حمزة حرب
بعد انتهاءِ الحروبِ ونفضِ غبار المعاركِ، وتحقيق الثورات أهدافها العسكريّة أو السياسيّة وانهيار أنظمة الحكم المستبدة تبدأ مساعي تحقيقِ العدالة الانتقاليّة، والتي تنطوي على إعادة الكرامة إلى الضحايا، وبناء الثقة بين أطراف الصراع، لتتمكن المجتمعات من بعدها من سدِّ الثغراتِ التي خلفتها الحروب والخلافات، وتنهي المآسي الإنسانيّة. والحاجة ملحة في سوريا للعدالةِ الانتقاليّة بعد كشف الانتهاكات المروعة في السجون، وخاصة صيدنايا والمجازر الجماعيّة، ونزوح نحو سبعة ملايين داخليّاً وتجاوز عدد اللاجئين خارج سوريا أربعة ملايين، إضافة لمئات الآلاف ممن فقدوا حياتهم والمعاقين والمفقودين، ودمار شامل للمدن والبنى التحتيّة.
بعد سقوط النظام السابق وصعود نظام جديد إلى سدة الحكم في سوريا وحتى اليوم، يتوجس الكثير من السوريّين غياب العدالة الانتقاليّة المنشودة، فما هي طبيعة مفهوم العدالة، التي يتحدث عنها الكثير من المحللين والمتابعين والباحثين والنخب السياسيّة ويطالبون بها؟ وهل تسير الأمور فعلاً في سوريا نحو تطبيق مفهوم العدالة الانتقاليّة؟ هذه الأسئلة المشروعة أرقت الشارع السوريّ الذي يتابع عن كثب ممارسات الحكومة الحالية والخطوات التي تتخذها باتجاه رسم معالم سوريا الجديدة.
المقصود بمفهوم “العدالة الانتقاليّة”
العدالةُ الانتقاليّة من المفاهيم التي تُعنى بالفتراتِ الانتقاليّة، مثل الانتقال من حالةِ نزاعٍ مسلح أو حرب أهليّة إلى حالة السلم والعمل الديمقراطيّ، أو من حالة انهيار النظام القانونيّ إلى إعادة بنائه بالترافق مع إعادة بناء الدولة، أو الانتقال من حكمٍ تسلطي ديكتاتوريّ إلى حالةِ انفراج سياسيّ وانتقال ديمقراطيّ يشهد حالة الانفتاح والاقرار بالتعدديّة، وبذلك تعتبر العدالة الانتقاليّة حلقةَ الوصل بين مفهومين عموميين هما؛ الانتقال والعدالة.
تنشأ هذه الفترة غالباً بعد اندلاع ثورة أو انتهاء حرب، ويترتب عليها انتهاء حقبة من الحكمِ السلطويّ القمعيّ داخل البلاد، والمرور بمرحلة انتقاليّة نحو تحولٍ ديمقراطيّ. وخلال هذه الفترة الانتقاليّة يواجه المجتمع إشكاليّة هامة جداً، تتعلق بالتعاملِ مع قضايا انتهاكات حقوق الإنسان، سواءٌ كانت حقوقاً جسديّة أو اقتصاديّة أو حتى سياسيّة. وهي عبارة عن فترة أو مرحلة ما بعد الأزمات أو الثورات، ويُقصد بها العدالة التي تنتقل بالمجتمعات من حالاتِ الصراع إلى حالة التوافق والسلام، وصولاً إلى نظام ديمقراطيّ يمنع تجدد الصراعات.
وفي تقرير للأمين العام السابق للأمم المتحدة، كوفي عنان، تحت عنوان” سيادة القانون والعدالة الانتقالية في مجتمعات الصراع ومجتمعات ما بعد الصراع” والمقدم إلى مجلس الأمن في 23/8/2004، عرف مفهوم “العدالة الانتقالية” بأنّها تشمل “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة من تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة وإقامة العدالة وتحقيق المصالحة. وقد تشمل هذه الآليات القضائيّة وغير القضائيّة على السواء، مع تفاوت مستويات المشاركة الدولية (أو عدم وجودها مطلقا) ومحاكمات الأفراد، والتعويض، وتقصي الحقائق، والإصلاح الدستوري، وفحص السجل الشخصي للكشف عن التجاوزات، والفصل أو اقترانهما معاً.
فالعدالة الانتقاليّة: هي مجموعة من التدابير القضائيّة وغير القضائيّة التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمن هذه التدابير الملاحقات القضائيّة، ولجان الحقيقة وبرامج جبر الضرر، وأشكال متنوعة من إصلاح المؤسسات، وضمان عدم التكرار، وقد تشتمل هذه العمليات لجاناً لتقصي الحقائق، بالإضافة إلى طرق لضمان عدم تكرار الانتهاكات، وهو ما قد يتطلب صياغة دستور جديد أو إصلاح الدستور القديم جنباً إلى جنب مع تبني قوانين جديدة وإيجاد المؤسسات اللازمة.
بهذا السياق يبين الأمين العام لحزب الوطن السوريّ ثابت الجوهر خلال تصريحاتٍ خاصة لصحيفتنا أن “العدالة الانتقاليّة هي مسار متكامل من الآليات والوسائل المعتمدة لفهم ومعالجة أخطاء الماضي إلى جانب جبر ضرر الضحايا ورد الاعتبار لهم، بما يحقق بناء جسور الثقة للوصول إلى المصالحة الوطنيّة، التي من شأنها إرساء الاستقرار وتحقيق ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطيّ يساهم في تكريس منظومة حقوق الإنسان”.
وأشار ثابت الجوهر إلى الواقع السوريّ بالتأكيد على أنّ “مصطلح عدالة ما بعد النزاعات”، الذي مهّد الطريق لوضع مبادئ شيكاغو (2003) بعد سلسلةٍ اجتماعات واستشارات قانونيّة على المستوى الدوليّ، والتي أعدت لتحقيق هذه العدالة التي تندرج ضمن سياقات التحولِ الديمقراطيّ “وهذا التحول يمكن أن يحصلَ بالتوافق التاريخيّ الذي يعتمدُ جملةً من الخطواتِ والإجراءات المسنودة بإرادة سياسيّة وشعبيّة”.
فمفهوم العدالة الانتقاليّة غالباً ما كان حاضراً باستمرار في النقاشات التي أعقبت سقوطَ الأنظمةِ، ومن الشواهدِ في عصرنا الحديث ما شهدته دول الربيع العربيّ، وقد خطت مصر واليمن وليبيا وتونس خطوات مهمة في هذا المجال، إلا أن تعثر الثورات وانقضاض الثورة المضادة ساهما بتعطيل هذه الجهود إلى حدٍّ كبيرٍ.
وكان هناك تجارب وُصفت بالكارثيّةِ للعدالة الانتقاليّة في العالمِ العربيّ مثل تجربة العراق، حيث أُسِّست هيئة اجتثاث البعثِ عام 2003 برئاسة أحمد الجلبي، بغية تطهير الدولة العراقيّة من الكوادر البعثيّة، وخلال عشر سنوات من عمل الهيئة سرّحت الهيئة عشرات آلاف الموظفين من أعمالهم، وقد اكتنف عملية الاجتثاث تسييساً شديداً وغموضاً كبيراً، وهو ما صبغها بسمةِ “الانتقام الطائفيّ”، وبالنتيجة؛ فإنَّ عشرات الآلاف الذي فقدوا وظائفهم أصبحوا أعداء للدولة الجديدة، وأسهموا بشكلٍ كبيرٍ في التمردات المسلحة فيما بعد.
العدالة الانتقاليّة في سوريا
رغم مرور ما يقارب الشهرين، منذ الإطاحة بحكم الرئيس السابق بشار الأسد، في الثامن من كانون الأول 2024، إلا أنَّ الدعواتِ ماتزال تتوالى من قبل قطاعات كبيرة من الشعب السوريّ، بضرورة تحقيقِ العدالة الانتقاليّة من أجل مصالحة وطنيّة تكفلُ الاستقرار في قادم الأيام.
هذه المطالب تكررت في مناطق سوريّة مختلفة خصوصاً بعد اتخاذ الحكومة المؤقتة في دمشق خطواتٍ يراها معظم السوريّين غير موفقة كتشكيل اللجنة التحضيريّة لعقد مؤتمر وطنيّ وكانت اللجنة من لونٍ واحد وطيف واحد ولا تلبي تطلعات السوريّين وآمالهم وهو ما يؤسس لشكلٍ خاطئ من بناء الدولة التعدديّة التي يأمل بها السوريّين.
إنّ الجميع في سوريا يريد العدالة الانتقاليّة، لبدء المسامحة وتحقيق المصالحة التي لن تتم دون ترسيخ أسس ومبادئ سوريا الديمقراطيّة التي عانت ويلات الجرائم والانتهاكات في عهد النظام السابق والذي كشف سقوطه النقاب عن سجل دموي بحق كل مكونات الشعب السوريّ التي ارتكب بحقها أبشع أنواع الانتهاكات اللا إنسانيّة. فبحسب منظمة هيومن رايتس ووتش “استعمل النظام السوريّ السابق، أساليب الاحتجاز التعسفيّ والتعذيب الممنهج، وسوء المعاملة ضد معارضيه، وتمّ الكشف عن عشرات مراكز الاعتقال والاحتجاز، التي كانت تديرها أجهزة المخابرات السوريّة، والتي تستخدم فيها أبشع أنواع وسائل التعذيب”.
من جانبها قالت منظمة العفو الدوليّة في 8/12/2024: إنه “في ظل حكم بشار الأسد، وقبله والده حافظ الأسد، تعرض السوريّون لمجموعة مروعة، من انتهاكات حقوق الإنسان التي تسببت في معاناة إنسانيّة لا توصف، على نطاق واسع، وشمل ذلك الهجمات بالأسلحة الكيميائيّة، والبراميل المتفجرة وجرائم الحرب الأخرى، فضلاً عن القتلِ والتعذيبِ، والإخفاءِ القسريّ والإبادة التي ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانيّة”.
وأضافت: “تدعو منظّمة العفو الدوليّة قوات المعارضة إلى التحرر من عنف الماضي. والخطوة الأهم هي العدالة، وليس الانتقام. إننا نحض جميع أطراف النزاع الراهن على إبداء الاحترام التام لقوانين النزاع المسلح. وهذا يشمل واجب عدم مهاجمة أيّ شخص يعبّر بوضوح عن نيته بالاستسلام، بما يشمل القوات الحكوميّة، ومعاملة أي شخص يُحتجز معاملة إنسانيّة”.
وشدد مراقبون أنَّ ما يعيقُ إمكانية تطبيق العدالة الانتقاليّة هي مظاهرُ الانتقامِ التي سادت بعض المناطق السوريّة على أساس دينيّ أو عرقيّ أو سياسيّ وهو ما بعث برسائل مفادها خطير للغاية بأنَّ البلادَ من الممكن أن تنزلقَ إلى أتونِ حربٍ طائفيّةٍ مقيتةٍ وخطيرةٍ لا يتمناها كل السوريّين.
“المؤتمر الوطنيّ”.. أبعادٌ وتحديات
لا يمكننا الفصلُ اليوم بين العدالةِ الانتقاليّة وأحد أجزائها الهامة وهي المؤتمر الوطنيّ الجامع، لأنّ المؤتمر الوطنيّ هو من سيجلب لسوريا والسوريين حقهم المسلوبَ منذ عقودٍ وهو حرمانهم من المشاركةِ ببناءِ بلدهم وتطبيق أعتى أنواع الإقصاءِ والتهميش بحقهم فمن العدلِ الذي يجب أن يحقق اليوم هو تمثيل أنفسهم في هذا المؤتمر الوطنيّ.
ومن جملة المواقف التي اتخذتها اللجنة هي حالة الإقصاء التي تحدثت عنها والمعايير الانتقائيّةِ للشخصيات، وهو ما حذّرت منه الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا السبت 15/2/2025، من أنّه لا يمكن إجراء أيّ حوارٍ في ظلِّ الإقصاءِ والتهميشِ المتبع من قبل اللجنة التحضيريّة للحوار الوطنيّ في سوريا. إذ ضمّت اللجنة التحضيريّة للمؤتمر، والتي أعلنت عنها الرئاسة السوريّة المؤقتة الأربعاء 12/2/2025، سبعة أعضاء بينهم امرأتان، وذلك في أول خطوةٍ من نوعها في مسار المرحلةِ الانتقاليّة في سوريا بعد أكثر من شهرين على الإطاحة بالنظام السوريّ.
وأكدتِ الإدارة الذاتيّة لشمال وشرق سوريا أنَّ اللجنة التحضيريّة لا تمثلُ كافة أطياف الشعب، وبالتالي هناك حاجة إلى تمثيلٍ حقيقيّ لكلِّ السوريّين دون إقصاءٍ، وأنّ عدمَ المرونةِ الذي يشوبُ اللجنةَ التحضيريّة للحوار الوطنيّ يهددُ بإعادة الوضع إلى النظام المركزيّ القديم. وقد عقد مؤتمر ما يسمى بالحوار الوطني في دمشق في الخامس والعشرين من شهر شباط المنصرم، واستبعد الكثير من الأطراف الفاعلة في سوريا، فهو لم يمثل السوريين. فكلّ من يريدون أن تكون سوريا واحدة موحّدة وقوية، مطالبون بقراءةِ المشهد والواقع السوريّ كما هو، دون أيّ إنكارٍ أو تهميشٍ لأنَّ الحاجة اليوم تقتضي تمثيلاً حقيقيّاً لكلِّ السوريّين دون إقصاءٍ، وكذلك تطويراً واضحاً لمعايير الوحدة والشراكة الوطنيّة السوريّة، مع الأخذ بضروراتِ المرحلةِ الانتقاليّة من خلال مشاركة فعليّة وديمقراطيّة لكلِّ التياراتِ السياسيّةِ والمدنيّة، والمرأة، بما يعكس الحالة التشاركيّة في سوريا، دون تجاهل أو إقصاء إرادة وقرار حوالي خمسة ملايين سوريّ في مناطقنا.
كما شدد مجلس سوريا الديمقراطيّة وعدد من الأحزاب السياسيّة على ضرورةِ عدم تكرار أخطاء الماضي واتباع سياسة الإقصاءِ والتهميش بحق السوريين بكافةِ انتماءاتهم ومشاربهم وتوجهاتهم لأنّ السوريين هم من سيرسمون معالم سوريا الجديدة وليس فئة واحدة أو طيف واحد.
كما تطرق ثابت الجوهر خلال مداخلته الخاصة لصحيفتنا إلى أنّ “المرحلة الراهنة يجب إيلاء الأهمية الكبرى فيها للحوار بين النخب والمكونات السياسيّة في المجتمع كخطوة نحو الانخراط في بناء سوريا الجديدة سوريا التعدديّة سوريا الحرة التي لا اقصاء ولا الغاء فيها لاحد وحين الوصول إلى سوريا تعدديّة ديمقراطيّة حرة تحترم حقوق كل مكوناتها واطيافها حينها نقول إنّ الثورة نجحت في تحقيق أهدافها لأنّه بالعودة إلى أول كلمة قالها الشارع السوريّ في هذه الثورة هي “حرية” وهو ما نحمله كحزبٍ في أهدافنا المتمثلة بالـ “الحرية والعدالة والكرامة” ونسعى جاهدين إلى جانب كلّ القوى الوطنيّة للوصول إلى أهدافنا”.
مبيناً أنّ “إعادةَ الثقة بين مكوناتِ المجتمع السوريّ تمثل حجر الزاوية في أيّة عملية ديمقراطيّة حقيقيّة من شأنها أن تفضي إلى المصالحة الوطنيّة الشاملة ولتحقيق ذلك يتعين على السوريّين تجاوز الانقسامات العرقيّة والطائفيّة، التي عمل النظام السابق على إذكائها طوال فترة حكمه”.
ومن هذا المنطلق يؤكد خبراء القانون والسياسة أن هذه اللجنة أمامها الكثير من التحديات وسط آمال كبيرة للسوريين في الوصول إلى سوريا الجديدة التي من شأنها أن تُبنى على أسس العدالة والمساواة وفق مسارات العدالة التي يجب أن تقوم على الترابط القوي بين إرادة التغيير، التي تحققت والتحول الديمقراطيّ وأهميّة توفر الإرادة السياسيّة لإنجاح هذه التجربة وذلك من خلال إعطاء دور أكبر وأكثر حيويّة للحياةِ السياسيّة من أحزاب وتجمعات مدنيّة وفق أطر ناظمة فهي الضامن الحقيقيّ لصيرورةِ العدالةِ الانتقاليّةِ المرجوة في سوريا.