حمزة حرب
لم يكن غريباً حالة الإرباك التي تعيشها أوروبا لوصول الرئيس الأمريكيّ الحالي دونالد ترامب لسدة الحكم بولاية ثانية فهو من رفع شعاراً في حملته الانتخابية “أمريكا أولاً” وهنا يؤكد مراقبون، أن ترامب اليوم ومنذ أن وصل لسدة الحكم بدأت أوروبا تواجه التهديدات نفسها، التي وجهها لها في ولايته الأولى، بل تبدو وكأنها أقسى وأشد.
يبدو أنّ ترامب لديه مرتكزات في سياسته المتبعة في ولايته الثانية، وهي “لا حلفاءـ لأنّ أمريكا فوق كل الحلفاء” وهو لا يعتبر التحالف، الذي كان قائماً منذ الحرب العالميّة الثانية بين أوروبا الغربيّة، ثم أوروبا ككل وأمريكا الشماليّة، وتحديداً الولايات المتحدة هو تحالفٌ يستحق أن يستمر، لا بل هو يتعامل مع الجميع على أنّهم خصوم، ويصنفهم على أنّهم مستغلون ومستفيدون من الولايات المتحدة وغير مفيدين لها.
الاقتصاد سيد الموقف
فترامب اليوم يرى أنَّ دول الاتحاد الأوروبيّ قامت باستغلال أمريكا بالفعل ما خلف عجزاً تجاريّاً بين الجانبين يبلغ 300 مليار دولار ويرى، أنّ الأوروبيّين لا يشترون السيارات والمنتجات الزراعيّة الأمريكيّة، بينما أمريكا تشتري كل شيء من أوروبا وهذا ما لا يعجب التاجر والاقتصاديّ الجديد في البيت الأبيض ويؤرق حكام دول الاتحاد الأوروبيّ.
ففي ولايته الأولى كان ترامب يطالب أوروبا برفع ميزانيتها العسكريّة في الناتو إلى 2% من ناتجها المحليّ، إلا أنه اليوم بات يطالبها بـ5% من الناتج المحليّ، مضافاً إليها التلويح بالحرب التجاريّة عليها، من خلال رفع الرسوم الجمركيّة على المنتجات والبضائع الأوروبيّة، ما يهدد الاقتصادات الأوروبيّة بدخول حالة من الركود. يسعى الأوروبيّون إلى أن تكون هناك صفقة اقتصاديّة، ويريدون أن يتفاوضوا ويتقربوا من مطالب ترامب قدر الإمكان، ولكن هذا يسبب كلفة كبيرة على أوروبا. كما أنهم أمام مهمة صعبة، وهي من أين سيدفعون نسبة 5% التي يريدها ترامب، في حين أن الصناديق الماليّة الأوروبيّة شبه فارغة.
على الرغم من أن أوروبا تتشارك في عضوية حلف الناتو، إلا أن ترامب كان قد طالبها بزيادة إنفاقها العسكريّ بشكل كبير ليصل إلى 900 مليار دولار، مهدداً بعواقب إذا لم تلتزم هذه الدول بما وصفه “بالتزاماتها العسكريّة” فهذه الضغوط الماليّة والعسكريّة كشفت عن تباين في الأهداف بين الولايات المتحدة وأوروبا، فبينما ترى الولايات المتحدة أن دعم الحلفاء الأوروبيّين عبر الإنفاق العسكريّ هو مسؤولية أوروبا، ترى القارة العجوز أن هذه السياسات تضعها في موقف الدفاع بدلاً من التعاون المتكافئ.
أما عن تقديرات الخسائر المحتملة للقارة الأوروبيّة جراء هذه الرسوم تراوحت بين 200 و350 مليار دولار، ما أثر بشكل كبير على العلاقات الاقتصاديّة بين الجانبين كما إن ملف الانفاق العسكريّ تسببت في توتر العلاقات بين ترامب وأوروبا ففي حين تنفق أوروبا حوالي 380 مليار دولار سنويّاً على الدفاع، فإنَّ الولايات المتحدة تنفق 968 مليار دولار.
يرى خبراء اقتصاديّون بناءً على هذه المعطيات أنّ أوروبا فعليّاً بحاجة إلى الولايات المتحدة، ولكن اليوم أمام إصرار من جانب رجل له الكثير من الاعتزاز بنفسه، على فرض أسلوب جديد هذا الأسلوب قد يؤدي بالفعل إلى فرط العلاقات القائمة، وبالتالي إلى فرط الاتحاد الأوروبيّ. لذلك التحدي هو تحدٍّ أوروبيّ.
مواقف متشنجة
منذ وصول الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، شهدت العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكيّة وحلفائها التقليديين في أوروبا تحولات غير مسبوقة، فالتهديدات التجاريّة والضغوط العسكريّة والاقتصاديّة التي مارسها ترامب على قادة أوروبا كشفت عن التصدع في الشراكة الأوروبيّة الأمريكيّة، مما هدد بانهيار هذه الشراكة التي وصفت لسنوات طويلة بأنّها متينة.
أوروبا باتت تدرك جيداً عقليّة ترامب وتدرك أنّه لا يلتزم دائماً بتنفيذ قراراته الحادة، لكنه يمكن أن يوقفها في لحظة معينة استجابةً للتفاهماتِ أو التنازلاتِ التي يحصل عليها من الدول المتأثرة، وهذه الاستراتيجية تساهم في خلق نوع من “البلبلة” في العلاقات الدوليّة، التي قد تكون جزءاً من خطة ترامب لتقوية موقفه الداخليّ في مواجهة القضايا الاقتصاديّة والسياسيّة داخل الولايات المتحدة.
فالاتحاد الأوروبيّ اليوم التمس استراتيجية ترامب الجديدة القائمة على أنَّ الميزان التجاريّ بينه وبين أيّ دولةٍ ليس لصالح الولايات المتحدة، ويعتبره استغلالاً، لأنه ليس معنياً بكيف أنّ هذه العلاقة التجاريّة تربط الطرف الآخر بالولايات المتحدة، هو معني بالربح الآنيّ، لكن الولايات المتحدة بالتأكيد متضررة، والمنظومة العالميّة ككل متضررة، لأنّ السابقة التي يؤسس لها اليوم هي، أنّ النظام القائم على التوازنات لم يعد هو النظام المعتمد، بل النظام أصبح من الآن فصاعداً قائماً على القوةِ الفارضة، القوة المُكرهة، والولايات المتحدة اليوم لديها هذه القوة.
هذا ما أثار حفيظة الساسة الأوروبيين، الذين بدت تصريحاتهم متشنجة في معظم الأحيان ففي تصريحات لوكالة فرانس برس في وقتٍ سابق من الشهر الحالي حاولت رئيسة الوزراء الإيطاليّة، جورجيا ميلوني أن تمتصَ حالة التوتر الحاصلة بين التكتل الأوروبيّ والولايات المتحدة الأمريكيّة بالقول، إنَّ العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا ستظل وثيقة، في وقت يثير التقارب بين واشنطن وموسكو، بدفع من دونالد ترامب.
وسارعت رئيسة المفوضيّة الأوروبيّة أورزولا فون دير لاين للمراوغة الدبلوماسيّة في 21 كانون الثاني 2024 وحذّرت من تصاعد النزاع الاقتصاديّ مع الإدارة الأمريكيّة الجديدة بتأكيدها أنّه لا توجد اقتصادات أخرى في العالم متكاملة مثل الاتحاد الأوروبيّ والولايات المتحدة فالشركات الأوروبيّة توظّف في الولايات المتحدة 3.5 مليون أمريكيّ، كما تعتمد مليون وظيفة أمريكيّة أخرى بشكل مباشر على التجارة مع أوروبا. بينما بينت أورسولا فون دير لاين أنّ الاتحاد الأوروبيّ سيتعامل ببراغماتيّة مع الولايات المتحدة في عهد ترامب، فيما طالب ساسة ألمان بتحسين قدرات الاتحاد الأوروبيّ الذاتيّة وفي الوقت نفسه التنسيق والحوار مع واشنطن الذي يتخوفون من أيّ قرارات يمكن أن تتخذ لا تناسب الاتحاد الأوروبيّ وتطلعاته.
الزعيمة الإيطاليّة القوميّة التي ترى فيها الأوساط الأوروبيّة على أنّها وسيط محتمل بين الاتحاد الأوروبيّ وواشنطن سيما وأنّها كانت من داعمي موقف بلادها بقوة في تقديم يد العون لأوكرانيا منذ بدء الحرب في شباط 2022، ولا سيما عبر إرسال الأسلحة، وأنها أعادت التأكيد مجدداً خلال تصريحاتها إلى التزام أوروبا والولايات المتحدة بدعم كييف.
قال مرشح حزب الخضر للمنافسة على منصب المستشار في كانون الثاني من العام الجاري خلال قمة الطاقة التي نظمتها صحيفة هاندلسبلات في برلين إنّه ينبغي التصرف بيد ممدودة تجاه إدارة ترامب، ولكن لا ينبغي أن نسمح لأنفسنا بأن تظل يدنا ممدودة بلا حدود محذراً مما أسماه “الجبن”.
من جهته تطرق زعيم الحزب الاشتراكيّ الديمقراطيّ الألمانيّ، لارس كلينغبايل، إلى أنّ تنصيب ترامب يعدّ نداءً للأوروبيين للتركيز على نقاط قوتهم، وأشار في مقابلة مع القناة الثانية في التلفزيون الألماني “زد دي إف” إلى أنّ الاتحاد الأوروبيّ منطقة اقتصاديّة ضخمة، وإذا تحسّن أداؤهم في أوروبا، وعملوا معاً بشكلٍ أوثق، سيتمكنون من مواكبةِ الولايات المتحدة لأنّه يرى أن التعامل مع الإدارة الأمريكيّة الحالية ستكون “عملية موازنة صعبة” بين مجالات التعاون والتفارق، لكنه شدد على أهمية العلاقات الوثيقة عبر الأطلسي.
من جانبه، قال زعيم الكتلة البرلمانيّة للحزب الديمقراطيّ الحر، كريستيان دور، في تصريحات للمحطة إنّ القوة الاقتصاديّة ستكون مهمة في العلاقات مع الولايات المتحدة، مشيراً إلى أنّه لا يوجد في الوقت الحالي أيّ حديثٍ عن فرض رسوم جمركيّة على منتجات الاتحاد الأوروبيّ، موضحاً في المقابل أنّه سيكون من الأفضل دائماً التفاوض من موقع القوةِ الاقتصاديّة، مضيفاً أنّه لتحقيق هذه الغاية، يتعين تخفيف القيود في ألمانيا، على سبيل المثال من خلال الحد من البيروقراطيّة وتخفيف الأعباء.
مراقبون يرون أنّه وبناء على معطيات عديدة فإنَّ أوروبا تُعتبر في موقف الضعيف، حيث الاقتصاد الأوروبيّ في حالة شلل، وهناك حاجة لتصدير البضائع والمنتجات الأوروبيّة إلى الولايات المتحدة كما أنّهم لم يهتموا بجيوشهم على مدى عقودٍ من السنين، ولم يستثمروا في القوة العسكريّة، وبذلك بقيت أوروبا مرهونة فيما يخص الدفاع للعلاقة مع الولايات المتحدة لاسيما إزاء روسيا.
ارتدادات إقليميّة ودوليّة
العواصم الأوروبيّة التي لطالما اعتبرت روسيا تهديداً استراتيجيّاً تلقت صدمة كبيرة عندما اتخذ ترامب خطوة مثيرة للجدل وبدأ مفاوضات مباشرة مع روسيا حول الصراع في أوكرانيا، متجاهلاً المواقف الأوروبيّة أضاف ترامب إلى ذلك ضغوطاً متواصلة على حلفائه في أوروبا لزيادة مساعداتهم العسكريّة لأوكرانيا، وهو ما كان بمثابة محاولة لتركيز القوة العسكريّة في يد الولايات المتحدة بشكلٍ أكبر.
فبينما يحيا المشهد الأوروبيّ حالة غليان وإرباك لكافة الحسابات إثر مساعي ترامب حلحلة الأزمة الأوكرانية، بشكلٍ منفردٍ مع موسكو، بمعزل عن أوروبا وبما يضر بأمنها القوميّ، إذ به يُزيد الأوجاع مجدداً بإعلانه فرض رسوم جمركيّة بنسبة 25% على واردات السيارات وأشباه الموصلات والأدوية القادمة من مختلف البلدان ومنها دول الاتحاد الأوروبيّ، على أنّ تدخل هذه الخطوة التصعيديّة، التي قد تهزُّ أسواق التجارة العالميّة، حيز التنفيذ في الثاني من نيسان المقبل.
ويعتري الأوروبيّون الكثير من المخاوف من تداعيات هذا العزف الأحادي من الرئيس الأمريكيّ الذي لا يراعي أيّ مقاربات أو حسابات للحليف الأوروبيّ ومصالحه التي تواجه تهديدات لم تعرفها منذ عقود طويلة، الأمر الذي دفع الكثير من النخبة في القارة العجوز للتأكيد على ضرورة إعادة النظر في العلاقات الأوروبيّة الأمريكيّة ووضعها على طاولة النقاش لتقييمها في ضوء المستجدات الأخيرة.
بات التلويح والتهديد بالتوجه الى الصين هو ما ردّت به مسؤولة السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبيّ كايا كالاس واصفةً السياسة التي ينتهجها ترامب تجاه الاتحاد الأوروبيّ لن يكون فيها رابحون وإذا بدأت الولايات المتحدة الحرب التجاريّة فالذي سيبحث عنه الجانب الأوروبيّ هو الصين، كما أن الاتحاد الأوروبيّ بحاجة إلى الولايات المتحدة هي الأخرى بحاجة الى الاتحاد أيضاً.
وعلى الرغم من أن الشركات الأوروبيّة والصينيّة كانت تبني علاقات تجاريّة مع دول أخرى بعيدة عن الولايات المتحدة، فإنّ أوروبا بدأت تشهد تحولاً نحو تصنيع داخليّ يعتمد على الموارد المحليّة وزيادة التنافسيّة ياسين أضاف أنّ هذا التوجه قد يكون له تأثير إيجابيّ على الشركات الأوروبيّة على المدى البعيد، خاصة في ظل التوجهات العالمية نحو تقليص الاعتماد على الأسواق الأمريكيّة.
لا يمكن نكران أنّه ثمّة ضرر على الولايات المتحدة، فهي تُفرّط اليوم بالبُنية التي قامت على أساسها القوة الأمريكيّة، والهيبة والتأثير الأمريكيّ فالاستفادة الآنية من ضعف الدول الأوروبيّة اليوم، ودفع هذه الدول إلى الرضوخ، ستؤدي حتماً إلى أنّ هذه الدول التي لم تطور منظومتها العسكريّة، انطلاقاً من مصلحة أمريكيّة كانت موجودة، وهي التي فضّلت بألا تطوّر هذه المنظومات، كي تبقى هذه الدول طيّعة للولايات المتحدة.
فبناءً على كلّ هذه التطورات يؤكد مراقبون أنه وفي المرحلة المقبلة في حال تحركت هذه الدول وتمكنت من تجاوز المرحلة الحالية، وسارت الأمور باتجاه تشكيل قدرة دفاعيّة ذاتيّة أوروبيّة، قد نجد أنّ أوروبا لن تكون بالضرورة الحليف التلقائيّ للولايات المتحدة، أي أنّ الولايات المتحدة تُفرّط على المدى البعيد بمكانتها عالميّاً ولكن ترامب ليس معنياً بالمدى البعيد هو معني بالنتيجة الفوريّة.
وفي نهاية المطاف كل ما تمر به أوروبا اليوم هو نتاج ترهل حقيقيّ في اتخاذ القرار العسكريّ والاقتصاديّ والارتهان للهيمنةِ المطلقة الأمريكيّة وما عزز هذه الهيمنة هو الانقسام الداخليّ في التكتل الأوروبيّ الذي أتاح الفرصة لواشنطن أن تفرض رؤيتها وتوجهها لكن اليوم بات مصير الاتحاد الأوروبيّ على المحك وبين خيارين لا ثالث لهما إما الارتهان لواشنطن او إيجاد مسالك للاعتماد على ذاتها وقوتها واقتصادها.