دجوار أحمد أغا
عندما ولدت الحكومات من رحم السلطة، قامت بتنظيم حكمها في وضع قوانين تحميها وأسمتها دستوراً، فمن خلاله أعطت الحكومات نفسها شرعية وقبضت على الأمور التي تستطيع من خلالها أن تحكم الشعوب والمجتمعات الحرة.
عام 1214 وفي الجزيرة البريطانية، صدر أول دستور مكتوب في التاريخ المعاصر، (الماجنا كارتا) الذي يعني الميثاق الأعظم، عندما نظمت العلاقة بين القوى الرئيسية الثلاث التي تتواجد في البلاد، وهي الملك “جون لاكلاند 1166 ـ 1216” والكنيسة القوية، وطبقة النبلاء البارونات. هذا الدستور الذي هدف إلى إخضاع الملك إلى سلكة البارونات والكنيسة وتنظيم العلاقة فيما بينهم، لم يهتم للشعب أو لحقوقه، بل سعى إلى تشريع سيطرة هذه القوى الرئيسية الثلاث وتوزيع المناصب فيما بينها.
تعريف الدستور
لدى نشوء الدولة، كان لا بد من وجود شيء ما ينظم السلطات ضمن هذه الدولة بموجب قوانين وقواعد يتم الاتفاق عليها. وبالفعل فقد قام الفقهاء وعلماء القانون بوضع مجموعة من القواعد والقوانين التي تنظم الحياة في الدولة وأطلقوا عليه اسم الدستور.
إذاً، يمكننا تعريف الدستور على الشكل التالي: هو أعلى وثيقة قانونية في حكم الدولة، تتضمن هذه الوثيقة القواعد القانونية التي تحدد شكل الدولة ونمط الحكم فيها. كما أنه ينظم السلطات العامة في الدولة ويبين طبيعة السلطات الثلاث المشكّلة لنظام الحكم (التشريعية، التنفيذية، القضائية) وينظم العلاقات فيما بينها، كما يبين الحقوق والواجبات المفروضة على المواطنين ضمن هذه الدولة. أي أن الدستور هو القانون الأعلى الذي يُحّدد إطار وشكل حكم للدولة وينظم العلاقات فيما بين مختلف السلطات، ويصون حقوق المواطنين ويحميها.
دساتير سوريا
منذ أن أُسِّست الدولة السوريّة عام 1920 وحتى يومنا هذا، فقد تم وضع خمسة دساتير لهذه الدولة.
دستور 1920 المملكة السوريّة
أول دستور جرى وضعه في العام 1920. بعد هزيمة العثمانيين وانسحابها من سوريا في العام 1918 على إثر ثورة الشريف حسين ونهاية الحرب العالمية الأولى (1914 ــ 1918)، وبناء على اقتراح الأمير فيصل بن الشريف حسين قائد حيش الثورة العربيّة، تم عقد “المؤتمر الوطني العام” المشكّل من أعضاء مجلس المبعوث العثماني من أبناء بلاد الشام وفي الثامن من آذار 1920 قرر المؤتمر إعلان قيام المملكة العربيّة السوريّة، وتعين فيصل ملكاً عليها دون التنسيق مع الحلفاء (بريطانيا، فرنسا). وقد شكّل المؤتمر لجنة برئاسة هاشم الأتاسي لصياغة دستور للمملكة الذي تألّف من 12 فصلاً و147 مادة. من أهم ما نصّ عليه هذا الدستور كان، اعتبار البلاد تسير وفق مبدأ اللامركزيّة، وأن لكل مقاطعة مجلسها النيابيّ وحكومتها الخاصة وحاكمها المعيّن من الملك ولا يتدخل أحد بإداراتها وشؤونها الداخليّة إلا في الأمور العامة التي هي من اختصاص الحكومة المركزية. لكنه لم يستمر سوى 15 يوماً وكان إنذار غورو ومن ثم الاحتلال الفرنسيّ.
دستور1930 الجمهورية السوريّة
وقعت البلاد تحت الحكم المباشر من فرنسا التي أقامت نظام المقاطعات (دمشق، وحلب، واللاذقية، والسويداء). لكن مع اندلاع الثورة السوريّة الكبرى 1925 من جبل العرب في السويداء بقيادة سلطان باشا الأطرش وانضمام بقية المناطق لها خاصة ثورة الزعيم إبراهيم آغا هنانو في الشمال والمجاهد الشيخ صالح العلي في الساحل، أدّت إلى استقالة رئيس الدولة صبحي بركات وتعيين أحمد نامي رئيساً للدولة السوريّة. بعد ثلاث سنوات، تم تعيين الشيخ تاج الدين الحسينيّ رئيساً للدولة عام 1928. وكانت للشيخ تاج الدين علاقة جيدة مع سلطات الانتداب الفرنسيّ الأمر الذي استفاد منها في الدعوة لانتخابات من أجل جمعية تأسيسيّة تكون بمثابة برلمان. وبالفعل تم تأسيس الجمعية وانتخاب هاشم الأتاسي رئيساً لها وفوزي الغزي وفتح الله آسيون نائبين له. وشكّلت هذه الجمعية التأسيسيّة لجنة لوضع دستور للبلاد وكلّفت إبراهيم هنانو برئاسة اللجنة وبالفعل تمّ انجاز الدستور عام 1930 مؤلفاً من 115 مادة وتمت المصادقة عليه. وكان الدستور يشبه إلى حد بعيد الدستور الفرنسيّ. وجاءت أسوأ بنود هذا الدستور في موضوع الحق الانتخابيّ الذي نصَّ على أنّ هذا الحق يقتصر على الذكور السوريّين ممن تجاوزوا العشرين من العمر! أي أنّه لم يعترف بالمرأةِ السوريّة ولم يسمح لها بحق الانتخاب واختيار من يمثلها.
دستور 1950 الجمهورية العربيّة السوريّة
استمر العمل بدستور 1930 إلى ما بعد الاستقلال. قام الرئيس شكري القوتلي بتعديل المادة التي لا تسمح بانتخاب الرئيس لولاية ثانية مباشرة بعد انتهاء ولايته الأولى. بتاريخ 30 آذار 1949 قام حسني الزعيم بأول انقلاب عسكريّ وأطاح بحكم الرئيس القوتلي، وعلّق العمل بالدستور. لكن حكمه لم يستمر طويلاً إذ قام سامي الحناوي بانقلاب عليه في آب من العام نفسه وتم تنظيم انتخابات لإنشاء جمعية تأسيسيّة من أجل وضع دستور جديد للبلاد.
جرت الانتخابات في الخامس من تشرين الثاني 1950 وشاركت المرأة السوريّة للمرة الأولى فيها. وشكّلت الجمعية التأسيسية التي ترأسها رشدي الكيخا، لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد. وتألّف الدستور الجديد من 166 مادة، وأهم ما تميز به دستور 1950 أنّه وسّع مواد الحريات العامة وحقوق المواطنين إذ بلغت 28 مادة، بينما حافظ على القدرة البرلمانيّة في حكم البلاد وعدم السماح بتوسيع نفوذ رئيس الجمهورية أي السلطة التنفيذيّة. وخلال فترة الانقلاب الثاني لأديب الشيشكلي عام 1951 عُطّل العمل بالدستور لمدة ستة أشهر ثم عاد العمل به، وخلال فترة الوحدة السوريّة المصرية (1958 ـ 1961) تم وقف العمل به والعمل وفق دستور الإقليم الشماليّ من الجمهورية العربيّة المتحدة الذي وضعه الرئيس جمال عبد الناصر. استمر العمل به إلى قيام البعث بالانقلاب عام 1963وبالتالي إنهاء العمل به نهائيّاً.
انقلاب البعث ودساتيره المؤقتة
بعد الانفصال عن مصر عام 1961، تغلغل حزب البعث العربيّ الاشتراكي بقيادة ميشيل عفلق، وأكرم الحوراني، وصلاح الدين البيطار في مفاصل الدولة والجيش بشكل كبير. وفي الثامن من آذار 1963 قام البعثيون بانقلاب على الدولة وسيطروا على السلطة. وكانت اللجنة العسكرية بقيادة المقدّم صلاح جديد ذات صلاحياتٍ واسعة وتمت ترقية الرائد حافظ الأسد إلى رتبة لواء وتسليمه قيادة القوات الجويّة، ومن ثم وزارة الدفاع. وفي 23 شباط قاد جديد والأسد انقلاباً ضد مؤسسِ الحزب ميشيل عفلق ورئيس الجمهورية أمين الحافظ.
أول قرار صدر عما سُمّي “مجلس قيادة الثورة” كان تعطيل العمل بالدستور، وأصدر المجلس دستوراً مؤقّتاً عام 1964 ومن ثم تم إصدار دستور آخر مؤقت سنة 1969 وآخر دستور مؤقت صدر عام 1971 بعد انقلاب حافظ الأسد.
دستور حافظ الأسد 1973
صبيحة يوم 16 تشرين الثاني 1970، قاد حافظ الأسد برفقة مصطفى طلاس، وإسكندر سلامة الانقلاب على رفاق الأمس، صلاح جديد ومحمد عمران تحديداً. واستلم حافظ الأسد الحكم في سوريا وقام بعزل رئيس الجمهورية نور الدين الأتاسي ووضعه مع صلاح جديد وبقية القادة في سجن المزة العسكريّ. وأجرى استفتاء على منصب رئاسة الجمهورية وفاز فيها لمدة سبع سنوات.
لكي يعطي شرعيّة لحركته الانقلابيّة، قام بتشكيل لجنة لصياغة دستور جديد للبلاد، وكلّف الخبير القانونيّ مظهر العنبري برئاسة اللجنة. وبالفعل قام العنبري ولجنته بإعداد دستور يناسب مقاس الأسد وعائلته وليس الشعب السوريّ، وصدر الدستور في 13 آذار 1973مؤلفاً من 156 مادة. ونص الدستور الجديد على وجوبِ أن يكون الرئيس “عربيّاً سوريّاً” بالإضافة إلى وضع حزب البعث قائد للمجتمع والدولة من خلال المادة الثامنة من الدستور.
أعطى الدستور الجديد رئيس الجمهورية صلاحيات كاملة حتى أنّ بعضها كان فوق دستوريّة. واستمر العمل به إلى حين صدور دستور عام 2012
أسرع تعديل دستوريّ في العالم
بعد موت الرئيس السوريّ حافظ الأسد في العاشر من حزيران عام 2000، تم تكليف نائب الرئيس عبد الحليم خدام بمنصب الرئيس، والذي دعا مجلس الشعب السوريّ للانعقاد مباشرة، وتم اقتراح تعديل المادة 83 من الدستور، والتي تشترط أن يكون المرشح لمنصبِ الرئيس قد أتمَّ الأربعين من عمره، بحيث تصبح بدل ذلك، قد أتم الرابعة والثلاثين من عمره، وهو عمر بشار حافظ الأسد الذي كان قد تمت تهيئته لمنصب الرئيس بعد أن مات أخوه المرشح باسل الأسد في حادثة سيارة على طريق مطار دمشق الدولي عام 1994. ونصَّ القانون الصادر عن نائب رئيس الجمهورية عبد الحليم خدام: “وجاء التعديل وفق القانون رقم تسعة، المؤرخ في 11 حزيران 2000، الموافق 9/3/1421 هـ”
نائب رئيس الجمهورية
بناء على أحكام الدستور وخاصة المادتان 88 و149 منه، وعلى ما أقره مجلس الشعب في جلسته المنعقدة يوم السبت الثامن من ربيع الأول 1421 هـ الموافق للعاشر من حزيران 2000م. يصدر ما يلي:
المادة الأولى، تعدل المادة 83 من دستور الجمهورية العربيّة السوريّة وتصبح كما يلي:
يشترط فيمن يترشح لرئاسة الجمهورية أن يكون عربياً سورياً متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية متماً الرابعة والثلاثين عاماً من عمره.
المادة الثانية: ينشر هذا القانون في الجريدة الرسمية.
عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية
دستور 2012
بعد الأحداث التي شهدتها المنطقة العربيّة بدءاً من تونس، ومصر، وليبيا، والجزائر، وغيرها وصلت رياح التغيير إلى سوريا وخرج الشعب السوريّ من دائرة الخوف القاتل ونزل إلى الشوارع والساحات العامة مطالباً بالحرية في 15 آذار 2011، الأمر الذي شكّل منعطفاً مهماً وخطيراً في تاريخ سوريا المعاصر. وخلال تشرين الأول 2011 أصدر بشار الأسد مرسوماً بتشكيل لجنة إعادة كتابة الدستور برئاسة مظهر العنبري واضع دستور 1973 أيام الأسد الأب. وفي 26 شباط تم طرح الدستور الجديد على الاستفتاء وبحسب وزارة الداخلية السوريّة وقتها فإنّ 57% من الناخبين شاركوا في الاستفتاء وبالتالي تمّ إقرار الدستور والعمل به.
الدستور يتألف من 157 مادة وهو صورة طبق الأصل عن دستور 1973، لكنه قد تجاوز ذلك في المادة 155 والتي أتاحت لرئيس الجمهورية وقتها بشار الأسد، الترشح لدورتين إضافيتين من دون احتساب المدة التي قضاها في الحكم، بالإضافة إلى استمرار تحديد دين المرشح لمنصب رئيس الجمهورية بالإسلام حسب المادة الثالثة من الدستور.
التمايز لصالح الشعوب بين الدستور والعقد الاجتماعيّ
سنكتفي هنا بذكر فقط نقطتين فقط من التمايز الواضح بين بنود العقد الاجتماعيّ لشعوب الإدارة الذاتيّة الديمقراطيّة لإقليم شمال وشرق سوريا ومواد الدستور السوريّ، على الرغم من أنّه هناك الكثير من البنود التي هي في صالح الشعوب وتم تثبيتها في ميثاق العقد الاجتماعيّ.
ـ موضوع اللغة: في الدستور السوريّ وحسب المادة الرابعة فإنّ اللغة العربيّة هي الرسمية في البلاد. بينما في ميثاق العقد الاجتماعيّ فإنّ العربيّة، الكردية، السريانية لغات رسميّة بالإضافة إلى خصوصية بقية اللغات والسماح لهم بالتعلم بلغتهم الأم.
ـ موضوع المرأة: حقوق المرأة في الدستور السوريّ لم تُذكر سوى بشكل عام ومن خلال المادة 23 التي تنصُّ على: “توفر الدولة للمرأة الفرص التي تتيح لها المساهمة الفعّالة والكاملة في الحياة السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة، وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع”. بينما في ميثاق العقد الاجتماعيّ هناك الكثير من البنود التي تحدد دور المرأة وتحفظ حقوقها إلى جانب نسبتها 50% ونظام الرئاسة المشتركة وغيرها من الحقوق التي حصلتها المرأة الحرة من خلال مشاركتها في كتابة وصياغة ميثاق العقد الاجتماعيّ.