بناز سليمان
على مدار تاريخ سوريا الحديث، لعبت المرأة السورية أدواراً سياسية واجتماعية متقلبة بين التهميش والتأثير، بين قيود النظام الأبوي ورياح التغيير. اليوم، وفي خضم الحرب والتحولات الجيوسياسية، تبرز المرأة السورية فاعلة رئيسية في رسم مستقبل البلاد، خاصة مع صعود نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا، الذي طرح رؤية جديدة لحقوق المرأة. فكيف تشكل دورها السياسي؟ وما هي التحديات والفرص التي تواجهها اليوم؟
للوقوف على جواب هذا السؤال العريض، لابدّ من العودة إلى البصمات الأولى في تاريخ النضال التحرري منذ حقبة ما قبل الاستقلال (العثمانيون والانتداب الفرنسي)، حيث ظهرت أولى الأصوات النسوية مع بدايات القرن العشرين، مثل نازك العابد، التي أسست جمعية “نور الفيحاء” عام 1920، ودعت إلى تعليم المرأة وإلى حقها في العمل ، ولاحقاً خلال فترة الانتداب الفرنسي (1920–1946)، شاركت المرأة السورية في المقاومة الوطنية، لكن دورها السياسي بقي محدوداً بسبب الهيمنة الذكورية، واستمرت العقلية ذاتها في الأعوام، التي تلت الاستقلال، ولنضالها المديد حصلت على حق التصويت والترشح عام 1949، لكن بقيت مشاركتها الانتخابية ضمن إطارات رمزية غير فاعلة.
وفي زمن حكومات البعث المتعاقبة منذ عام 1963 ولغاية عام 2011 وقعت المرأة السورية ضحية شعارات تحرير المرأة، حيث استمرت هياكل السلطة الأبوية، وإن كانت هناك نساء في مناصب حكومية عليا خلال العقد الأخير من القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة مع استمرار قانون الأحوال الشخصية السوري، الذي أعطى المرأة حقوقها في الزواج والطلاق والميراث وحضانة الأبناء، وحق السفر.
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، دخلت المرأة مرحلة جديدة، حيث واجهت النساء قمعاً مزدوجاً من النظام الديكتاتوري ومن الجماعات الإسلامية المتطرفة كمرتزقة داعش، وغيره من المجموعات المرتزقة، ورغم ذلك أسست المرأة السورية وحدات حماية خاصة بالدفاع عن المرأة في مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية، واستطاعت أن تقدم مثالاً بطولياً للعالم أثناء المقاومة البطولية ضد مرتزقة داعش في مدينة كوباني، والتي دحرت مرتزقة داعش الإرهابي، وانتصرت على نفسها وضعفها، كما انتصرت على أخطر مجموعات ظلامية إرهابية، وحصلت على احترام أغلب شعوب ونساء العالم.
ولم يقتصر دور المرأة في إقليم شمال وشرق سوريا على المشاركة في العمليات القتالية ضد المجموعات المرتزقة والإسلامية المتطرفة فقط، وإنما ساهمت في تأسيس منظمات إنسانية وتعليمية، وأدبية وإغاثية إلى جانب المشاركة العريضة في الحياة السياسية ضمن الأحزاب السياسية كفضاءات للمقاومة المدنية، وجزءاً أساسياً من مهام المجتمع المدني، فأصبحت المرأة ركيزة في المشروع السياسي الجديد في مناطق إقليم شمال وشرق سوريا، وحصلت على نسبة تمثيل عالية في المجالس والمؤسسات ضمن الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا، والتي انتهجت نظام الرئاسة المشتركة لكل منصب، إضافة إلى استقلالية مجالس المرأة، التي تشرع قوانين مكافحة العنف الأسري وتزويج القاصرات، المدعومة بمبدأ المساواة ضمن العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية الديمقراطية، الذي نص على حقوق متكافئة في الجنسية، والميراث، والمشاركة السياسية.
ورغم الإنجازات العظيمة للمرأة السورية وبجميع شعوبها، واجهت المرأة السورية ظروفاً قاسية أثناء الحرب، وخاصة في ظل استمرار حالات النزوح والتهجير، وفقدان الكثير من النساء لأزواجهن في عمليات الدفاع عن المكتسبات الثورية، كما تعرضت الناشطات في الإدارة الذاتية الديمقراطية، لهجمات من مجموعات إرهابية مدعومة من تركيا، وحادثة تعذيب الناشطة السياسية “هفرين خلف” وقتلها بطريقة وحشية، خير مثال.
وكان العامل النفسي الأكثر تأثيراً في البنية النفسية للمرأة، نتيجة فقدانها لأبنائها ليس في المعارك فقط، وإنما فقدانها أيضاً فلذات أكبادها على دروب الهجرة نحو أوربا، وحالات التفكك الأسري نتيجة استمرار الحرب لأكثر من عقد من الزمن، كما أن استمرار الأيديولوجيات المحافظة وهيمنة الذهنية الذكورية في مناطق سيطرة النظام والمعارضة، والتي لم تنتهِ مع سقوط النظام، بل زادت حدة المضايقات على حرية المرأة من خلال تهميشها وإلزامها بالحجاب قسراً و محاولة إعادة الحياة إلى زمن الإسلام الأول مع تقييد الحريات العامة، وفرض جملة من المحاذير الخاصة بعمل وحركة وتجوال المرأة، كما تعرضت الناشطات والمعارضات للحالة التسلطية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الديكتاتوري إلى الخطف والقتل، وسط حالة من الفلتان الأمني وغياب الأمن كاستمرار لتصرفات النظام الساقط في اعتقال وتصفية المعارضات بطرق مرعبة، وسجن صيدنايا أكبر شاهد على كل تلك المرحلة المظلمة من تاريخ سوريا المعاصر.
كما أن تهميش المرأة في المرحلة الحالية وحرمانها حق المشاركة في بناء سوريا الجديدة، من خلال عمليات الإقصاء والمصادرة لحقوقها، وإنكار تضحياتها وصمودها في وجه أعتى نظام ديكتاتوري يعد صفحة جديدة من تاريخ ظلم المرأة، والتي ربما تطال مجالات العمل والتعليم رغم ظروف الأسر والعائلات السورية الاقتصادية الصعبة، فأكثر من 30% من الأسر السورية، التي تعيلها نساء تعاني من انعدام الفرص، ومضايقات في حصولها على العمل وبالتالي فإن الهشاشة الاقتصادية تلعب دوراً سلبياً في عدم تمكين المرأة، وتمثيلها في الحياة السياسية.
ومن أجل الخروج من هذا الوضع لابد من انتهاج سياسة ديمقراطية، وذلك من خلال المطالبة بدستور سوري جديد يضمن المساواة الكاملة، ويُلغي المواد التمييزية، مستلهماً بنود العقد الاجتماعي للإدارة الذاتية، وتفكيك الخطاب الذكوري بمناهج تعليمية تعزز ثقافة المساواة، كما يمكن لحملات دعم حقوق المرأة بخصوص التمكين من العمل والمزاولة السياسة، والضغط على المجتمع المحلي والدولي من خلال منظمات المرأة، ومنظمات المجتمع المدني بربط أي حل سياسي في سوريا بضمان حقوق المرأة ومشاركتها الفعلية في كتابة الدستور والإدارة، والحياة البرلمانية بشكل متساوٍ مع الرجل، وهذا يتطلب بناء تحالفات بين المنظمات النسوية في المناطق المختلفة (نظام، معارضة، إدارة ذاتية) للمساهمة في مشاريع إعمار سوريا أسوة بالمرأة الأوربية التي ساهمت في بناء مجتمعاتها بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
وأخيراً:
إن المرأة السورية ليست مجرد ضحية للحرب، بل هي صانعة للتغيير، ونجاح نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية في تمكينها يثبت أن البديل ممكن، وغير مستحيل، فقط يحتاج إلى دعم مؤسساتي وقانوني ووعي حقيقي من المرأة بقوتها وإرادتها والقادرة على صناعة السلام وبناء سوريا ديمقراطية حرة جديدة، والتي تستطيع أن تجسد أسطورة العنقاء التي تلد من رمادها، والتي يمكن أن تحول ركام الحرب إلى بيادر البناء، والعمران، والخير.