محمد عيسى
منذ إعلان مبادرة دولت بهجلي لتحقيق السلام وحلّ القضية الكرديّة، تشهدُ المناطقُ ذاتِ الأغلبيّة الكرديّة في تركيا تصعيداً غير مسبوقٍ في الاعتقالاتِ والاستيلاءِ على البلديات المنتخبة رؤساؤها ديمقراطيّاً، ما يعكسُ بوضوحٍ تناقضاً صارخاً بين التصريحاتِ الرسميّة والممارسات على أرضِ الواقع، وفي الوقتِ الذي تدّعي فيه أنقرة انفتاحها على المصالحة، تواصل سلطاتها الأمنيّة والقضائيّة شنَّ حملات القمع ضد المعارضة، ما يقوّض أيّ فرص حقيقيّة للحوار والسلام.
حملة قمع ضد الكرد
ضمن سلسلة الإجراءات الاستبداديّة، أعلنت وزارة الداخلية التركيّة السبت 15/2/2025 تعليقَ مهام رئيس بلدية مدينة وان عبد الله زيدان من أعضاء حزب المساواة وديمقراطية الشعوب، بتهمة “الإرهاب”، ليكون تاسع رئيس بلدية تتم إقالته، وجاءت الإقالة متزامنة مع السنوية السادسة والعشرين لأسر القائد أوجلان، وجاءت الإقالة بعد حكمٍ تعسفيّ بالسجن لمدة ثلاث سنوات وتسعة أشهر بحق زيدان في 12/2/2025، لتخرج على إثرها المظاهرات الاحتجاجيّة، واعتقلت السلطات الأمنيّة 120 شخصاً من مؤيديّ زيدان.
وأصدر البرلمان الأوروبيّ الخميس 13/2/2025 بياناً يعدُّ أقوى انتقاد غربيّ للإجراءات التي اتخذتها السلطات التركيّة حتى الآن، وعبّر نواب البرلمان الأوروبيّ عن “قلقهم البالغ” إزاء “تجاهل تركيا لسيادة القانون وانتهاك الحكومة للمبادئ الأساسية للديمقراطيّة”، وانتقدوا أنقرة لتعيينها شخصيات مُقرّبة من الحكومة بدلاً من المسؤولين المنتخبين، واستنكر البرلمان الأوروبيّ “الإقالة التعسفيّة وسجن رؤساء البلديات المنتخبين ديمقراطيّاً”، وطالب بالإفراج الفوريّ عنهم وتبرئتهم وإعادة تعيينهم.
وفي 29/1/2025 أقالت وزارة الداخلية التركيّة رئيسة بلدية سيرت، صوفيا ألاغاس، المنتخبة ديمقراطيّاً والمنتمية إلى حزب “المساواة وديمقراطيّة الشعوب”، بحجة ارتباطها بحزب العمال الكردستانيّ، وعيّنت السلطات مسؤولاً حكوميّاً في منصبها، ضمن ما وصفه الحزب المعارض بأنّه “اغتصاب” جديد للإدارة المحليّة، ولم تكن هذه الواقعة الأولى من نوعها، فقد سبق للنظام التركيّ أن أقال العشرات من رؤساء البلديات المنتخبين الذين ينتمون إلى أحزاب موالية للكرد، واستبدلتهم بوكلاء موالين للنظام الحاكم.
في 10/1/2025 اعتقل الرئيسان المشتركان لبلدية آكدنيز، في مداهمات للمنازل في مرسين، وتم تعيين وكيل بدلاً منهما، كما أقيل إقالة ثلاثة أعضاء من المجلس من وظائفهم، وبدأت حملة الإقالات والانقلاب على الانتخابات في 3/6/2024، بإقالة رئيس بلدية جولميرك، محمد صديق أكيش، وصدر بحقه حكمٌ بالسجن لمدة 19 سنة ونصف، وفي 4/11/2024 أقيل ثلاثة رؤساء بلديات، وهم: رئيس بلدية ميردين القامة الكرديّ أحمد تورك، والرئيسة المشتركة لبلدية إيله كلستان شونوك، والرئيس المشترك لبلدية خلفتي التابعة لمدينة رها (أورفا)، محمد كارايلان، واُعتقلت بيرسن أورهان الرئيسة المشتركة لبلدية ديرسم، في 30/11/2024 بعد نحو أسبوع من تعيين وكيل مكانها.
وكان حزب المساواة وديمقراطية الشعوب قد فاز برئاسة 77 بلدية في الانتخابات البلديّة التي جرت في 31/3/2024، وتقوم سياسة الحكومة التركيّة على الاستيلاء التدريجيّ على البلديات في المناطق الكرديّة، وإذ تتذرع بحجج قانونيّة، إلا أنّ ما يحدث يؤكد أنّ الحملة ليست مجرد إجراءات قضائيّة، لأنّ الترشيح للانتخابات يفترض وثائق تثبت عدم وجود موانع قضائيّة، وما تقوم السلطات التركيّة استراتيجيّة ممنهجة لإقصاء الصوت الكرديّ من المشهد السياسيّ، وإضعاف التمثيل الكرديّ في المؤسسات الرسميّة، فهؤلاء المسؤولون لهم توصيفٌ اعتباريّ ويمثلون مئات آلاف الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم في صناديق الاقتراع، ويذكر أنّه بعد الانتخابات البلدية في آذار 2019 تمت إقالة 65 من الرؤساء المشتركين للبلديات من مناصبهم واعتقل كثير منهم، وما زال بعضهم في السجن.
حملة القمع التي تشنها السلطات التركيّة لم تقتصر على إقصاء رؤساء البلديات المنتخبين ديمقراطيّاً، بل امتدت إلى مختلف الشرائح المعارضة، في خطوةٍ تعكس تصميم النظام التركيّ على القضاء على أيّ صوت معارض، خاصةً في المناطق ذات الغالبية الكرديّة، فخلال حملة أمنيّة واسعة شنّتها وزارة الداخليّة التركيّة في 18 شباط 2025، تم اعتقال 282 شخصاً في عملية منسقة استهدفت سياسيين معارضين، صحفيين، أكاديميين، ونشطاء حقوقيّين، إلى جانب أعضاء من أحزاب يسارية، وتوزعت الاعتقالات على 51 محافظة، بما فيها العاصمة أنقرة ومدينة إسطنبول، حيث قامت القوات الأمنيّة بمداهمات جماعية تحت مزاعم الانتماء إلى حزب العمال الكردستانيّ أو تقديم الدعم له.
لم يكن استهداف الصحفيين مجرد خطوة عشوائيّة، بل جاء في إطار منهجيّة واضحة لإسكاتِ الأصوات الإعلاميّةِ التي تنقلُ حقيقة ما يجري داخل تركيا، وباتت الصحافة المستقلة في مواجهةِ خطرِ التصفية المستمرة من قبل النظام الحاكم. وشملت الاعتقالات عدداً من الصحفيين العاملين في وكالات إعلاميّة معارضة، بالإضافة إلى نشطاء في مجال حقوقِ الإنسانِ، وهو ما يعكس سياسة قمعيّة متصاعدة تهدف إلى تجريم كلّ من ينقلُ أو يعبّر عن وجهة نظر مغايرة لرواية النظام الرسميّة، وقد أدانت منظماتٌ حقوقيّة دوليّة هذه الممارسات، معتبرةً أنَّ الحكومة التركيّة باتت تستخدم مكافحة الإرهاب كذريعة لسحقِ أيّ شكل من أشكال المعارضة السياسيّة والصحفيّة.
إضافةً إلى ذلك، لم يسلم الأكاديميون والناشطون السياسيون من موجة القمع، حيث وجهت إليهم تهم مثل “نشر دعاية إرهابيّة”، “تقديم دعم مالي لتنظيمات غير مشروعة”، و”المشاركة في أنشطة تهدد الأمن القوميّ”. وتندرج هذه الاتهامات ضمن النهج المستمر لحكومة أنقرة في خلط الأوراق وتوظيف القضاء لقمع أيّ تحركاتٍ سياسية أو اجتماعيّة تطالب بالحقوق الديمقراطيّة، ووفقاً لمصادر حقوقيّة، فإن العديد من المعتقلين تم احتجازهم دون أدلة قانونيّة واضحة، وهو ما يكشف زيف الادعاءات الحكوميّة التي تحاول تسويق هذه الحملات على أنها إجراءات قانونيّة تستهدف الإرهاب.
المفارقة أن هذه الحملة الأمنيّة المكثفة تتزامن مع تصريحات متكررة للنظام التركيّة حول نيته تعزيز جهود السلام مع الكرد، وهو ما يكشف التناقض الفاضح بين الخطاب السياسيّ والممارسات الفعلية على الأرض، فبينما تدّعي أنقرة أنها تسعى للحوار، تقوم في الوقت ذاته بتصفيةِ أيّ وجودٍ سياسيّ كرديّ شرعيّ، سواء عبر الإقالات القسريّة لرؤساءِ البلديات أو عبر الاعتقالات الجماعيّة التي تطال الصحفيين والناشطين، وهذا التناقض يطرح تساؤلات جوهريّة حول مدى جدية النظام التركيّ في البحث عن حلول سلميّة للقضية الكرديّة، خاصةً مع استمرارِ نهجِ القمع السياسيّ والتضييق الأمنيّ على الحريات العامة.
التضييق على المعارضة التركيّة
حملة القمع التي شنّها النظام التركيّ لم تقتصر على الكرد فحسب، بل امتدت أيضاً لتطالَ المعارضة التركيّة بشكلٍ عام، ما يعكس استراتيجيات الحكومة للتضييق على أيّ قوةٍ سياسيّة قد تشكل تهديداً لرئيس النظام التركيّ أردوغان، ففي 11 شباط 2025، اعتقلت السلطات التركيّة عشرة مسؤولين من بلديات إسطنبول، بينهم العديد من الأعضاء البارزين في حزب الشعب الجمهوريّ (CHP)، وهو الحزب المعارض الأبرز في البلاد، وهذه الاعتقالات جزء من سياسة ممنهجة تهدف إلى تقويض أيّ شكل من أشكال المعارضة الشعبيّة والسياسيّة، ومحاولة تشويه سمعة الحزب ورموزه على الساحة السياسية التركيّة.
وفي 5 شباط 2025، أطلقت النيابة العامة التركيّة لائحة اتهام جديدة ضد أكرم إمام أوغلو، رئيس بلدية إسطنبول وأحد أبرز وجوه المعارضة التركيّة، والمرشح المحتمل لانتخابات رئاسة الجمهورية، تتضمن تهماً بـ”إهانة موظف عام” و”التحريض على الانتقادات ضد العاملين في مكافحةِ الإرهاب”. والتهم الموجهة إليه تُعد بمثابة محاولة قانونيّة لتصفية الحسابات السياسيّة، إذ تطالبُ النيابة بسجنه لأكثر من سبع سنوات ومنعه من ممارسةِ السياسةِ في المستقبل، وتعدُّ هذه الخطوة جزءاً من سياسةِ أشمل يستخدم فيها أردوغان القضاء أداة لقمع المعارضة، لا سيما تلك التي تملك قاعدة جماهيريّة قوية في المدن الكبرى مثل إسطنبول.
التحركات القضائيّة ضد إمام أوغلو، إضافة إلى حملة الاعتقالات الأخيرة ضد مسؤولي حزب الشعب الجمهوريّ، تبرز كيف أنّ النظام التركيّ يتعمد استخدام مؤسسات الدولة، بما في ذلك القضاء والشرطة، لإضعاف الخصوم السياسيين وفرض هيمنته على جميع الأصوات المناهضة له، هذه السياسات تعكس صورة دولة تتجه نحو مزيد من القمع والاستبداد، حيث يُسلب المواطنون حقهم في التعبير والتظاهر ضد النظام الحاكم.
محاولات تركيا لتجنّب التغيير
تدرك أنقرة أن المشهد الإقليميّ يتغيّر بسرعةٍ، خاصة مع ظهور مخططات جديدة لإعادة رسم خرائط النفوذ في الشرق الأوسط. مع تصاعدِ الدورِ الكرديّ في المنطقة، بات النظام التركيّ يسعى إلى إجهاض أيّ تحركات قد تعزز القوةَ الكرديّة، سواء داخل تركيا أو خارجها، بدءاً من حرب إسرائيل وحماس في 2024، ثم حرب إسرائيل ولبنان، وصولاً إلى الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 كانون الأول 2024، وكلّ هذه التغيرات دفع الحكومة التركيّة ممثلاً بحزب العدالة والتنمية الحاكم لإدراك أنّ المنطقة باتت على وشكِ التحول، ما يهدد مستقبلها السياسيّ وبقاءها في السلطة.
في هذا السياق، حاولت أنقرة تحجيم التأثير الكرديّ عبر تفعيل دور دولت بهجلي، زعيم حزب الحركة القومية وحليف أردوغان، الذي طرح مبادرة جديدة في 22 تشرين الأول 2024 تجاه القائد عبد الله أوجلان، زاعماً أنّها تهدفُ إلى تحقيق السلام. ولكن، هذه المبادرة كانت مجرد محاولة لاحتواء القضية الكرديّة وإطالة أمد الصراع، بدلاً من تقديم حلول حقيقية. من الواضح أن النظام التركيّ يماطل في السماح للقائد أوجلان بإصدار تصريحاته حول هذه المبادرة، ما يثبت أنّ الهدفَ الحقيقيّ هو كسب المزيدِ من الوقتِ، وليس تحقيق السلام، وتنطوي المبادرة على تقاسم أدوار بين بهجلي في الواجهة وأردوغان في الكواليس الذي يتطلع إلى تعديلٍ دستوريّ يسمح ببقائه في السلطة.
ورغم هذه المحاولات، استمرت تحركات الأطراف الكرديّة في التصاعد، ما أظهر ضعف محاولات النظام التركيّ، ففي 28 كانون الأول 2024، وبعد موافقة الحكومة التركيّة، التقى عضوا البرلمان عن “حزب المساواة وديمقراطيّة الشعوب”، برفين بولدان وصري سريايا أوندر، مع القائد عبد الله أوجلان في سجن إيمرالي. وفي هذه اللقاء، تم نقل رسائل من القائد أوجلان تدعو إلى الحلول الديمقراطيّة وإنهاء الصراع، مؤكداً أن السلام يمثل ضرورة بالنسبة للكرد، وهو خيارٌ استراتيجيّ لا يمكن التنازل عنه. في هذه اللقاءات، أكد أوجلان التزامه بالقضايا الكرديّة والسلام، وضرورة إيجاد حل سياسيّ شامل يراعي حقوق الكرد.
وفي منتصف شباط 2025، قام وفد من الحزب ذاته بزيارة إلى إقليم كردستان العراق، والتقى بعدد من القياداتِ الكرديّةِ البارزة، مثل مسعود بارزاني ونيجيرفان بارزاني في هولير، وبافل طالباني وقوباد طالباني في السليمانيّة، خلال هذه اللقاءات، تم نقل رسائل أخرى من القائد أوجلان، تتضمن دعوات إلى تبنّي الحلول الديمقراطيّة والعمل على السلام. الرسائل التي بعثها القائد أوجلان إلى نيجيرفان بارزاني وبافل طالباني تؤكد أن القائد أوجلان والكرد يعتبرون السلام أمراً ضروريّاً، ويسعون جاهدين لتحقيقه عبر الحوار والتفاوض، بعيداً عن أيّ تصعيد أو مواجهات.
تكتيكات قديمة وأهداف واضحة
ما تشهده تركيا اليوم من تضييقٍ مستمرٍ على المعارضةِ، واعتقالاتٍ سياسيّةٍ عشوائيّة، واستيلاء على البلديات المنتخبة ديمقراطيّا، يكشف بوضوح أن الحديث عن السلام الذي تروجه الحكومة التركيّة ليس سوى تكتيك مؤقت يهدف إلى كسب الوقت والتلاعب بالوضع السياسي. في حين تدّعي أنقرة أمام المجتمع الدولي أنها تسعى إلى المصالحة وتحقيق السلام، فإن ممارساتها على الأرض تعكس الوجه الآخر للصراع: القمع المستمر، التضييق على الحريات العامة، والاضطهاد الشديد ضد كل من يعارض سياساتها. إذ في الوقتِ الذي تكرر فيه تصريحاتها حول الحاجة إلى حوار وتفاوض، يستمر النظام في إقالة رؤساء البلديات المنتخبين الذين يمثلون الإرادة الشعبية، ويستهدف الصحفيين والأكاديميين والناشطين الذين ينقلون الحقيقة أو يعبّرون عن معارضتهم لسياسات الحكومة.
وعليه، فإن ما تدعيه الحكومة التركيّة من رغبةٍ في تحقيق السلام لا يتماشى مع تصرفاتها القمعية التي تهدف إلى إجهاض أيّ محاولات حقيقية لحل الصراع الكرديّ أو تحسين الوضع السياسيّ داخل تركيا. مع كل هذه الإجراءات، يبدو أن الحكومة التركيّة أصبحت أكثر ارتباكاً أمام المتغيرات الإقليمية المتسارعة، مما يضعها في موقف حرج، فهي تسعى بشدة لمنع أيّ تحول قد يهدد سيطرتها ونفوذها، حتى وإن كان ذلك على حساب الديمقراطيّة وحقوق الإنسان.
وفي هذا السياق، من الواضح أن ازدواجية النظام التركيّ قد أصبحت مكشوفة أمام الجميع، وإذا استمر النظام التركيّ في هذه السياسات، فإنه سيواجه عواقب وخيمة على المدى الطويل، سواء من حيث زيادة المعارضة الداخلية أو تفاقم الوضع الإقليمي، حيث أن هذا النهج الاستبدادي سيقوي العزلة الدولية لتركيا.