رامان آزاد
لم تكن أحداث مناطق الساحل السوريّ مفاجئة، وربطها بالنظام البائد وتداول توصيف الفلول ينطوي على تجاهل وقوع عشرات الضحايا المدنيين، بينهم أكاديميون ونساء وأطفال ومسنون، وكذلك تجاهل الواقع الذي شهدته سوريا وبخاصة مناطق الساحل، على مدى ثلاثة أشهر بعد سقوط النظام السوريّ، اتخذت فيها سلطات دمشق إجراءاتٍ إقصائيّة وتهميش للمناطق. وبدأت الأحداث من حوادث أمنيّة تطورت لاشتباكاتٍ ضاريةٍ، وفيما أطلقت وزارتا الدفاع والداخليّة في سلطة دمشق حملة أمنيّة، أُعلن النفير العام في مناطق عدة وأطلقت المساجد دعوات إلى “الجهاد” وتم تداول شعارات طائفيّة عدائيّة.
موجة عنف واشتباكات ضارية
عقب سلسلة كمائن استهدفت عناصر إدارة العمليات العسكريّة. اُستقدمت تعزيزات عسكريّة كبيرة لدعم القوى الأمنيّة، وانتشرت في مناطق محافظتي اللاذقية. وأسفرت الاشتباكات المتبادلة وحوادث القتل 237 بينهم 142 من المدنيين، والبقية من العسكريّين 50 عنصراً من وزارتي الدفاع والداخليّة التابعة لسلطة دمشق. و45 مسلحاً من مجموعات موالية للنظام البائد، والحصيلة غير نهائيّة، وهناك مفقودون وأسرى، وسط تقارير عن عمليات تصفية، وإعدامات ميدانيّة.
في اللاذقية وطرطوس تم إعدام 136 شخصاً من أبناء الطائفة العلويّة، وفي اللاذقية قتل 76 شخصاً في قرى المختارية والشير ودوير بعبدة وبيت عانا، وفي قرية الشير وحدها عثر الأهالي على جثث 24 مدنيّاً تم إعدامهم بالرصاص، وفي طرطوس قُتل 60 شخصاً بينهم خمسة أطفال، وعشر سيدات قُتلوا في مدينة بانياس. وقال المرصد السوريّ لحقوق الإنسان، إنّه حصل على أشرطة مصورة وشهادات من الأهالي، توثق عمليات إعدام نفذها عناصر من الأمن الداخليّ بحق 69 شخصاً من أبناء الطائفة العلوية، وسط معلومات عن المزيد من القتلى، لم يستطع المرصد توثيقهم.
قتل ستة أشخاص، وأصيب ثلاثة آخرون في قرية التريمسة بريف حماة، بعد أن هاجم مسلحون من عائلة “الشدهان” أشخاصاً من عائلة “عباس”، بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة، بسبب اتهامهم أنّهم من فلول أو شبيحة النظام البائد، ورافق الاشتباكات حالة من توتر وفوضى عارمة سادتِ المنطقة.
وأظهرت المقاطع المصورة مشاهد مروعة لجثث الضحايا الملقاة في الشوارع وأمام المنازل، كما تم تداول العديد من المقاطع لتنفيذ الإعدامات الميدانيّة، ورصدت تلك المقاطع مشاهد من البكاء، وانهيار أهالي الضحايا أمام الجثث. بالمقابل نُشرت عشرات المقاطع التي عكست مشاهد احتفاليّة بدخول مناطق الساحل وتضمن الكثير منها خطابات التهديد والوعيد بالسحق وعبارات طائفيّة وعدائيّة. وكان لافتاً تداول مقطع مصور من داخل حوامة عسكريّة ويظهر فيها مسلحان ملثمان ويلقيان حشوات متفجرة على مناطق في الساحل، في رسالة ردٍّ واضحة.
وتم تداول أنّ ضابطاً برتبة عميد كان من مرتبات الفرقة الرابعة، ويدعى غياث دلة، هو الذي قاد المعارك، وهو متهم بارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية في عهد النظام. إضافة إلى شخص يدعى “مقداد فتيحة” وكان من مرتبات الفرقة “25” التي كان يقودها اللواء سهيل حسن. وتم تداول أنَّ غياث دلة تحالف مع محمد محرز جابر قائد قوات صقور الصحراء سابقاً، والمقيم بين روسيا والعراق، ومع ياسر رمضان الحجل، الذي كان قائداً ميدانيّاً بمجموعات سهيل الحسن.
وفي مدينة حمص، تداولتِ العديد من الصفحات والأقنية نداءً يدعو للتوجه إلى حي عكرمة، ووادي الذهب، وشارع العشاق الذي يسكنه العلويون، وإلى أحياء النزهة والزهرة لملاحقة من سموهم “فلول النظام البائد”. وتم تداول مقاطع لحشود كبيرة تتحرك في شوارع المدينة وتردد شعارات طائفيّة.
المقاطع المصورة وثقت اشتراك عناصر أجنبيّة من التركستان في الحملة العسكريّة، وأظهر مقطع مسلحاً تركستانيّاً أصيب بسبب التعرض لكمين وكان يتحدث بالتركيّة.
ضحايا من حملة الشهادات
صباح الجمعة 07/03/2025 وقعت مجزرة في حي القصور بمدينة بانياس راح ضحيتها عشرات المدنيين، وذكر منشور متداول مقتل يوسف نيوف (70 سنة) وزوجته سعاد حسين، وهي معلمة مدرسة، وابنه الشاب حيدر نيوف وهو موظف بمعمل الإسمنت، وكذلك قتل أفراد من عائلة أخرى من جيرانهم. كما قتل آصف نيوف وعديله بالرصاص أمام بيتهم، وكذلك الصيدليّ الشاب حيدر سلوم، وهو وحيد والديه، وذلك في صيدليته في بانياس. وذكر أنّه جرى نهب محلات وسرقة سيارات وإطلاق النار على سيارات متوقفة.
نعت الصحفية حلا منصور وفاة خالتها الدكتورة ربا الشيخ، وزوجها الدكتور بسام محمد صبح وأولادهم حيدرة صبح طالب طب أسنان والطفل ورد صبح، من سكان حي القصور بانياس.
ونعى الشاب حازم حمامة وفاة والده المدرّس محي حمامة ووالدته المدرّسة خالدية غانم، وشقيقته الصيدلانية الشابة تالة حمامة. كما نعى أهالي بانياس المدرّس مهند حسن وزوجته لينا جنود، وطفلته مينيسا حسن. ومن الضحايا الذين تتم تداول أسمائهم: ثلاثة أشقاء هم الطبيب الشاب إبراهيم عيسى نزهة، والصيدلانية الشابة هزار عيسى نزهة، والصيدلانية الشابة نور عيسى نزهة في حي القصور ببانياس.
ومن ضحايا القتل الجماعيّ لأفراد العائلة الواحدة: تسعة أشخاص من عائلة الشاتوريّ: وهم محمد علي الشاتوري وأشقاؤه غيث ووسام، ومجد، ومنذر أحمد الشاتوري وشقيقه علي، وطاهر يحيى الشاتوري، وحيدر محمد الشاتوري وعلي كامل الشاتوري. وأربعة أفراد من عائلة صارم هم: سحر صارم، وفراس ممدوح صادق، وفارس ممدوح صادق، وأمهم أنعام صارم، كما قُتل أمين سلوم (70 سنة) وزوجته ندى سلوم (65 سنة) ذبحاً بحجة فلول النظام. وعائلة زاهر: ميرزا علي زاهر (أبو علي) وزوجته عفاف منير واصل، وابنهما علي ميرزا زاهر وزوجته زينة عفيف عبود، وأطفالهما ميرزا وجويل. والمهندس المتقاعد شعيب بربهان وزوجته المحامية فاديا نصر، وابنهما الوحيد محمد.
وعلي أحمد حسن وأولاده الدكتور محمود حسن، وأحمد حسن، والصيدلاني ماجد شدود، والصيدلاني حيدرة سلوم، والدكتور بسام سلوم، وزوجته الدكتورة لينا دادا، وابنهم أكرم سلوم.
وتداولت صفحات التواصل الاجتماعيّ أسماء العديد من الضحايا منهم: مازن حسينو، باسم حسينو، ياسر حسينو، زين حسينو، يزن حسينو، والطالبة زينة علي جديد طالبة السنة الثالثة في كلية الطب البشري في جامعة اللاذقية
واستشهدت الطالبة شيندا عادل كشو، من أهالي حي الغربي في مدينة قامشلو، وكانت طالبة سنة أولى في كلية الطب، وقد أصيبت بطلقٍ ناريّ طائش في رأسها أثناء نومها. نتيجة الاشتباكات الدائرة في اللاذقية.
روى شاهد ما جرى في قرية البستان التابعة لمنطقة مصياف، فقال: دخل رتل عسكريّ؛ فاعتقل عدداً من الشباب، ونفذ بحقهم إعدامات ميدانيّة على مرأى من عوائلهم، وفتشوا المنازل وصادروا عدداً من السيارات، ولدى التواصل مع مسؤول يُعرف باسم الشيخ “عبد الرحمن” طلب أن يأتوه بجثامين القتلى، التي رافقتها نساء من أمهات وشقيقات القتلى، وعند الحاجز تم الدعس على الجثامين، وشتم العوائل وتوجيه عبارات طائفيّة، وبعد نصف ساعة تركوا النساء فيما احتجزوا اثنين من شباب القرية، ولا يعرف مصيرهم.
حادث الدعتور وبداية التوتر
شهد حي الدعتور في مدينة اللاذقية توتراً أمنيّاً اعتباراً من يوم الثلاثاء 4/3/2025، فقد هاجم مسلحون دورية أمنيّة قرب دوّار الأزهريّ القريب من حي الدعتور في مدينة اللاذقية، وشهدت المنطقة إطلاق نار كثيف.
وتم تطويق الحي، وإغلاق مداخله، وبدأت عملية أمنيّة في الحي بحثاً عن مسلحين. ووثق المرصد السوريّ، مقتل أربعة مواطنين في العملية، التي قامت بها القوى الأمنيّة في حي الدعتور باللاذقية. بالتزامن مع تطويق مداخل ومخارج الحي بالقوات العسكريّة. ودفعت وزارة الداخليّة والقوات العسكريّة بتعزيزات كبيرةٍ استقدمتها من إدلب إلى الساحل السوريّ، للمؤازرة، بالتوازي مع معلومات عن التحضير لشنِّ حملةٍ أمنيّة في عدة قطاعات في مدينة اللاذقية، والريف لملاحقة أشخاص بحوزتهم أسلحة، ومتهمين بارتكاب انتهاكات. وضمّت التعزيزات عشرات السيارات العسكريّة ومئات العناصر، انطلقوا من ريف إدلب عبر طريق جسر الشغور-اللاذقية.
الخميس 6/3/2025 قتل وأصيب 16 عنصراً من إدارة الأمن العام في ريف اللاذقية، بهجمات لمجموعات مسلحة نفذت كمائن وهجمات، ودارت اشتباكات عنيفة بين الطرفين، بعد وصول تعزيزات عسكريّة من إدلب لشنّ عملية أمنيّة واسعة في اللاذقية وريفها. وتعرضت قرى حرف الساري، وبعبدة ودوير بعبدة، والدالية ووادي القلع، وبيت عانا لقصفٍ مدفعيّ وصاروخي مصدرها الكلية البحريّة، التي تتمركز ضمنها إدارة العمليات العسكريّة. شهدت ناحية الدالية ريف جبلة، وقرية بيت عانا التابعة لها، حملة أمنيّة شنتها القوى الأمنيّة تزامن مع قصف مدفعي، واستمرار الاشتباكات بالأسلحة الرشاشة، وسُمع دوي انفجارات ناجم عن ثلاث قذائف، وقُطعت شبكة الاتصالات عنها. وقرية بيت عانا مسقط رأس سهيل الحسن قائد الفرقة 25 في جيش النظام البائد، ونفذ الطيران المروحيّ غارات استهدفت بيت عانا من جهة قرية معرين، تزامناً مع قصف مدفعي طال قرية دوير بعبدة.
وتم استقدام أرتال عسكريّة للقوى الأمنيّة تضم نحو 20 آلية، بعضها مزود برشاشات “دوشكا” ومصفحات، في إطار حملة أمنيّة، وكان الأهالي قد رفضوا تسليم أي شخص دون إبراز إذن تفتيش، أو وثيقة رسميّة، ما أدى إلى مناوشات مع عناصر الأمن، وتطور إلى إطلاق نار في الهواء لتفريق التجمعات.
وسيطر المسلحون على مناطق عسكريّة لاسيما مطار إسطامو والقرداحة، وتحصنوا في مناطق وعرة في جبال اللاذقية، التي اتخذوها منطلقاً لعملياتهم وتحصنوا في عدة أبنية في مدينة جبلة، التي شهدت فصولاً من حرب شوارع. واستهدفت مجموعات مسلحة الكلية الحربيّة في مدينة جبلة وسط أنباء عن حصار كامل لها، وهاجمت أخرى مبنى المحافظة بطرطوس.
كما استهدف مسلحون، فرع الأمن الجنائي في اللاذقية، ودوت انفجارات وسيطرت القوات العسكريّة على غالبية الحواجز في جبلة، وانتشرت في محيط المدينة، وسلّم العشرات من القوى الأمنيّة أنفسهم للقاعدة الروسيّة في حميميم، بعد محاصرتهم عند جسر حميميم لساعات. وفرضت إدارة الأمن في طرطوس حظراً للتجوال. وفرض الأمن العام حظر تجولٍ في حمص، وفرّق المتظاهرون من شارع الحضارة.
وتظاهر المئات في مدينة إدلب، واللاذقية، وطرطوس، وبانياس، وحمص، ودرعا، ومناطق متفرقة. كما خرجت مظاهرات في طرطوس وحي الدعتور، تلبية لدعوة المجلس العلويّ بالنزول للشوارع، لإيقاف العمليّة الأمنيّة ضد أبناء مدينة جبلة وريفها.
ومنعت القوى الأمنيّة الداخليّ إقامة مجالس عزاء لضحايا العملية الأمنيّة، وفرضت دفنهم ليلاً دون خروج جنازات تشييع لهم، وسط استياء من الأهالي. وليخيم الهدوء الحذر على الحي ذي الغالبية العلويّة بعدما شنّت القوى الأمنيّة حملة اعتقال استهدفت عدداً من الأهالي والمطلوبين والمسلحين، الذين هاجموا دورية لقوى الأمن الداخليّ، وقُطعت الطرقات المؤدية للحي، وسط إطلاق نار كثيف رافقها حالة من الذعر أصابت الأهالي وطلاب المدارس.
قراءة غير صحيحة للواقع السوريّ
وأصدرت الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة لإقليم شمال وشرق سوريا، بياناً رسمياً قالت فيه: “في الوقت الذي نعرب فيه عن قلقنا وحزننا لما يحدث في الساحل، نشير إلى أنَّ السبب الذي أدّى إلى هذا التصعيد هو القراءة غير الصحيحة للواقع السوريّ من السلطات في دمشق، وعدم الأخذ بعين الاعتبار حساسيّة الوضع في سوريا، وخاصة التنوع في المكونات والأطياف، فهكذا تصعيد يجرّ وطننا إلى حافة الهاوية، وقد يكون سبباً في ارتكاب المجازر بحق شعبنا السوريّ”.
وناشد البيان الأطراف بالتحلي بالحكمة وضبط النفس، ووقف التصعيد الذي سيساهم في زيادة الفجوة بين القوى الوطنيّة السوريّة، وسيكون الشعب السوريّ وحده من يدفع ثمن هذه التناقضات. ودعا السوريّين إلى عدم الانجرار خلف من يحاول إشعال حرب أهليّة في وطننا سوريا، لأننا جميعاً سنكون خاسرين، وأعداؤنا هم من سيستغلون ذلك لصالح مآربهم في سوريا.
ونفى القائد العام لقوات سوريا الديمقراطيّة مظلوم عبدي، الجمعة، وجود عناصر للنظام السابق أو لإيران في مناطق شمال وشرقي سوريا كما يُشاع.
وذكر بيان قوى الأمن الداخليّ (الأسايش) نشر على موقعها الرسميّ، أنّ اجتماعاً لقادة من قسد وقوى الأمن الداخليّ عُقد مع قائد قوات التحالف الدوليّ ووفد كبير من شيوخ ووجهاء مدينتي الطبقة والرقة. وجرى خلال الاجتماع بحث التطورات الحاصلة في سوريا بشكل عام وشمال وشرق سوريا بشكل خاص. وأكد المجتمعون ضرورة إيجاد حلول سلميّة للمشاكل العالقة، كما تم التأكيد على ضرورة محاربة “داعش” ودعم الاستقرار والأمن بالمنطقة. وأنّ الأزمة السوريّة لا يمكن حلها إلا بالحوار السوريّ ــ السوريّ، وأبدوا اتفاقهم مع دمشق على استبعاد الحلّ العسكريّ، وسيشكّل وفدٍ من أهالي المنطقة للحوار مع دمشق حول مستقبل المنطقة والدولة السوريّة.
ما شهدته مناطق الساحل يتجاوز توصيفه بالتوتر الأمنيّ أو المواجهات العسكريّة، لأنها جسّدت في كلّ تفاصيلها تناقضاً يستقي عوامله من عداوة مستحكمة وإرثٍ تاريخيّ قديم، تجدد خلال الأزمة السوريّة، ويرى أنصار سلطة دمشق الحالية بأنّه لا يجوز التهاون حيال ما يسمونه “فلول النظام” أو الشبيحة، وهو مصطلحات فضفاضة، تتجاوز أركان النظام وعناصر المؤسسة الأمنيّة سابقاً، وملاحقة المتورطين بالهجوم على الدوريات الأمنيّة، ويؤكد وقوع عشرات الضحايا من المدنيين والأكاديميين، وتصفية عوائل كاملة، أنّ ما حدث كان بدوافع انتقاميّة، ولا تتوفرُ إحصائيّة نهائيّة لعددِ الضحايا بسببِ توسّع نطاقِ العمليات، مقابل حالة تنصل من المسؤوليّة.