِ مسلسل القمع والفساد، وتنهي عقوداً من البطش والديكتاتورية والاستبداد.
ومع أن التظاهرات السلمية بدت تأخذ زخم الانتشار لكنها كانت متفرقة جغرافياً لتكون الجمعة الأولى بعد اندلاع التظاهرات وتحديداً في 18 آذار 2011 فاتحة الثورة السوريّة بعد مظاهرات في دمشق، ودرعا، وبانياس، ودوما، وحمص، خرجت دون أي تنسيق فيما بينها وهذا ما شكل لحظة فارقة من عمر الثورة السوريّة.
ونقطة التحول كانت في درعا عندما واجه المتظاهرون في اليوم ذاته الرصاص الحي بصدورٍ عارية، ما تسبّب في مقتل محمود قطيش الجوابرة، ليسجّل في تاريخ الذاكرة السوريّة أول شهداء الثورة السلمية المدنية، حينها صدحت حناجر المتظاهرين في الساحة ولأول مرة “يلي بيقتل شعبو خاين” ليلقى أيضاً في اليوم ذاته المتظاهر حسام عياش حتفه، وكانوا فاتحة لمسلسلٍ طويل من السوريّين الذين فقدوا حياتهم فيما بعد بساحات التظاهر.
بنهاية أيار 2011، شيّعت بلدة الجيزة بريف درعا طفلها حمزة الخطيب الذي قتل تحت التعذيب في مشهدٍ مرعب، وقد حُوِّل لأشهر أطفال الثورة السوريّة، والذي رُفعت صوره في معظم المظاهرات في عموم المحافظات والمدن السوريّة وحمزة كان من جملة الأطفال الذين كتبوا على جدران مدارس درعا “إجاك الدور يا دكتور”.
فمنذ اللحظة الأولى يؤكد شهود ومتابعون أن النظام السابق حاول وأد الثورة وجابهها بالرصاص الحي، واستخدم أشنع وأبشع الأساليب لإذلال وإركاع السوريّين بالاعتقال والتعذيب والقتل المباشر والمتعمد لهم لترهيبهم لكن كان غضب السوريّين ككتلة الثلج المتحرجة كبرت يوماً بعد آخر.
عسكرة الثورة
بمرور الوقت والسوريّون يجابهون الرصاص الحي إما بصدورٍ عارية وفي أفضل الأحوال بالحجارة، إن توفرت في أماكن تظاهرهم وكانوا يدركون أن ما أسس له والد الرئيس السابق بشار الأسد، حافظ الأسد طيلة فترة حكمه الممتدة لنحو 30 عاماً جيشاً عقائدياً طائفياً قومويّاً من الصعب تفكيك تركيبته، فعندما بدت الجيوش العربيّة مساندة لشعوبها في بعض الدول العربيّة، كان جيش بشار الأسد يطلق الرصاص الحي على المتظاهرين، ما دفع بعض الجنود والضباط للانشقاق عنه، في خطوةٍ حملت أبعاداً مهمة في أحداث الثورة السوريّة.
كان المجنّد وليد القشعمي من الحرس الجمهوري في قيادة قاسيون، من أوائل الذين انشقّوا عن الجيش النظاميّ، بتسجيل مصور بُثَّ على الانترنت بشكلٍ متواضع جداً حينها لم يكن هناك تقنيات عالية للتصوير فقط لإثبات حالة الانشقاق وذلك يوم 23 نيسان 2011.
تتالت الانشقاقات بعد ذلك برتب مختلفة، ليشكل انشقاق الملازم أول عبد الرزاق طلاس، في السابع من حزيران 2011 دافعاً قوياً لضباط آخرين وهو ما حدث مع المقدم حسين هرموش، الذي ظهر في مقطع مصور موضحاً أنّ سبب انشقاقه هو “قتل أجهزة النظام المدنيين العزل”. وليؤسس الهرموش بعدها حركة لواء الضباط الأحرار، موجّهاً نداءً إلى ضباط الجيش وجنوده للانشقاق عن النظام والالتحاق بحركته في مرحلة مبكرة من عمر الثورة، وحينها دفع النظام السابق بالثورة دفعاً للعسكرة والدفاع عن نفسها، إلا أنّ هذه العسكرة المبكرة وأدتها استخبارات الاحتلال التركيّ التي ساهمت باعتقال الهرموش داخل أراضيها، وتسليمه لمخابرات النظام في عملية أمنيّة معقدة مع 13 ضابطاً وصف ضابط آخرين منشقين، ليختفي الهرموش منذ ذلك الوقت، ولم يتم تأكيد إن كان حياً أو ميتاً.
واستمر مسلسل العنف ويتسع باطراد بمرور الوقت، وليتفاقم حجمه ويزداد القتل من نظام بشار الأسد ضد السوريين، وبعد تلك الممارسات واقتحام جيش النظام المدن بالدبابات والآليات الثقيلة، أعلن العقيد رياض الأسعد المنشق عن النظام السوريّ، تشكيل “الجيش السوريّ الحر” في الثالث من آب 2011، وزاد عدد المنشقين في عموم سوريا.
وكان تشكيل الجيش السوريّ الحر منطلقاً أساسيّاً لتحول الثورة نحو العسكرة، بعد نحو ستة أشهر من اندلاعها، وإن كان هدفه الأول حماية المتظاهرين ومنع اقتحام المدن، إلا أنّ ارتفاع عدد المنشقين والمتطوعين دفع بالجيش السوريّ الحر لتنفيذ هجمات ضد النظام، وسُجّل أولها في حرستا بريف دمشق ضد مقرّ المخابرات الجوية بتاريخ 16 تشرين الثاني 2011.
أدرك النظام السوريّ حينها، أنّ الأمور بدت تنزلق وربما تأخذ أطراً مغايرة لتوقعاته فعمد إلى إطلاق سراح عناصر راديكاليّة من معتقلاته وهو يعلم أنّهم سينظمون تجمعات مسلحة متطرفة على الساحة السوريّة وتوازى ذلك مع إطلاق العراق متطرفين من سجونه أيضاً، وباتوا بالفعل عامل استقطاب لعناصر راديكاليّة من عدة دول إلى سوريا بهدف ما أطلقوا عليه حينها “نصرة السوريّين”، وكان في مقدمة هؤلاء الذين شكلوا عامل استقطاب للعناصر الأجنبية المتطرفة حينها “أحمد الشرع” الذي عُرف حينها بـ”أبو محمد الجولانيّ”، ليؤسّس بالتعاون مع آخرين من تنظيم القاعدة ما عُرف باسم “جبهة النصرة لأهل الشام” بدايات عام 2012.
شكّلت “جبهة النصرة” الذراع السوريّ لتنظيم القاعدة العالميّ، وتبنّت عدة عمليات انتحاريّة ضد قوات النظام السوريّ وحينها بات لدى النظام الذريعة والحجة لوصف الثورة والمعارضة، والحراك الشعبيّ السلميّ والسياسيّ بالإرهاب، بعدما تحولت سوريا لمحطة استقطاب المتشددين والإرهابيين من جميع أنحاء العالم اليها. في العاشر من كانون الأول 2012، صنّفت الولايات المتحدة “جبهة النصرة” منظمة إرهابيّة، واتهمتها امتداداً لتنظيم القاعدة في العراق، وسرعان ما صدر قرار يحظر على الأمريكيين التعامل ماليّاً مع “النصرة” وبدأ المجتمع الدوليّ بالتراجع عن فكرة إسقاط النظام السوريّ كما تم إسقاط الأنظمة في تونس، ومصر، وليبيا، وتقاعس عن مدّ يد العون للسوريين خشية أن يكون البديل عن نظام بشار الأسد هذه التنظيمات المتطرفة والمصنّفة إرهابيّة.
عسكريّاً دخلت المعادلة طيلة 14 عاماً من عمر الأزمة حالة تشرذم وانقسام واستغلال وخروج عن المسار الصحيح وانتشار المجموعات المرتزقة، التي ساهمت بشكلٍ أو بآخر بإطالة عمر النظام السابق بوصفه الأفضل مقارنة بالمجموعات المرتزقة على الساحة السوريّة، كما روّج لذلك النظام على أنّها البديل عنه، لو أسقطه المجتمع الدوليّ.
انسداد الأفق
ومع انسداد الأفق للتعاطي مع النظام، وعدم إبدائه أيّ انفتاح أُعلن تأسيسُ المجلس الوطنيّ السوريّ في الثاني من تشرين الأول 2011 كواجهة لمعارضة سياسيّةٍ سوريّة، وضمّ حينها الأطياف السياسيّة السوريّة برئاسة برهان غليون، وحصل المجلس على اعتراف بعض الدول به مثل الولايات المتحدة، ودول أوروبيّة، وتركيا، وكندا، وتونس، وليبيا، إلا أنّه لم يحقق الهدفَ المرجو منه.
تتالت زيارات المبعوثين الأمميين الى سوريا والوفود الغربيّة والشرقيّة ولكن دون جدوى حقيقيّة على الأرض، فقد رفض النظام أيّ اصلاحاتٍ سياسيّة لحين أنّه اقتنع بذر الرماد في العيون في شباط 2012 وأجرى استفتاءً على الدستور الجديد لسوريا وتضمن تعديلات لم يتوافق عليها السوريّون. فقد فُصّل الدستور على مقاس بشار الأسد، وأعطاه حق الترشح لانتخابات رئاسيّة جديدة لفترة أولى بدءاً من عام 2014، ووضع شروطاً تمنع أيّ شخص لم يُقِم في سوريا في آخر عشر سنوات مستمرة من حقه بالترشح، وأجرى استفتاء في 26 شباط 2012 وحصل على نتيجة تصويت بلغت 89.4%، وشكّكت الأمم المتحدة بنزاهة الأرقام ونتائج التصويت.
وحقيقة لا يعدّ إقرار دستور جديد من الأحداث المؤثرة في سير الثورة، لكنه كان يحمل بُعداً سياسيّا مبطناً يؤكد أن بشار الأسد مستمر في الحكم مهما كلف الثمن، واستخدم جيش النظام في المعارك التي وقعت الدبابات والصواريخ.
وفي 30/6/2012، اتفقت مجموعة عمل تضمُّ الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، وفرنسا، والمملكة المتحدة، وألمانيا، وتركيا، وجامعة الدول العربيّة في جنيف، على مبادئ مرحلةٍ انتقاليّة، لكن الأطراف المعنية -من السوريّين وغيرهم اختلفت على تفسير هذه المبادئ، التي لم تشِر بوضوحٍ إلى مصير رئيس النظام بشار الأسد الذي تطالب المعارضة برحيله.
اعتبرت واشنطن أنّ الاتفاق يفسح المجال أمام مرحلة ما بعد الأسد، فيما أكدت موسكو، وبكين أنّ تقرير مصير الأسد يعود للسوريين، وهو الأمر الذي يتمسّك به النظام، وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر دوليّ من نوعه يناقش الوضعَ السياسيّ واحتماليّة الانتقال السياسيّ، في مرحلة كانت مبكرة من عمر الثورة السوريّة.
في خضمّ ذلك، لم تعد سوريا التي يعرفها أهلها، فقد تحولت إلى ساحة نفوذ دوليّة، وميداناً للصراع بين القوى الإقليميّة والدوليّة، بالتوازي مع عقوبات اقتصاديّة خانقة على النظام السابق ومن يتعامل معه أفراداً وكيانات بعدما فتح قيصر الذي أفزع السوريّين والعالم وأبكاهم، بعد تسريبه لـ 55 ألف صورة للمعتقلين السوريّين المقتولين تحت التعذيب في سجون نظام الأسد مطلع عام 2014 وهو ما فتح الباب على مصراعيه أمام سيل العقوبات الخانقة، وقررت واشنطن اتباع سياسة النفس الطويل في التعاطي مع هذا الملف.
سقوط النظام وضياع البوصلة
رغم أنّ دولاً عربيّة سعت إلى إعادة تعويم النظام السوريّ، بالتطبيع معه وإعادة مقعد سوريا بجامعة الدول العربية مجدداً، ودعوة بشار الأسد لحضور القمة العربية المنعقدة بجدّة في أيار 2023 ومحاولة احتوائه ونظامه وفق سياسية خطوة مقابل خطوة خصوصاً بعد إغراقه المنطقة بالكبتاغون والمخدرات التي اتخذها طريقاً لتأمين موارد ماليّة في ظلّ العقوبات الخانقة المفروضة عليه. وفُرض عليه النظام خطوات للابتعاد عن إيران.
ويؤكد خبراء، أنّ جيش النظام فقد فلسفة وعقيدة القتال الحقيقيّة، بسبب النقص الواضح في موارد التنمية ودعم وتطوير هذه القوات لأكثر من عقد من الزمان بالتوازي مع سوء الحالة الاقتصاديّة في سوريا الممزقة داخليّاً، فضلاً عن افتقاد هذه القوات المستوى المناسب من التدريب، ووجودها تحت ضغط عسكريّ، ورفع درجات الاستعداد لصالح الأعمال القتاليّة ضد جماعات وميليشيات غير متجانسة التشكيل، أو التنظيم، أو التسليح.
كل ذلك يفسر ما حدث في 27 تشرين الثاني 2024 وعزز حالة الانهيار الحاد، والسريع لنظام بشار الأسد أمام “هيئة تحرير الشام والمجموعات المتحالفة معها” وأدرك السوريّون أنّ الإرادة الدوليّة باتت سانحة للإطاحة بالنظام وبالفعل تخلّى الأسد عن السلطة وفر هارباً الى موسكو فجر الأحد 8/12/2024 تاركاً وراءه تاريخاً دموياً وشعباً يئن ألماً.
وتستولي تلك المجموعات المتطرفة المصنفة على قوائم الإرهاب الغربيّة على السلطة، ما أثار مخاوف حقيقيّة على حقوق الشعوب في بلدٍ متنوع عرقيّاً وإثنيّاً وعقائديّاً وهو ما حدث بالفعل مع تصاعد أعمال العنف والانتهاكات التي انطلقت شرارتها في الساحل السوريّ في السادس من آذار 2025 وما ترتب عليه من جرائم تطهيرٍ عرقيّ بحق العلويين هناك وراح ضحيتها أكثر من أربعة آلاف شخص بحسب بعض التقديرات.
يؤكد مراقبون أنّ هذا الانزلاق المتسارع في الساحل السوريّ نحو حرب أهليّة دمويّة يرتدي الزي الطائفيّ، على وقع انتهاكات يرتكبها عناصر يتبعون إلى سلطة دمشق الجديدة. ويفنّد ادعاءات هذه السلطة بانفتاحها على كلّ الشعوب والأطياف السوريّة ويضعها اليوم على المحكّ ويظهر وجهها الحقيقيّ خصوصاً بعدما عمدت الى إذكاء حالة التجييش الطائفيّ وتغذيته بكلّ الوسائل من خلال الإقصاء الممنهج والتهميش والتمييز على أساسِ العرق والدين والمذهب، وهذا ما يتخوف منه المجتمع الدوليّ ويضع السوريين أمام مستقبلٍ قاتم وضبابيّ مجهول بعد ضياع بوصلة الحلّ الذي ينتشلهم من بئر الأزمات الذي أوقعهم فيه النظام السابق وتبين للقاصي والداني أنّ ما تمر به سوريا اليوم يمكن توصيفه بأنّ النظام سقط، ولكن بقيت الذهنيّة الاقصائيّة.