حمزة حرب
دعوة للسلام والمجتمع الديمقراطي هو ما وضعه قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان عنواناً لرسالته، التي صدرت مؤخراً وحملت في طياتها احترام الهويات، وحرية التعبير، والتنظيم الديمقراطي، والهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تستند إليها الفئات وهذه الركائز لا يمكن أن تتحقق إلا بوجود مجتمع ديمقراطي ومجال سياسي.
الخطاب بمجمله عكس تحولًا في الرؤية السياسية للقائد أوجلان تجاه مفهوم الصراع المسلح، خاصة بعد فشل الأنظمة الاشتراكية التي ألهمته، وبروز تحديات جديدة لم تكن موجودة في بدايات الحزب، وهذه العوامل هي الأسس التي وضعها القائد خلال مطالبته بحل حزب العمال الكردستاني من خلال مؤتمر يتم فيه اتخاذ مثل هذا القرار
.مساعي سلام تفتقد لركائز الثقة
على الرغم من أن دعوة القائد أوجلان في الـ 27 من شباط لعام 2025 لاقت استحساناً كبيراً داخل الأوساط الإقليمية والدولية إلا
إن خارطة الطريق هذه تعاني من تراكمات ناجمة عن تجارب سابقة مع النظام التركي الذي تنصل وعرقل مساعي عديدة، وهي ما قادت الى انهيار شبه تام في الثقة بين الجانين.
فالثقة بين حزب العمال الكردستاني والأنظمة التركية السابقة على رأسها نظام رجب أردوغان الحالي منهارة بشكلِ شبه كامل، وذلك مرده لتجارب سابقة وكان الحزب على الدوام ماداً يده للسلام وجرت محاولات عدة لإنهاء الحرب وإعلان قرار وقف إطلاق النار إلا أن الدولة التركية لم تلتزم من جانبها.
القائد أوجلان دعا الحزب في آب 1999 لإعلان وقف إطلاق النار من جانب واحد والانسحاب من الأراضي التركية، وهو ما تم بالفعل، وجرى الالتزام به إلى حدٍّ ما حتى عام 2004 حيث شهدت تلك الفترة انخفاضاً في منسوب العمليات المسلحة لحين انهيار هذه التهدئة، فاستؤنف الكفاح المسلح حتى عام 2005. حيث دعا القائد أوجلان، في بيان من عزلته في جزيرة إمرالي عام 2005، الى ضرورة تحوُّل حزب العمال الكردستاني إلى حزب سياسي يدعو إلى الحكم الذاتي بدلاً من الاستقلال التام، في محاولة لإيجاد تسوية مع الدولة التركية، لكن ذلك فشل بسبب التفاف النظام في تركيا على أي مسعى من هذا النوع.
وفي عام 2009، أطلقت الحكومة التركية، برئاسة أردوغان، عمليةً سُيمَت بـ”الانفتاح الديمقراطي”، استهدفت تعزيز الحقوق الثقافية والسياسية للكرد، وفتح قنوات حوار، أعقبها في 2010 طرح حزمة حقوق الإنسان، كان ذلك بهدف مغازلة الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي حينها لكن سرعان ما انهارت تلك المحاولات.
وجرى الكثير من المحاولات للتهدئة على رأسها محاولات 2012، ودعوة القائد أوجلان في نوروز عام 2013، الذي أسفر عن تهدئة كبيرة كان من الممكن البناء عليها بحسب خبراء لكن النظام التركي سرعان ما انقلب عليها عام 2015 ومنذ ذلك الحين لم تصدر أي محاولة للتهدئة لحين إطلاق النظام التركي ومن خلال حليفه القومي دولت بخجلي، الذي أطلق مبادرة للحوار مع القائد أوجلان في 22 تشرين الأول 2024.
وفي تصريح خاص لصحيفتنا “روناهي”؛ تحدث السياسي الكردي البارز صالح مسلم عن مبادرة القائد أوجلان بتأكيده على أن “مبادرة القائد آبو هي فرصة تاريخية لتركيا وتكلف عدة أطراف بعمل كبير، خصوصاً الدولة التركية التي يجب أن تهيئ الظروف للتحول الديمقراطي، وتؤسس لمرحلة جديدة من بناء الثقة المتبادلة وتطلق سراح القائد ليتسنى له حضور المؤتمر، الذي دعا إليه والإشراف عليه بنفسه ومواكبة كل الخطوات التي من الممكن أن يتخذها حزب العمال الكردستاني في المستقبل بحل
نفسه، أو وقف القتال، أو الدخول بخارطة طريق باتجاه الحل الديمقراطي، وهو ما يسهل على القائد أيضاً التواصل مع الأطراف السياسية في الداخل التركي”.
ويرى الكثير من المحللين والمتابعين أن هذا الإعلان الذي أطلقه القائد لم يأت من فراغ، بل جاء نتيجة تحولات داخلية وخارجية دفعت الطرفين إلى مراجعة مواقفهما خصوصاً مع وجود ديناميات جديدة، تتعلق بالمشهد الإقليمي والدولي، جعلت من الضروري البحث عن مخرج تفاوضي للصراع، إذ لم تعد المواجهة المسلحة تحقق أهداف أي من الطرفين لكن يحتاج هذا الإعلان الى العديد من عوامل بناء الثقة لضمان نجاحه.
انفراجاتٌ لتركيا سياسياً واقتصادياً
متابعون يؤكدون أن هذه المباحثات بين النظام في تركيا والقائد عبد الله أوجلان لم تكن وليدة لحظة، بل تعود إلى ما لا يقل عن عامين مع وصول الأطراف الفاعلة على الأرض بأن الحاجة باتت ملحة للوصول إلى تسوية سياسية لإنهاء هجمات الاحتلال التركي على حركة التحرر الكردستانية.
أي حوار مع الكرد قد يُنظر إليه كخطوة إيجابية أمام الدول الغربية، وبوابة لقبولها في الاتحاد الأوروبي، التي تنتقد سياسات القمع التركية ضد الكرد كما أن تركيا تواجه أزمات اقتصادية متزايدة، وملفات دولية مرتبطة بحقوق الإنسان، ما يجعلها بحاجة إلى تحسين صورتها أمام المجتمع الدولي.
إنهاء النزاع والهجمات على حزب العمال الكردستاني يعني تقليل الإنفاق العسكري في جنوب شرق تركيا، والتي كلفت تركيا خلال العقود الأربعة الماضية، أكثر من 360 مليار دولار على أقل تقدير من البعد العسكري إلى جانب الخسائر الهائلة في الاقتصاد والدخل الوطني بشكل عام، مما قد يتيح للحكومة تحويل الموارد التي تصرف على صراعها العنصري هذا، نحو مشاريع اقتصادية ترفع مكانة تركيا عالميا.
التيار القومي التركي بزعامة حزب الحركة القومية ودولت بخجلي والذي يقال: إنه “مرض ودخل في غيبوبة في هذا اليوم الذي صدر فيه الخطاب” قد لا يقبل بأي حلول سياسية تمنح الكرد حقوقًا موسعة، خوفًا من فتح الباب لمزيد من المطالبات القومية.
الدستور التركي الحالي قائم على مبدأ القومية التركية كهوية الدولة، مما يعني أن أي تغيير دستوري يعترف بالكرد قد يواجه مقاومة عنيفة من القوميين؛ لذا فإن أي خطوات يمكن أن تتخذ تركياً تجاه هذه الدعوة يجب أن تقود إلى تعديل الدستور التركي والاعتراف بحقوق الكرد.
وخلال حديثه لصحيفتنا بين صالح مسلم أن “الضامن لإنجاح المبادة وتحقيق السلام هي التغييرات الدستورية التي قد تحصل في تركيا، وتضمن حقوق الشعوب وممارستهم حياتهم وفق أسس الديمقراطية ومعايير الحرية، لكن للكرد تجارب طويلة تجاه الأنظمة المتعاقبة في تركيا أدت لانعدام الثقة في هذا المنحى، لذا فإن وجود طرف ثالث سيعزز من سير ونجاح هذه المبادرة وضمان عدم التنصل من النظام التركي، فممكن أن يكون هذا الطرف الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة أو الأمم المتحدة أو أي دولة ثالثة تكون شاهدة على أي اتفاق مستقبلي لكن الضمان الحقيقي هو الدستور”.
هذه الخطوات ممكنة إذا تبنّت تركيا نهجًا إصلاحيًا، وذلك من خلال تعديل بعض القوانين لتعزيز حقوق الكرد، مثل السماح باستخدام اللغة الكردية في التعليم والإعلام الرسمي، وفتح المجال أمام أحزاب كردية بالمشاركة السياسية دون تهم الإرهاب المعدة مسبقاً.
صالح مسلم أضاف: “إن دول العالم جميعها لها مصالح في معادلة الشرق الأوسط الجديدة، وهم يبحثون عن نجاح أهدافهم والوصول إلى نتائج ملموسة من هذه المعادلة؛ لذا التهدئة تصب في صالح الجميع وهذا ما رأيناه من ردود فعلٍ إقليمية وعالمية مؤيدة لخلق تهدئة بين حزب العمال الكردستاني والنظام في تركيا؛ لأن ذلك سيحقق ويضمن مصالح هذه الأطراف وعلى رأسها الحلف الأطلسي الذي يضم حوالي 30 دولة بما فيها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا وغيرها الكثير. لذا؛ هم مطالبون اليوم بالضغط على الجانب التركي لخلق تهدئة حقيقية تمهد لأن تكون أرضية لبناء السلام في الشرق الأوسط، وهو ما يبحث عنه الجميع”.
وبناءً على ذلك بدا إعلان حزب العمال الكردستاني وما صدر عن لجنته التنفيذية في بيانٍ تضمن وقف إطلاق النار مع تركيا، اعتباراً من الأول من آذار لعام 2025، استجابة لدعوة تاريخية لإلقاء السلاح وحل الحزب وجَّهها قائد الحزب عبد الله أوجلان من عزلته في إمرالي في بحر مرمرة، غرب تركيا، في خطوة رحَّب بها رئيس النظام التركي رجب أردوغان وهو ما يعني موافقة ضمنية على وقف إطلاق النار مع الحزب.
وشددت اللجنة التنفيذية على وجوب ضمان تحقيق الظروف التي تمكَّن القائد عبد الله أوجلان من “العيش والعمل بحرية جسدية، وأن يكون له اتصال مع كل من يريد، بمن في ذلك رفاقه، دون عوائق ونأمل أن تفي مؤسسات الدولة المعنية بمتطلبات ذلك”.
“حق الأمل” حقٌ للقائد أوجلان
على الرغم من العزلة الشديدة ونظام الإبادة والتعذيب الشديد في إمرالي، وانتهاك القوانين الدولية وحقوق السجناء، فقد حُرم القائد أوجلان من “حق الأمل”، ووفقا لهذا القانون، يمكن أن يتمتع القائد أوجلان بالحق في الحرية وذلك وفقاً للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان DMME وهذا القانون يمنع أن يبقى أي سجين في السجن إلى الأبد، وبعد أكثر من 20 عاماً في السجن، يحق له مراجعة قضيته والبقاء خارج السجن لبقية حياته.
في 18 آذار 2014، قررت محكمة العدل الأوروبية بشأن طلب عام 2003 لمحامي القائد أوجلان، وقالت: إن عقوبة السجن المؤبد الشديدة التي صدرت على القائد عبد الله أوجلان تتعارض مع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، ورغم هذا القرار المسمى “أوجلان 2” لم تتخذ تركيا خطوة واحدة.
استأنف مكتب القرن القانوني القرار أمام لجنة وزراء مجلس أوروبا مرة أخرى في التاسع من آب 2022 لإجراء عملية مراجعة لتركيا لإصدار قوانين في سياق “الحق في الأمل”، وعلى الرغم من أن النظام في إمرالي ليس قانونياً، إلا أن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان تتضمن بعض الحقوق وفقا لقانونها، وبحسب هذا القانون، قررت محكمة حقوق الإنسان إعطاء حق الأمل للقائد أوجلان، لكن لم تقبل الحكومة التركية هذا القرار. وفي 18 كانون الأول 2022، قدمت الدولة التركية “خطة عمل” إلى لجنة وزراء مجلس أوروبا بشأن العزلة على قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان، ورفضت مرة أخرى تنفيذ “حق الأمل” ومُنِع القائد عبد الله أوجلان حينها من الاجتماع مع محاميه منذ عام 2011، وبعد الاجتماع في الخامس من نيسان 2015 مع وفد إمرالي، دخلت العزلة الشديدة حيز التنفيذ في إمرالي ضد القائد أوجلان، الذي تعرض للاعتقال جراء مؤامرة دولية في 15 شباط 1999 في نيروبي، عاصمة كينيا، منذ أكثر من 26 عامًا في جزيرة إمرالي ووفقا للمواثيق فإن حق الأمل في الحياة حق للقائد أوجلان.
وبهذا الصدد بين السياسي الكردي صالح مسلم خلال مداخلته لصحيفتنا أنه “يتعين على الدولة التركية أن تُبدي إجراءات ” حسن النية ” كالإفراج عن المعتقلين أو حتى التراجع عن القرارات التعسفية، التي أدت الى عزل رؤساء بلديات واعتقالهم وهو ما سيكون امتثالاً لعنوان المبادرة التي تحمل اسم “السلام والمجتمع الديمقراطي” فيجب أن تتضح معالم هذا المجتمع الديمقراطي، وأيضاً هي تندرج في سياق الأطر القانونية في الحياة الديمقراطية، والتي حرم منها القائد كـ”حق الأمل في الحياة” وغيرها من النظم الحقوقية”.