محمد عيسى
تشهدُ منطقةُ الهلالِ الخصيب إعادة تشكّل لموازين القوى الإقليميّة، حيث تتنافس قوى عدة على ملء الفراغ الذي خلّفه التراجع الإيرانيّ، خاصةً بعد حرب إسرائيل وحماس في السابع من تشرين الأول 2023 وتدخّل حزب الله في الحرب وسقوط النظام السوريّ في 8 كانون الأول 2024، وما تبِعه من تغيّراتٍ جذريّة في المشهد السوريّ والإقليميّ، وتسعى المملكة العربية السعودية لإعادة ترتيب المشهد الجيوسياسيّ لصالحها، محاولةً سد الفراغ الذي تركته إيران، بينما تسعى تركيا وقطر أيضاً لتوسيع نفوذهما، لكن بأساليب مختلفة، حيث تعمل أنقرة على ترسيخ سيطرتها من خلال دعم المجموعات الإرهابيّة والمرتزقة في سوريا.
استراتيجية ملء الفراغ الإقليميّ
في ظلِّ التحولات الجيوسياسيّة الكبيرة التي تشهدها المنطقة، تسعى المملكة العربيّة السعودية إلى تعزيز دورها كقوةٍ محوريّة في الشرق الأوسط، في مسعى واضحٍ لتحلّ مكانَ النفوذ الإيرانيّ الذي بدأ ينحسر بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة، ويأتي ذلك في سياقِ انهيار عددٍ من القوى والكياناتِ التي كانت تدور في فلك إيران، مثل حزب الله في لبنان وحركة حماس في غزة، والتي تعرضت لضغوطٍ كبيرةٍ أدت إلى تراجع دورها وتأثيرها الإقليميّ.
شهدت الحرب بين إسرائيل وحماس التي اندلعت في 7 تشرين الأول 2023 تحت اسم “طوفان الأقصى” تصعيداً عسكريّاً غير مسبوق، واستمر القتال لمدة 14 شهراً حتى انتهت الحرب في 15/1/2025، باتفاقٍ هشٍ لوقفِ إطلاق نار، وكانت هذه الحرب، نقطة تحوّل في القضية الفلسطينيّة والصراع مع إسرائيل، وأظهرت ضعف حركة حماس، وكذلك تأثير الموقف العربيّ وتعرضت “حماس” لخسائر كبيرة على مختلف الأصعدة، سواء على المستوى العسكريّ أو السياسيّ، وفتح انهيار لحركة حماس المجال أمام السعودية للقيام بدورٍ أكبر في المنطقة، خاصةً بعدما باتت الرياض تمتلك القدرة على كسب التأييد العربيّ والدوليّ في مناهضة توسع النفوذ الإيرانيّ.
وفي لبنان، حيث كان حزب الله يُشكل القوة الرئيسيّة المدعومة من إيران في مواجهة القوى السياسيّة الأخرى، وفيما فتح الحزب جبهة مساندة لغزة تعرض لانتكاسةٍ عسكريّة كبيرة وقُتل عدد من قياديي الصف الأول بما فيهم أمينه العام حسن نصر الله، وشهدت البلادِ تطوراً بارزاً في 9 كانون الثاني 2025، بانتخاب مجلس النواب اللبنانيّ العماد جوزيف عون، قائد الجيش اللبنانيّ، رئيساً للجمهورية. بعد أكثر من عامين من الفراغ الرئاسيّ، ما شكّل خطوة إضافيّة لإضعافِ النفوذِ الإيرانيّ في لبنان، فقد كان حزب الله يحاول الهيمنة على السلطة السياسيّة في البلاد واحتكاره بأشخاص تؤيد نهجه الفكريّ والعقائديّ فقط، وخاض حرباً بالوكالة، وبالمجمل؛ فإنّ أيّ تراجع للنفوذ الإيرانيّ يعني مكاسب لصالح السعودية، التي تسعى إلى ملء الفراغ السياسيّ وتعزيز دورها في مختلف الملفات الإقليميّة.
بناءً على هذه المعطيات، يبدو أن المملكة العربية السعودية تتجه نحو استبدال النفوذ الإيرانيّ في الشرق الأوسط، مستفيدةً من الانهيار التدريجيّ للكيانات المدعومة من طهران، وتعملُ الرياض على تعزيز وجودها في المنطقة من خلال دعم الاستقرار السياسيّ في لبنان وغزة، وفي الوقتِ نفسه تدفعُ بقوةٍ نحو حلّ الأزماتِ الإقليميّة وفق ما يتناسب مع مصالحها الاستراتيجيّة، ويعزز مكانتها الإقليميّة بما تملكه من قدرة التأثير في مجريات الأحداث.
سوريا التحدي الأكبر
أدركت المملكة العربيّة السعوديّة أنَّ التطوراتِ الجيوسياسيّة التي شهدتها سوريا بعد سقوط نظام الأسد توفر لها فرصة ذهبيّة لاستعادة مكانتها ودورها المحوريّ بالمنطقة، بعد غياب دام عقداً من الزمن، وتزامن هذا الغياب مع انشغال المملكة في ملفاتٍ إقليميّةٍ أخرى في مقدمتها الحربُ في اليمن، ما أتاح لتركيا وقطر استغلال الفراغ السياسيّ والتمدد عبر دعم المجموعات المرتزقة التي كانت تحظى بحمايةٍ وتمويلٍ من أنقرة والدوحة، ما أفضى إلى احتلال تركيا لأجزاء واسعة من الأراضي السوريّة، وقد سمح هذا النفوذ التركيّ القطريّ بتعزيز الاحتلال التركيّ على مناطق استراتيجيّة في سوريا، وإحداثِ خللٍ في التوازنِ الإقليميّ، فكانتِ النتيجة تفاقم الأزمات الإنسانيّة والاقتصاديّة في البلاد.
إلا أنّ الرياض، التي شهدت حالة من التباطؤ في تحركات أنقرة والدوحة في التعامل مع المشهد السوريّ بعد سقوط الأسد، قررت استغلال الفرصة لإعادة ترتيب الأوضاع، وتدعيم مكانتها في سوريا عبر تبني استراتيجية جديدة ترتكز على دعم السلطة السوريّة المؤقتة وتعزيز حضورها السياسيّ في دمشق. ومنذ البداية، بدت المملكة عازمة على استعادة تأثيرها السياسيّ والإقليميّ في سوريا.
وكانت الرياض قد قطعت علاقاتها الدبلوماسيّة وأغلقت سفارتها في دمشق 2012، أسوة بدول خليجيّة أخرى، في شباط 2012، احتجاجاً على استخدام القوة في قمع الاحتجاجات الشعبيّة، وفي آذار 2023، أعلنت الرياض أنّها تجري مباحثات تتعلق باستئناف الخدمات القنصليّة مع دمشق، وقادت حراكاً عربيّاً لتستعيد دمشق مقعدها في الجامعة العربيّة في قمة جدة التي حضرها رئيس النظام السابق بشار الأسد في 13/5/20223، وكان ذلك في إطار خطة لاحتواء سوريا عربيّاً وإبعادها عن إيران، وفي 1/10/2023 عينت السعودية سفيراً لها في دمشق.
ويوم سقوط النظام السوريّ أصدرت الخارجيّة السعوديّة بياناً عبّرت فيه عن موقفٍ إيجابي داعمٍ لخيارات الشعب السوريّ. وشاركت السعودية في اجتماع لجنة الاتصال العربيّ بشأن سوريا في العقبة في الأردن في 14/12/2024، كما شاركت في صياغة موقف عربيّ بشأن هواجس المنطقة من التحوّل السوري وقواعد دعمه، وفي 23/12/2024 أوفدت مستشار في الديوان الملكيّ السعوديّ إلى دمشق.
وفي 1/1/2025 قام وزير الخارجية في سلطة دمشق أسعد الشيباني، بزيارةٍ إلى الرياض، وشكلت الزيارة علامة فارقة في العلاقات بين دمشق والرياض، وتم خلالها بحث الأوضاع في سوريا، وتنسيق الخطوات اللازمة لدعم الشعب السوريّ في مرحلة ما بعد الصراع، وأبدت السعودية استعدادها لتقديم دعم اقتصاديّ واستثماريّ واسع النطاق، بما في ذلك دعم مشاريع إعادة الإعمار، وإذ يظهر الموقف السعوديّ بموازاة الموقفين التركيّ والقطريّ، فإنّ الرياض تقود محوراً عربيّاً مختلفاً، مقروناً بوعود في تعزيز الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ في البلاد.
لم تكن هذه الزيارة مجرد خطوة دبلوماسيّة، بل كانت بمثابة إشعار ضمنيّ بأنَّ الرياض تسعى إلى استعادة تأثيرها المفقود في سوريا بعد أن هيمنت تركيا وقطر على الساحة طيلة العقد الماضي. فالرياض، التي كانت قد تأخرت في دخول المشهد السوريّ بسبب أولوياتها الإقليميّة، أدركت أن هذا التوقيت يشكل اللحظة المناسبة لتكريس وجودها كلاعب رئيسيّ في إعادة تشكيل الوضع السوريّ.
واحتضنت الرياض اجتماعاً وزاريّاً على المستويين العربيّ والدوليّ حول سوريا في 12/1/2025، بمشاركة وزراء خارجية تركيا ودول مجلس التعاون الخليجيّ، والعراق ولبنان والأردن ومصر وبريطانيا وألمانيا، والولايات المتحدة وإيطاليا، في رسالة واضحة أنّها تقود القاطرة الدوليّة والإقليميّة في فتح العلاقات مع دمشق، وفي 24/1/2025 جدّد الأمير فيصل بن فرحان، وزير الخارجية السعوديّ، خلال زيارته إلى دمشق دعم بلاده سيادة سوريا واستقلالها ووحدة أراضيها، ووقوفها إلى جانب الشعب السوريّ.
وفي تطورٍ لافت، قام رئيس سلطة دمشق “أبو محمد الجولاني” في الثاني من شباط 2025، بأول زيارة رسميّة له إلى الخارج، وكانت وجهته الأولى هي المملكة العربية السعودية، وليس تركيا كما كان متوقعاً، وحملت هذه الزيارة في طياتها رسائل دبلوماسيّة هامة، إذ تعكس بوضوحٍ رغبة سلطة دمشق بالابتعاد عن النفوذ التركيّ والقطريّ، والاتجاه نحو تحالف استراتيجيّ مع الرياض، وهذه الخطوة تكشف عن تحول في السياسة السوريّة المؤقتة، التي تسعى إلى إبعاد الأذرع التركيّة والقطريّة عن سوريا بشكلٍ تدريجي، والتحالف مع المملكة العربية السعودية التي تملك القدرة على تقديم الدعم الاقتصاديّ والاستثماري، فضلاً عن دورها المؤثر في صياغة المواقف السياسيّة في المنطقة.
زيارة رئيس سلطة دمشق إلى السعودية ليم تكن مجرد زيارة رمزيّة، بل رسالة قوية تعكس تحولاً جوهرياً في السياسات السوريّة، فقد جاءت في ترتيبها قبل زيارة أنقرة، في رمزيّة لترتيب الأولويات، وكأنّها تفيد بأنّ السعودية باتت تشكل بالنسبة لسلطة دمشق المؤقتة الخيار الاستراتيجيّ الأفضل، وتقديمها على الهيمنة التركيّة والقطريّة. وفي هذا السياق، سعت الرياض إلى ضمان أن يكون دعمها لسوريا مترافقاً مع خطة شاملة لإعادة الإعمار، وهو ما يهدف إلى تحقيق تغيير جذريّ في موازين القوى الاقتصاديّة والسياسيّة داخل البلاد، وسيشكّل الدعم السعوديّ قوة دفع جديدة لسوريا في مرحلةِ ما بعد النزاع، وسيسهم في إعادةِ ترتيبِ الأوضاعِ السياسيّة والاقتصاديّة بما يتماشى مع المصالح الاستراتيجيّة السعودية في المنطقةِ.
أطماع تركيا وقطر في سوريا
تسعى كلٌّ من تركيا وقطر لتعزيز نفوذهما في سوريا من خلال تحالف استراتيجيّ يخدم مصالحهما السياسيّة والاقتصاديّة، بينما يعاني الشعب السوريّ من تداعيات هذا الصراع المستمر. تركيا، التي تحاول إعادة إحياء نفوذها العثمانيّ في المنطقة، وتواصل توسيع وجودها في شمال سوريا، ليس فقط لأسبابٍ جغرافية، ولكن أيضاً لتأمين مصالحها الأمنيّة والاقتصاديّة، وأبرزها تأمين خطوط النفط والغاز، وعلى رأسها الغاز القطريّ.
أما قطر، فهي تركز على تأمين مرور الغاز القطريّ عبر الأراضي السوريّة، مستفيدةً من الوضع، في حين أنّ معاناة الشعب السوريّ تتواصل. قطر تُساهم في تمويل التوسع التركيّ في سوريا، ما يعمّق الشراكة بين البلدين في هذا السياق. الهدف المشترك لكلا الطرفين هو تحقيق أهدافهما الاستراتيجية على حساب السوريّين، دون أن يكون لهم أي اعتبار.
منذ عام 2009، طُرح مشروع خط أنابيب الغاز القطريّ عبر سوريا إلى تركيا بهدف تزويد الأسواق الأوروبيّة بالغاز القطريّ، وتقليل الاعتماد على الغاز الروسيّ والإيرانيّ، ولم يُنفذ المشروع بعد اندلاع الأزمة السوريّة، وبقي معلقاً ليؤكد أنّه جزءٌ من التنافس الدوليّ والإقليميّ على الموقع الجيوسياسيّ لسوريا، والذي أطال الأزمة السوريّة على حساب معاناة الشعب السوريّ الذي دفع الثمن الأكبر.
يعكس التعاون بين تركيا وقطر في سوريا تنسيقاً واضحاً بين البلدين لتحقيق مصالح مشتركة وخطة متكاملة، بحيث تتوسع تركيا على الأرض وتسعى قطر لضمان مرور الغاز عبر سوريا، وفي تقاسم للأدوار تواصل أنقرة سياستها العدوانيّة مدفوعة بأطماعها وأوهامها العثمانيّة، تدعم قطر هذا المشروع ماليّاً، ما يزيد تعقيد المشهد السوريّ ويؤثر بشكلٍ مباشر على الوضع الإنسانيّ للسوريين.
هل تنجح السعودية في سدِّ الفراغ؟
تسعى المملكة العربية السعودية بوضوحٍ إلى تعزيز دورها كقوةٍ إقليميّةٍ رئيسيّة في منطقة الهلال الخصيب، مستفيدةً من تراجعِ النفوذ الإيرانيّ والانشغالِ التركيّ والقطريّ بأزمات داخليّة وأوضاع اقتصاديّة معقدة. من خلال استراتيجيتها المدروسة، تهدف الرياض إلى ملء الفراغ الإقليميّ الذي خلفته هذه التحديات، وذلك من خلال تعزيز وجودها السياسيّ والاقتصاديّ في سوريا ولبنان والعراق، وكذلك العمل على بناء تحالفات قوية مع دول المنطقة. لكن؛ تحقيق هذا الهدف يتطلب استثماراً طويل الأمد في البنى التحتيّة، سواء على الصعيد العسكريّ أو الدبلوماسيّ، بالإضافة إلى تعزيز العلاقات السياسيّة مع القوى المحليّة والدوليّة، وهذا يتضمن تقديم الدعم لجهود الاستقرار في المنطقة، بما في ذلك مساعدة الدول المجاورة في إعادة بناء اقتصادها وتعزيز قدرتها على مواجهة التهديدات الأمنيّة.
السعودية، باعتبارها القوة الاقتصاديّة الكبرى في المنطقة، يمكنها أن تلعب دوراً محوريّاً في تعزيز الاستقرار الإقليميّ، خاصةً من خلال دعم مشاريع التنمية الاقتصاديّة والمساعدة في إعادة إعمار الدول المتضررة من الصراع. علاوةً على ذلك، تسعى الرياض إلى تصحيحِ التوازنات السياسيّة في المنطقة عن طريق دعم الحكومات الشرعيّة والتنسيق مع القوى المحلية للتصدي للأجنداتِ التي تهدد الأمن والاستقرار.
يعتمد النجاح السعوديّ على قدرتها على الاستمرار في تقديم الدعم المستمر والمستدام للدول العربيّة في الهلال الخصيب، مع الحفاظ على علاقات قوية مع القوى الدوليّة، والسنوات القادمة ستكشف ما إذا كانت الرياض ستتمكن من تحويل هذه الرؤية الاستراتيجيّة إلى واقعٍ ملموسٍ، وبالتالي تأكيد دورها الرياديّ في الشرق الأوسط.