محمد عيسى
مع تصاعد الأحداث في الساحل السوري منذ السادس من آذار 2025، وجدت البلاد نفسها أمام مشهد دموي جديد يُعيد إلى الأذهان المجازر الطائفية والانتهاكات التي لطالما ميّزت النزاع السوري.
شهدت مناطق الساحل وجبال اللاذقية عمليات تصفية على أُسس طائفية ومناطقية، راح ضحيتها الآلاف من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، هذه الأحداث تضع سلطة دمشق التي يرأسها أبو محمد الجولاني، في موقفٍ حرج، خاصةً بعد أن بات واضحًا أن الفاعل الرئيسي في تلك العمليات تابع لوزارة الدفاع ولهيئة تحرير الشام، رغم محاولاتها إلقاء اللوم على مجموعات خارجة عن القانون.
من ميليشيات مُنفلتة إلى أدواتِ قمعٍ رسميّة
منذ بدء التصعيد الدموي في الساحل السوري في 6 آذار 2025، سعت سلطة دمشق إلى التهرب من مسؤوليتها عن المجازر الوحشية التي استهدفت المدنيين من الطائفة العلوية، متبعةً أسلوبًا مكشوفًا في محاولة تبرئة نفسها من الجرائم التي وقعت تحت غطائها، حيث حاولت سلطة دمشق التملص من مسؤولية ما حدث بإلقاء اللوم على “عصابات مسلحة غير منضبطة” كما وصفتها، إلا أن الوقائع الموثقة بالصوت والصورة كشفت بوضوح أن منفذي الإعدامات الميدانية وعمليات التصفية الطائفية لم يكونوا سوى قوات نظامية ومجموعات عسكرية منظمة، تعمل تحت راية سلطة دمشق وربما بتوجيه مباشر منها.
المفارقة الكبرى في هذه الرواية أن الجولاني نفسه، الذي يسعى اليوم لإلصاق التهمة بمجموعات المرتزقة “العمشات” و”الحمزات”، هو ذاته الذي قام بدمجهما رسميًا ضمن وزارة الدفاع السورية في 30 كانون الثاني 2025، خلال ما يُسمى بمؤتمر “النصر”، الذي كان لحظة مفصلية في ترسيخ حكمه الجديد، بإجراء شكلي رسمي، تم إنهاء أي وجود مستقل لهاتين المجموعتين، وتحويلهما إلى جزء من المؤسسة العسكرية التي يُشرف عليها الجولاني شخصيًا، وهذا ما دعا إلى التساؤل كيف يمكن للنظام الجديد أن يتهم مجموعتين لم يعودا موجودين بشكلٍ مستقل أصلًا؟ وكيف يمكن اعتبار “العمشات” و”الحمزات” مجموعات خارجة عن السيطرة، بينما هما الآن جزء لا يتجزأ من المنظومة العسكرية التي تتلقى أوامرها من رأس السلطة في دمشق؟ إن هذه المحاولة الساذجة لإيجاد كبش فداء تعكس تناقضًا صارخًا، وتكشف إن الجولاني يحاول غسل يديه من دماء الساحل عبر تحميل المسؤولية لمجموعات أصبحت الآن أدوات رسمية في يده.
لم يكن دمج “العمشات” و”الحمزات” في وزارة الدفاع مجرد خطوة تنظيمية، بل كان تحركًا مدروسًا لإعادة تدوير هذه المجموعات من المرتزقة وتحويلها إلى أدوات قمعية شرعية بيد النظام الجديد. الجولاني لم يكتفِ بشرعنة وجودهم داخل الجيش، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث عيّن قائد “العمشات”، المدعو “أبو عمشة”، في قيادة الفرقة 25 بقرار مباشر منه، مما جعله أحد كبار القادة العسكريين في السلطة الجديدة، فهل يُعقل بعد كل ذلك أن يتهم الجولاني رجاله أنفسهم بارتكاب المجازر؟ أم أن هذا ليس سوى تكتيك مكشوف لصرف الأنظار عن مسؤوليته المباشرة في هذه الجرائم؟ أسئلة كثيرة تراودت على الألسن.
اليوم، يحاول الجولاني التبرؤ من هذه المجموعات وكأنها لم تعد تحت إمرته، متناسيًا أنه هو من منحها الشرعية السياسية والعسكرية، وهو من جعلها جزءًا من المنظومة الرسمية التي تدير العمليات العسكرية في سوريا. لم يكن ما جرى في الساحل نتيجة فوضى أمنية أو تصرفات فردية، بل كان حملة عسكرية منظمة، تمت بموافقة ودعم مباشر من أعلى المستويات في السلطة الجديدة. لم تكن هناك “عصابات منفلتة” كما يحاول الجولاني الترويج، بل كانت هناك قوات رسمية تنفذ عمليات قتل ممنهجة، بدعمٍ ورعاية من الدولة نفسها.
قد ينجح الجولاني في ترويج روايته لبعض الوقت، لكنه لن يتمكن من إخفاء الحقيقة لفترة طويلة. القتلة لم يكونوا مجرد عناصر مارقة، بل كانوا رجال الدولة نفسها، يتحركون بأوامرها وينفذون سياساتها القمعية، مما يجعل النظام الجديد مسؤولًا بالكامل عن كل ما جرى.
أرقام صادمة ووحشيّة
حسب تقارير المرصد السوري لحقوق الإنسان، شهدت مناطق الساحل السوري وجبال اللاذقية واحدة من أكثر حملات القتل الجماعي دموية، حيث ارتُكبت 39 مجزرة خلال 72 ساعة فقط، راح ضحيتها 973 مدنيًا، بينهم أعداد كبيرة من النساء والأطفال. هذه المجازر، التي بدأت مع تصعيد العمليات العسكرية في السادس من آذار، لم تكن مجرد نتيجة لاشتباكات مسلحة أو فوضى أمنية، بل كانت عمليات قتل ممنهجة استهدفت شعوب معينة، ضمن مخطط تطهير عرقي واضح، وجرى توثيقها بالصوت والصورة، مما يجعل إنكارها أو التغطية عليها أمرًا مستحيلًا.
حجم الوحشية التي شهدتها هذه المجازر يعكس طبيعة الجريمة التي لم تقتصر على القتل فقط، بل تضمنت أساليب بشعة في التصفية، حيث جرى إعدام مدنيين في منازلهم وأمام أطفالهم، فيما تم اقتياد آخرين إلى مواقع معزولة ليتم إعدامهم جماعيًا ودفنهم في مقابر جماعية. لم تكن هذه المذابح مجرد حوادث فردية معزولة، بل كانت جزءًا من عملية عسكرية منظمة، شُنت بتوجيه من أعلى المستويات في الإدارة السورية المؤقتة، وسط تعتيم إعلامي ومحاولات واضحة لطمس الحقائق.
المرصد السوري لحقوق الإنسان يؤكد أن المسؤولين عن تنفيذ هذه المجازر هم قوات الأمن النظامية وعناصر وزارة الدفاع التابعة لسلطة دمشق، بالإضافة إلى القوات الرديفة التي تعمل تحت إشرافها المباشر. هذه القوات، التي من المفترض أنها تتبع أوامر السلطة الجديدة وتنفذ سياساتها الأمنية، تحولت إلى أداة قمع تستخدمها السلطة لفرض سيطرتها عبر الرعب والدم، وبينما تحاول السلطة الجديدة التنصل من مسؤوليتها عبر إلقاء اللوم على “عصابات مسلحة غير منضبطة”، فإن الأدلة الدامغة، من صور وفيديوهات وشهادات ناجين، تؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه العمليات لم تكن سوى حملة تصفيات طائفية ممنهجة، نفذتها قوات رسمية مُدربة، وفق خطة مدروسة ومُعدّة مسبقًا.
ورغم الضغوط الدولية والمطالبات المتزايدة بإجراء تحقيق مستقل في هذه الجرائم، تواصل سلطة دمشق إنكار تورطها، متذرعةً بحجج واهية، في محاولة فاشلة لتجنب المساءلة، لكن الحقائق الموثقة، وأعداد الضحايا الذين سقطوا خلال أيام قليلة فقط، تكشف مدى التواطؤ الرسمي في هذه المذابح، ومساعي السلطة الجديدة لفرض حكمها عبر القتل والتهجير القسري. إن ما حدث في الساحل السوري لا يمكن اعتباره مجرد تجاوزات أو انتهاكات فردية، بل هو جريمة حرب موصوفة، لا يمكن لأي محاولات تبريرها أو التغطية عليها أن تُسقط المسؤولية عن مرتكبيها.
إدانة واسعة ومطالبات بالعدالة
أثارت المجازر الدامية في الساحل السوري ردود فعل دولية وإقليمية غاضبة، حيث تسارعت الإدانات والمطالبات بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم التي هزت العالم، وسط تزايد الضغوط على سلطة دمشق لوقف العنف فورًا وتحمّل مسؤولياتها القانونية والسياسية، ومع اتساع رقعة الغضب، باتت السلطة برئاسة الجولاني في موقفٍ حرج، إذ أصبح من المستحيل التغطية على حجم الانتهاكات أو التملص من المسؤولية، خاصةً مع تزايد المطالبات بتحقيق دولي مستقل لمحاسبة الجناة.
في 9 آذار الجاري، أصدرت الولايات المتحدة بيانًا رسميًا شديد اللهجة عبر وزير خارجيتها ماركو روبيو، أدان فيه “الفظائع التي ارتكبها الإرهابيون الإسلاميون المتطرفون، بما في ذلك الجهاديين الأجانب”، في إشارة إلى المجموعات التي تم دمجها رسميًا داخل الجيش السوري الجديد. كما أكد روبيو أن واشنطن تقف إلى جانب الأقليات الدينية والعرقية في سوريا، بما في ذلك المسيحيون والدروز والعلويون والكرد، محذرًا من أن هذه الجرائم قد تؤدي إلى إشعال فتيل حرب طائفية واسعة النطاق.
من جانبها، شددت المملكة المتحدة على ضرورة تحقيق العدالة الانتقالية ومعاقبة الجناة، حيث صرّح وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي أن سلطة دمشق تتحمل مسؤولية مباشرة في حماية جميع السوريين دون استثناء، داعيًا إلى محاسبة واضحة وشفافة لكل المتورطين. كما أكدت المبعوثة البريطانية الخاصة لسوريا، آن سنو، أن الوضع في الساحل لا يمكن السكوت عنه، مشددةً على ضرورة إجراء تحقيق دولي مستقل لكشف ملابسات المجازر وضمان عدم إفلات المسؤولين من العقاب.
أما فرنسا، فقد أصدرت بيانًا قويًا أدانت فيه ما وصفته بـالمجازر الطائفية التي ارتُكبت في الساحل السوري، مطالبةً بتحقيقات محايدة تضمن الكشف عن جميع المتورطين، كما حذرت باريس من أن استمرار هذه الجرائم سيؤدي إلى انزلاق سوريا إلى فوضى أكثر خطورة، مشددةً على أن الانتقال السياسي السلمي هو الخيار الوحيد لإنقاذ البلاد من التفكك والعنف الطائفي.
ولم تقتصر الإدانات على الدول الغربية، بل امتدت إلى الداخل السوري، حيث أصدرت الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا بيانًا رسميًا أدانت فيه الجرائم المرتكبة في الساحل، معتبرةً أن ما جرى نكسة خطيرة تعيد البلاد إلى “حقبة سوداء” من العنف الطائفي المنظم، وجاء في البيان: “إن استمرار هذه الجرائم يعيق بناء سوريا المستقبل، سوريا التي تتسع لجميع أبنائها دون طائفية أو شوفينية. إننا نطالب بمحاسبة مرتكبي هذه المجازر، وأن تكون لجان التحقيق نزيهة وشفافة، كي تُكشف الحقائق كاملة، ويُحاسب المسؤولون عنها أمام الشعب السوري والمجتمع الدولي.”
كما أكدت الإدارة الذاتية على أن سوريا لن تتمكن من تجاوز هذه المرحلة الدامية إلا من خلال حوار وطني شامل، يضع أسس نظام ديمقراطي تعددي يضمن حقوق جميع السوريين ويحمي البلاد من مشاريع الإبادة الطائفية، التي باتت تُهدد النسيج الاجتماعي أكثر من أي وقتٍ مضى.
وفي تطورٍ سياسي لافت يعكس حجم الغضب الإقليمي المتزايد، أعلن البرلمان العراقي عن عقد جلسة طارئة لمناقشة إمكانية قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، في خطوةٍ تصعيدية ضد سلطة دمشق، التي لم تعد قادرة على تبرير ما حدث. ووفقًا لما صرّح به مختار الموسوي، عضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب العراقي، فإن الجلسة ستبحث في إمكانية فرض عقوبات دبلوماسية ومطالبة وزارة الخارجية العراقية بقطع العلاقات الرسمية مع دمشق، في رسالة قوية بأن الصمت لم يعد خيارًا أمام الجرائم التي تُرتكب بحق المدنيين. كما أن هذه الخطوة تشير إلى أن انعكاسات المجازر في الساحل لن تقتصر على الداخل السوري، بل قد تؤدي إلى تصعيد دبلوماسي أوسع، وسط حديث متزايد عن احتمال فرض عقوبات سياسية واقتصادية على سلطة دمشق، التي باتت في مرمى الانتقادات الدولية بسبب نهجها القمعي وسياستها الوحشية. ومع تزايد الضغط الدولي، يبدو أن الشرع ونظامه الجديد يواجهون عزلة متزايدة، حيث لم يعد المجتمع الدولي مستعدًا لغض الطرف عن الانتهاكات الجسيمة التي وقعت تحت سلطتهم.
كل هذه التطورات تؤكد أن النظام الجديد في دمشق لم يتمكن من تقديم نفسه كبديلٍ شرعي أو ديمقراطي، بل بات اليوم متهمًا بارتكاب نفس الجرائم التي لطالما أدانها، ليجد نفسه محاصرًا بإدانات دولية وضغوط سياسية قد تُنذر بعواقب وخيمة على مستقبله.
إلى أين يتجه المشهد السوري؟
في ظل هذه التطورات المتسارعة، تبدو سوريا على أعتاب مرحلة جديدة من عدم الاستقرار والفوضى السياسية، حيث يتضح أن سلطة دمشق لم تنجح في تقديم نموذج حكم مختلف عن النظام السابق، بل إن ممارساتها القمعية أظهرت استمرار نفس الذهنية السلطوية التي حكمت البلاد لعقود، ولكن بوجوه وشعارات جديدة. فالوعود التي أطلقتها هذه السلطة بإرساء العدل والديمقراطية سرعان ما انهارت أمام واقع المجازر والانتهاكات التي ارتُكبت في الساحل السوري، والتي لم تكن سوى امتداد لنهج القوة والإقصاء الذي لطالما عانت منه البلاد.
المجازر الطائفية التي شهدها الساحل السوري لم تكن مجرد أحداث عابرة، بل شكلت منعطفًا خطيرًا يطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل سوريا، ومدى قدرة القوى المحلية والدولية على كبح دوامة العنف والانتقام التي تهدد بإعادة البلاد إلى حربٍ أهلية جديدة أكثر دموية، وبينما تتزايد الضغوط الدولية لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم، يبدو واضحًا أن سلطة دمشق تحاول التهرب من المسؤولية، إما عبر التلاعب بالخطاب السياسي أو إلقاء اللوم على جهات أخرى، في محاولة مكشوفة لتبرئة نفسها من الجرائم التي ارتُكبت تحت سلطتها.