استخدمت النساء قديماً الأغاني، للتعبير عن مشاعرهن التي كان يمنع البوح بها وسط المجتمع الأبوي، الذي كان يقرر عن المرأة ويفرض عليها حياة لم تختارها.
للموروث الغنائي مكانة خاصة لدى النساء، فقد كانت الأغاني “مساحة آمنة” يعبرن فيها عن المشاعر والأحاسيس بعيداً عن القيود الاجتماعية ودون الخوف من السلطة الذكورية أو رقابة المجتمع.
موروث ثقافي
واكتسبت “سوسن الرتيبي” التي تربت على الأغاني القديمة، ما تغنيه من والديها، حيث تمثل هذه الأغاني موروثاً ثقافياً تحفظه نساء الأرياف، ولا تزال تتغنى سوسن به الآن في الأعراس والمناسبات فهي ليست مجرد كلمات وألحان، بل هي قصص تحكي عن الحب، وعن المعاناة، والفرح، وعن الحياة التي عاشتها النساء قديماً، فقد أكدت، بأن الغناء وسيلة أساسية للتعبير عن المشاعر والتواصل في الماضي.
وأضافت: “لم تكن هناك وسائل اتصال حديثة، وبذلك لم تستطع الفتاة أن تعبر عن مشاعرها بسهولة، فكانت الأغاني هي المتنفس الوحيد، التي تبدع النساء في استخدامها في التعبير عن الحب، أو الحزن أو حتى الشكوى من ظروف الحياة، فلم يكن البوح بالمشاعر بالأمر السهل آنذاك، لكن الفتاة وجدت في الغناء لغة بديلة تترجم إحساسها”.
وأوضحت، أن هذه الأغاني التراثية لم تكن مجرد تسلية، بل عبرت عن معاناة المرأة في مجتمع فرض عليها قيوداً كثيرة، فالنساء كنّ يعشن حياة صعبة لم يكن لهن رأي في اختيار أزواجهن، والرجل هو صاحب القرار الأول والأخير، والزواج من الأقارب وغالباً لابن العم، سواء أرادت ذلك أم لا، وإذا قرر الرجل أن يتزوج مرة ثانية أو ثالثة، لم تكن المرأة تملك حق الاعتراض بينما الرجل يتمتع بسلطة مطلقة، فكان الملجأ للمرأة الأهازيج والأغاني، التي مثلت متنفس وسط حياة لم تتح لها الكثير من الخيارات، واستخدمت الأغاني لإيصال رسائل مشفرة، كأن تغني الفتاة عن شخص أحبته، ولم تستطع الزواج به، أو عن ألمها من الزواج المفروض عليها.
ولفتت سوسن، إلى أنه “في صغري سمعت النساء تغني أثناء العمل، في غزل النسيج، أو أثناء جني الزيتون، أو خلال المواسم الزراعية، ويتبادلن الأغاني كما لو أنها رسائل غير مكتوبة، تتحدث عن قصصهن، وكنت أستمع إليهن وأحفظ الأغاني عن ظهر قلب، وأدرك بأن هذه الكلمات تحمل تاريخاً من المعاناة والصبر والقوة، واليوم أواصل تقديم هذه الأغاني في المهرجانات وأمام الجمهور، ليس فقط لأنها جزء من التراث، ولكن لأنها “صوت النساء” اللواتي لم يكن لديهن صوت، فهذه الأغاني ليست مجرد موروث بل شهادة على حياة النساء في الماضي، وتستحق أن نحافظ عليها وننقلها للأجيال القادمة، حتى لا تضيع قصص الأمهات والجدات في زحمة العصر الحديث”.
وأشارت، إلى أن الأسواق في تلك الفترة شكلت نقطة تجمع كبيرة للأهالي، حيث يبيعون ويشترون ويتبادلون الأخبار والأغاني، والناس يأتون من منطقة الجريد، يبيعون التمر ويشترون القمح، وهناك في الأسواق كانت الأغاني تعبر عن الرحلات والأسفار”، مستذكرةً أغنية “النجع سقوه رحل” والتي تروي كيف كانت القوافل تنتقل محملة بالبضائع والمشاعر المختلطة بين الفراق واللقاء، وكيفية تبادل النساء الأغاني أثناء ترحالهن، فترد إحداهن على الأخرى، وكأنهن ينسجن قصة كاملة من المشاعر والذكريات، ومع ترحالهن تتنقل الأغاني من المنطقة في النساء اللواتي يحفظنها وينقلنها بصوتهن.
الأمر نفسه بالنسبة إلى “تبر حسني” التي غنت بصوت قوي كلمات أغنيتها المفضلة، والتي تعني فيها: “لقد رحلوا وشقوا الجبل بعد أن قال لي كلمات أصابتني بالمرض، ولما نظرت في الجبل بعد رحيلهم لم أرَ إلا الجبل وحجارته الكبيرة”.
كيفية حفظ الموروث
وعن كيفية حفظها هذا الموروث الغنائي قالت: “في صغري عشنا رحالة ننتقل من مكان إلى مكان، وأرافق أمي للحصاد أو جمع الحلفاء، وأسمع النساء تغني هذه الأغاني فحفظتها، وعندما كبرت تعلمت الكثير من الأغاني، وبقيت إلى الآن أردد البعض منها في أعراسنا ومناسباتنا العائلية”.
فيما أكدت “سوار قاهري“، بأنها مغرمة بالتراث الشعبي القديم، وهي مُلِمّة بهذا الإرث وباحثة في الموروث القديم: “إذا أردنا أن نحكم على وضع النساء في الماضي، وكيف كنّ يعبرن عن الاضطهاد أو عن أحزانهن، نجد أن الحل الأسهل والأقرب إليهن كان الصوت، لقد استخدمت المرأة صوتها لتخرج ما في داخلها، سواء بالشعر أو من خلال مقاطع غنائية مترابطة، تسرد بها قصتها أو تعبّر عن مشاعرها وأفكارها”.
وأوضحت، أن المرأة في الماضي، لم تكن تمتلك أي رأي أو قرار، فكل شيء بيد عائلتها، منذ ولادتها وحتى زواجها، بل حتى في كبرها.
وبينت “سوار قاهري” في ختام حديثها: “هكذا كان حال النساء في الماضي، أصواتهن مكبوتة، ومشاعرهن تُترجم فقط على شكل أغنيات حزينة، تحفظها الأجيال من بعدهن، وتبقى شاهدة على معاناة عابرة للزمن”.