محمد عيسى
في العاشر من آذار 2025، دخلت سوريا مرحلة جديدة من تاريخها السياسي والعسكري، بعد الإعلان عن توقيع اتفاق بين رئيس سلطة دمشق أحمد الشرع والقائد العام لقوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي في العاصمة دمشق. الاتفاق، الذي طال انتظاره، يُمثِّل خطوة حاسمة نحو إنهاء عقودٍ من الإقصاء الذي عانى منه الكرد في سوريا، ويفتح الباب أمام مرحلة انتقالية تستهدف تحقيق الاستقرار وإعادة التوازن إلى المشهد السياسي.
أبعاد الاتفاق وتداعياته السياسية
اتفاق العاشر من آذار لم يكن مجرد تفاهم عسكري أو ترتيبات إدارية بين دمشق وقسد، بل كان خطوة تحمل في طياتها أبعادًا سياسية وعسكرية عميقة، تعكس تحولًا استراتيجيًا في المشهد السوري. فعلى مدار سنوات، تم تجاهل الدور الحاسم الذي لعبته قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في القضاء على مرتزقة داعش الإرهابي، رغم أنها كانت القوة الوحيدة التي تصدت لهم بفعالية، في وقتٍ انهارت فيه معظم الجبهات أمام المد الإرهابي. اليوم، ومع توقيع هذا الاتفاق، أصبح من المستحيل القفز فوق هذا الواقع، حيث باتت قسد جزءًا أساسيًا من المعادلة السوريّة، ليس فقط كقوة عسكرية، بل كلاعبٍ سياسي رئيسي.
إحدى النقاط الجوهرية في الاتفاق هي الاعتراف بقوات سوريا الديمقراطية كجزء لا يتجزأ من منظومة الدفاع عن سوريا، وهو ما يشكل تحولًا جوهريًا في موقف دمشق، فحتى وقت قريب، كانت الحكومة السوريّة المؤقتة تتعامل بحذرٍ مع أي ترتيبات تخص الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، إلا أن المتغيرات الأخيرة فرضت واقعًا جديدًا، جعل من قسد شريكًا لا غنى عنه في مستقبل البلاد، فهذه القوات لا تمتلك فقط الخبرة القتالية، بل تتميز أيضًا بالتنظيم والانضباط، وهو ما تفتقده كثير من التشكيلات العسكرية الأخرى، بما في ذلك بعض الوحدات داخل الجيش السوري نفسه.
وجود قسد في المعادلة السوريّة سيعزز من قدرات الجيش السوري في عدة مستويات، فهي القوة الأكثر تمرسًا في التصدي للتنظيمات الإرهابية والمجموعات المرتزقة، ولديها هيكلية عسكرية منضبطة تمكنها من تنفيذ العمليات بفعالية ودون تجاوزات. كما أن طبيعتها التعددية، التي تضم شعوب من العرب والكرد والسريان وغيرهم، تجعلها قوة وطنية جامعة، وهو ما يتماشى مع حاجة سوريا في هذه المرحلة إلى نموذجٍ جديد من القوات العسكرية التي تعكس حقيقة التنوع السوري.
الاتفاق يُمهد أيضًا لإدماج الكرد وشعوب شمال وشرق سوريا في العملية السياسية السوريّة، بعد عقود من التهميش والإقصاء. فمن خلال هذا الاتفاق، باتت الفرصة سانحة لمناقشة ترتيبات سياسية أوسع، قد تشمل الاعتراف بالإدارة الذاتية ضمن إطار الدولة السوريّة الموحدة، ما يفتح المجال أمام بناء نظام أكثر ديمقراطية، يضمن حقوق جميع شعوبه، ويؤسس لمرحلة من الاستقرار السياسي والاجتماعي في البلاد.
بالتالي، فإن الاتفاق لا يمثّل مجرد تفاهم عابر، بل هو خطوة استراتيجية تعزز فرص الحل السياسي في سوريا، وتجعل من قوات سوريا الديمقراطية شريكًا أساسيًا في بناء المستقبل، بعد أن أثبتت أنها القوة الوحيدة التي استطاعت حماية السوريين من الإرهاب، وأنها القادرة اليوم على الإسهام في حماية وحدة سوريا وأمنها واستقرارها.
ترحيب إقليمي ودولي بالاتفاق
لم يمر اتفاق العاشر من آذار دون أن يلقى صدىً واسعًا في الأوساط الإقليمية والدولية، حيث اعتُبر خطوة مفصلية في مسار الأزمة السورية، وبارقة أمل نحو استعادة الاستقرار في البلاد بعد سنوات من الصراع، فقد سارعت العديد من الدول إلى الترحيب بهذا الاتفاق، معتبرةً إياه خطوة ضرورية لتعزيز وحدة سوريا وسيادتها، وتأكيدًا على أهمية الحلول السلمية التوافقية التي تشمل جميع مكونات الشعب السوري.
على المستوى العربي، جاءت أولى ردود الفعل من المملكة العربية السعودية، التي أصدرت وزارة خارجيتها بيانًا رسميًا أشادت فيه بالاتفاق، مؤكدةً أنه يسهم في الحفاظ على السلم الأهلي، ويعزز وحدة سوريا وسيادتها، ورأت الرياض أن هذه الخطوة من شأنها أن تؤسس لمرحلة جديدة من التفاهمات الداخلية، التي تضمن إشراك كافة القوى الفاعلة في عملية إعادة الإعمار السياسي والاجتماعي للبلاد.
بدورها، وصفت وزارة الخارجية الأردنية الاتفاق بأنه “خطوة مهمة نحو إعادة بناء سوريا على أسس تضمن وحدتها واستقرارها”، مشددةً على ضرورة العمل المستمر لمكافحة الإرهاب وضمان أمن البلاد، وأكدت عمان أن هذا الاتفاق يعكس بداية جادةً لمسار سياسي يضمن مشاركة جميع الأطراف الفاعلة في بناء مستقبل سوريا، بعيدًا عن التدخّلات الخارجية التي تُعيق تحقيق الاستقرار.
وفي سياق متصل، عبّر الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، جاسم محمد البديوي، عن دعم المجلس الكامل لهذا الاتفاق، داعيًا جميع الأطراف السوريّة إلى “تضافر الجهود وتغليب المصلحة الوطنية العليا”، مشددًا على أن هذا التفاهم يمكن أن يسهم في تعزيز مسيرة الاستقرار والتنمية في سوريا، ويشكّل خطوة ضرورية لتمهيد الطريق أمام مرحلة سياسية جديدة تعزز من وحدة البلاد وتضمن حقوق جميع شعوبها.
لم يقتصر الترحيب بالاتفاق على الدول العربية، بل امتد إلى القوى الكردية التي رأت فيه فرصة تاريخية لتكريس التعايش المشترك وضمان الاعتراف بحقوق الشعب الكردي في سوريا، فقد هنأ رئيس إقليم كردستان العراق نيجيرفان بارزاني، الشعب السوري على هذا الاتفاق، معتبرًا إياه “خطوة هامة نحو تحقيق الاستقرار والسلام”، وأكد بارزاني أن هذه الاتفاقية تعكس “رغبة الشعب السوري في الوصول إلى حلولٍ سلمية بعيدًا عن العنف، والعمل على تحقيق مستقبل أكثر عدالة وإنصافًا لجميع الشعوب”.
من جانبه، أشاد رئيس حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، بافل طالباني، بالاتفاق، واصفًا إياه بأنه “بداية جديدة لتعزيز التعايش المشترك في سوريا”. وأكد طالباني أن الاتفاق يُمثِّل تحوّلًا مهمًا في مسار القضية الكردية داخل سوريا، حيث شدد على ضرورة ضمان حقوق الكرد ضمن إطار “دولة ديمقراطية يتمتع فيها الجميع بحقوق متساوية”، معتبراً أن هذه الخطوة ستساهم في ترسيخ الاستقرار داخل البلاد، وفتح المجال أمام بناء سوريا حديثة تتسع لجميع شعوبها.
أما على المستوى الدولي، فقد حظي الاتفاق بدعمٍ واضح من الدول الكبرى، التي رأت فيه خطوة إيجابية نحو التوصل إلى تسوية سياسية مستدامة، فقد أصدرت وزارة الخارجية الفرنسية بيانًا رسميًا أشادت فيه بالاتفاق، مؤكدةً أن باريس لعبت دورًا في تسهيل هذه المفاوضات بالتعاون مع الولايات المتحدة، وأنه يمثّل “مرحلة إيجابية نحو حل سياسي شامل في سوريا”. كما شددت فرنسا على ضرورة تنفيذ عملية انتقالية تضمن حقوق جميع مكونات الشعب السوري، وتؤسس لنظام سياسي أكثر شمولية وديمقراطية.
بدوره، أعرب البيت الأبيض عن دعمه الكامل لهذا الاتفاق، حيث أكدت الإدارة الأمريكية إن “الاتفاق يعزز الاستقرار في سوريا، ويؤسس لحل سلمي للأزمة السوريّة، ويمنع تصعيدًا جديدًا قد يعرقل الجهود الدولية لإنهاء النزاع”. كما شددت واشنطن على أن أي حل مستقبلي للأزمة يجب أن يكون “قائمًا على احترام حقوق جميع السوريين، وضمان إشراك كافة الأطراف في العملية السياسية”.
وفي السياق ذاته، وصف المبعوث الألماني إلى سوريا، ستيفان شنيك، الاتفاق بأنه “فرصة تاريخية لتحقيق سلام مستدام في سوريا والمنطقة”، وأكد شنيك أن نجاح الاتفاق يعتمد على “استعداد الأطراف السوريّة لتقديم التنازلات، وبناء الثقة، والعمل على تحقيق المصالحة الوطنية الحقيقية”، وأعرب عن تفاؤله بشأن مستقبل سوريا، معتبرًا أن هذا الاتفاق يمثّل “نقطة تحول في مسار الأزمة، وفرصة لإنهاء سنوات من الصراع والدمار”.
يرى المراقبون أن الترحيب الواسع بهذا الاتفاق يعكس حجم الآمال المعلّقة عليه، ليس فقط في إنهاء الصراع السوري، بل أيضًا في إعادة رسم معادلة التوازن في المنطقة، فالدعم العربي والكردي والدولي لهذا الاتفاق يشير إلى أن هناك رغبة حقيقية في إيجاد حلول سياسية تضمن مشاركة جميع السوريين في بناء مستقبلهم، بعيدًا عن الإقصاء والتهميش.
ومع هذا الدعم الدولي والإقليمي، يبدو أن الاتفاق يُشكِّل فرصة تاريخية لتحقيق استقرار طويل الأمد في سوريا، ويؤسس لمرحلة جديدة من الحوار الوطني الشامل.
محاولة لتشويه الاتفاق
وكعادتها، لم تستطِع تركيا إخفاء امتعاضها من الاتفاق الذي وقِّع بين رئاسة المرحلة الانتقالية السورية وقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، خاصةً أنه تم برعاية خليجية وأمريكية ودولية، بعيدًا تمامًا عن أي دور لأنقرة في صياغته أو التأثير عليه. هذا التجاهل الدولي لتركيا، التي لطالما سعت إلى فرض أجندتها في الشأن السوري، شكّل ضربة سياسية موجعة لنظام رجب أردوغان، الذي كان يأمل في استمرار حالة الفوضى وإبقاء شمال سوريا رهينة للمجموعات المرتزقة التابعة له.
الإعلام التركي سارع، وفق المعتاد، إلى شن حملة تشويه واسعة ضد الاتفاق، وبدأت وسائل الإعلام الموالية لأردوغان بالترويج لفكرة أن ما جرى “استسلام” من قبل قوات سوريا الديمقراطية وليس “اتفاقًا متكافئًا”، وكان الهدف من هذا السرد هو إضعاف أهمية الاتفاق، وتصويره على أنه تنازل من قسد لصالح دمشق، رغم أن الواقع يشير إلى أن الاتفاق جاء تتويجًا لسنوات من النضال السياسي والعسكري الذي خاضته الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا وقواتها العسكرية.
لكن على الرغم من هذه المحاولات الإعلامية للتشويه، لم يكن أمام أردوغان سوى الإقرار بالواقع، إذ أدلى بتصريح يوم 11 آذار قال فيه: “الفائز في هذا الاتفاق هو جميع السوريين”، في محاولة منه للتغطية على خيبة الأمل التركية، وأضاف أردوغان أن تنفيذ الاتفاق بالكامل “سيُساهم في أمن واستقرار سوريا”، وهو تصريح يعكس ازدواجية الموقف التركي، حيث أن النظام التركي لم يدّخر جهدًا خلال السنوات الماضية في إطالة أمد الأزمة السوريّة عبر دعم المجموعات المرتزقة التابعة له، مثل فرقة السلطان مراد، وفرقة الحمزات، وسليمان شاه (العمشات)، التي عاثت فسادًا في المناطق المحتلة من الشمال السوري، وارتكبت انتهاكات جسيمة ضد السكان الأصليين.
ومع أن تصريح أردوغان بدا وكأنه ترحيب بالاتفاق، إلا أن الكواليس كشفت عن قلقٍ تركي متزايد من تبعات هذا التطور، فقد نقلت وكالة رويترز عن مصدر تركي مُطّلع أن أنقرة تتعامل مع الاتفاق “بتفاؤل حذر”، لكنها ترفض الاعتراف صراحةً بحجم الضرر الذي لحق بمخططاتها في سوريا، وأضاف المصدر أن “تركيا ستراقب كيفية تنفيذ الاتفاق قبل اتخاذ أي موقف رسمي تجاهه”، في إشارة واضحة إلى أن أنقرة تبحث عن أي فرصة لعرقلته أو التشويش عليه، خاصةً وأنه يفتح الباب أمام تعزيز سلطة الدولة السوريّة ويمنح قوات سوريا الديمقراطية دورًا أكثر رسمية في البلاد، وهو ما يهدد المشروع التركي القائم على دعم المجموعات المرتزقة وإبقاء المناطق الشمالية خارجة عن سلطة دمشق.
ماذا بعد؟ آفاق المرحلة المقبلة
رغم الزخم السياسي والدبلوماسي الذي أحاط بالاتفاق، فإن تنفيذه على الأرض هو ما سيحدد مدى نجاحه في إحداث التغيير المطلوب. القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، مظلوم عبدي، أكد في تغريدة نشرها على منصة “إكس” يوم 11 آذار الجاري، أنهم يعملون مع سلطة دمشق لضمان مرحلة انتقالية “تعكس تطلعات شعبنا في العدالة والاستقرار”، وأضاف أن الاتفاق يُمثّل “فرصة حقيقية لبناء سوريا جديدة تحتضن جميع مكوناتها وتضمن حُسن الجوار”.
في المقابل، لا تزال التحديات قائمة، فدمشق أمام اختبار حقيقي في إثبات جديتها في تنفيذ الاتفاق، كما أن المجموعات المرتزقة المدعومة تركيًا قد تحاول تعطيل أي خطوة من شأنها تعزيز الاستقرار في البلاد. أضف إلى ذلك، أن القوى الدولية، رغم دعمها المبدئي للاتفاق، لا تزال تترقب طريقة تنفيذه، مع إبقاء أوراق الضغط السياسي في أيديها.
ما حدث في العاشر من آذار 2025 قد يكون محطة مفصليّة في تاريخ سوريا، ليس فقط لأنه يمثّل تحولًا في علاقة دمشق مع الكرد، بل لأنه قد يكون بداية لتغيير شامل في المشهد السياسي السوري. فمع هذا الاتفاق، بات واضحًا أن الحل السلمي هو الخيار الوحيد القابل للتطبيق لإنهاء الأزمة السوريّة، بعد أكثر من عقدٍ على الحرب والدمار.
إذا تمكنت الأطراف المعنية من الالتزام ببنود الاتفاق والعمل على تنفيذها بِحسن نية، فقد يكون هذا الاتفاق هو اللبنة الأولى لبناء سوريا جديدة، ديمقراطية ومتنوعة، تضمن حقوق جميع أبنائها، وتنهي عقودًا من الصراعات والانقسامات.