محمد عيسى
بسقوط النظام السوريّ، وجدت هيئة تحرير الشام نفسها في قلب المشهد السياسيّ، تقدم جملة وعود بالحوار الوطنيّ والتعدديّة والإصلاح الإداريّ، لكنها سرعان ما أعادت إنتاج نهجها القديم، محتكرة الحكم ومُقصية القوى الأخرى، وبينما تحاول التخلص من إرثها الجهاديّ وكسب الاعتراف الدوليّ، تبقى سياساتها على الأرض عائقاً أمام شرعيتها، وهذا ما أرادت الوفود التي زارت دمشق معاينته واقعاً.
لم يكن ظهور هيئة تحرير الشام مجرد امتداد طبيعيّ للأزمة السوريّة، بل انعكاساً لتحولاتٍ طرأت على الحركاتِ المتطرفة في المنطقة منذ بدء الأزمة السوريّة في آذار 2011. في البداية تبرأت “جبهة النصرة” من كونها امتدداً لـ”داعش” وأعلنت نفسها فرعاً لتنظيم القاعدة في سوريا، وقدمت نفسها كقوةٍ عسكريّة ذاتِ أهدافٍ إسلاميّة، وسرعان ما أصبحت طرفاً رئيسيّاً في القتال ضد النظامِ السوريّ السابق، لكن مع تعقيد المشهد السوريّ وتعدد المجموعات المسلحة، بدأ الخطاب التقليديّ ينحسر ورُفعت شعاراتٌ سوريّةٌ، مع تبني نهجٍ براغماتيّ يتكيّف مع الواقع السوريّ ليضمن البقاء بعد التصنيف على لوائح الإرهاب الدوليّة.
من تنظيمٍ متطرف إلى سلطة أمر واقع
في 24/1/2012، أصدر أبو محمد الجولاني بياناً أعلن فيه عن تشكيل “جبهة لنصرة أهل الشام من مجاهدي الشام”، وحمل البيان بشدة على الدولة التركيّة، وعلى مشروع الجامعة العربيّة الذي حكم عليه بالفشل قبل البدء به، كما هاجم البيان إيران ايضاً.
في 28/6/2016، جاء الإعلان عن فك الارتباط بالقاعدة وتغيّر اسم “جبهة النصرة” إلى “جبهة فتح الشام”، وقال “الجولانيّ” حينها “إنّ فك الارتباط “جاء تلبية لرغبة أهل الشام في درء ذرائع المجتمع الدوليّ”، وشدد على أنّ الجبهة الجديدة “لن تكون لها صلات مع أيّ أطرافٍ خارجيّة”، وكانت تلك خطوة أولى في مسار التخليّ عن الجهاديّة العالميّة إلى المحليّة السوريّة، واستقال عدد من أعضاء مجلس شورى التنظيم وبخاصةٍ من جنسيات عربيّة، لكن تلك الخطوة لم تكن قطيعة حقيقيّة بقدر ما كانت تكتيكاً سياسيّاً يهدفُ إلى تحسين صورة الجماعة على الساحة الإقليميّة والدوليّة، والعلاقة التنظيميّة استمرت سراً وفق ما أفاد به قياديو التنظيم أنفسهم.
جاءت الخطوة الثانية في فك الارتباط في 28/1/2017 بالتحوّل إلى اسم “جبهة تحرير الشام”، وضم مزيد من المجموعات المتطرفة؛ الأمر الذي أثار حفيظة شركاء ما تسمى جهاديين قدماء، ليوجّه أيمن الظواهري في 4/10/2017، كلمة عنوانها نبرة تهديد: “سنقاتلكم حتى لا تكون فتنة” رفض فيها “فك ارتباط” الفرع السوريّ بالقاعدة، واعتبره عقداً شرعيّاً يُحرّم نكثه، وإن البيعة ملزمة وباقية. على إثر ذلك شهدت إدلب اعتقالات وتشكيل تنظيمين عل التوالي هما “أنصار الفرقان” و”حراس الدين”.
استمرت “هيئة تحرير الشام” في تبنّي نهجٍ عسكريّ متشددٍ، وخاضت معارك ضد مجموعات أخرى في إدلب، وأقصتها من المشهد، لتصبح القوة المسيطرة في المنطقة، لم يكن ذلك مجرد إنجاز عسكريّ، بل إعلاناً عن بدء مرحلة جديدة، تتحول الهيئة من مجرد “تنظيم جهاديّ” إلى كيانٍ إداريّ سعى لفرضِ نفسه كسلطة أمر واقع على محافظة إدلب.
في 2/11/2017 أعلنت الهيئة تشكيل “حكومة الإنقاذ” برئاسة “محمد الشيخ” في خطورة للظهور بصورةٍ مدنيّة، ولتكون واجهة سياسيّة لإدارة إدلب، وحاولت بذلك تقديم نموذج شبيه للدولةِ والحكومة، رغم استمرارها في استخدام أساليب الحكم الاستبداديّة، ومواصلة الاعتقالات التعسفية وفرض الأحكام الشرعيّة بالقوةِ، وفي 31/5/2017 أدرجت واشنطن هيئة تحرير الشام على لائحة الإرهاب، وأوضح بيان الخارجية الأمريكيّة أنها عدّلت إدراج “جبهة النصرة” على القائمة بإضافة “هيئة تحرير الشام”، واعتبارها مجرد اسم مستعار لـ”النصرة”.
ورغم الانتقادات الواسعة التي وُجهت إليها، نجحت الهيئة في ترسيخ وجودها، ليس فقط بفضل قوتها العسكريّة، ولكن أيضاً من خلال قدرتها على ملء الفراغ الإداريّ الذي تركه غياب الدولة المركزيّة، وهذا التمركز القوي في إدلب كان مقدمة للتحولات اللاحقة، وهيأ للهيئة فرصة غير متوقعة للخروج لاحقاً من إدلب باتجاه حلب حتى سقوط النظام السوريّ في دمشق.
إلى دمشق واستغلال فراغ السلطة
بعد مرورها بمراحل متعددة، استطاعت هيئة تحرير الشام، إلى جانب مجموعات مسلحة حليفة لها، أن تفجّر مفاجأة غيّرت المشهد السوريّ، عبر عملية عسكريّة أطلقت عليها اسم “ردع العدوان”، في 27 تشرين الثاني 2024 وسيطرت على مدينة حلب في وقت قياسيّ، ولم يكن هذا الحدث مجرد تقدم عسكريّ أو متغيّر ميدانيّ في إطار الحربِ السوريّة، بل كان نتاج عوامل سياسيّة وعسكريّة على المستويين الدوليّ والإقليميّ، ليكون نقطة تحول لتثبيت تغيّر معادلات المنطقة بأكملها.
جاء هذا التطور في توقيتٍ مثاليّ للهيئة، إذ أضعفت الحرب الإسرائيليّة على لبنان وغزة النفوذَ الإيرانيّ في سوريا، وقلّصت قدرات ميليشيات حزب الله الذي لطالما دعم النظام السوريّ السابق. ومع انشغال هذه القوى الإقليميّة، وجد النظام نفسه عاجزاً عن المواجهة العسكريّة، ما أتاح للهيئة التوسع بسرعة، لتسيطر بسلاسةٍ على مدينة حلب، ومن بعدها حماة، ثم حمص، وصولاً إلى العاصمة دمشق، من دون مقاومة تُذكر.
سقوط النظام السوريّ السابق وانهيار السلطة المركزيّة خلّف فراغاً هائلاً، لم تكن هناك قوى جاهزة لملئه فوراً؛ فالفصائل المحليّة كانت غارقة في صراعاتها الداخليّة، بينما، برزت هيئة تحرير الشام فاعلاً ميدانيّاً قادراً على فرض نفسه.
لم يكن دخول الهيئة إلى دمشق نتيجة لقوتها العسكريّة فحسب، بل جاء أيضاً نتيجة تفاهمات غير معلنة مع بعض المجموعات، التي فضّلت الانضواء تحت سلطتها على مواجهة مصير مجهول. كما أنّ بعض القوى الإقليميّة، التي كانت تتعامل بحذر مع الهيئة، وجدت في دعمها خياراً أفضل من الفوضى المطلقة، خاصة في ظل غيابِ أيّ بديلٍ قادر على فرض الاستقرار. نتيجة لهذه الترتيبات، تمكنت الهيئة من دخول العاصمة دون معارك كبرى، فارضةً سيطرتها على مؤسسات الدولة، ومعلنة بداية “مرحلة انتقاليّة”.
لكن هذا الانتقال لم يكن سلساً. فعلى الرغم من محاولات الهيئة تقديم نفسها كسلطة شرعيّة تمثل مختلف مكونات الشعب، إلا أنّها واجهت انتقادات واسعة، ليس فقط بسبب ماضيها الجهاديّ، بل أيضاً بسبب أسلوبِ إدارتها للمرحلة الجديدة. وسرعان ما بدا واضحاً أنَّ الحكم في دمشق لا يختلف كثيراً عن النهج الذي اتبعته الهيئة في إدلب؛ إذ استمرت الاعتقالات السياسيّة، وتواصلت سيطرة الجناح العسكريّ على مفاصل الدولة، ما أثار مخاوف من أن تكون هذه المرحلة محاولة إنتاج سلطة شموليّة لا تختلف عن النظام السابق، ولكن بواجهةٍ مختلفة.
التمثيل الشامل وتأجيل الحوار الوطني
منذ دخولها إلى دمشق وبعد تشكيلها الحكومة المؤقتة، حاولت هيئة تحرير الشام إعادة رسم صورتها، وتقدم نفسها سلطةً تمثلُ جميع السوريّين، وليست مجرد جماعةً إسلاميّة متشددة وفق الصورة النمطيّة، وفي خطاباته الأولى، حرص أحمد الشرع، المعروف بـأبو محمد الجولانيّ، على التأكيد على “الوحدة الوطنية” وضرورة “التعدديّة السياسيّة” و”الحوار الوطني الشامل”، مؤكداً “الانتقال من عقلية الثورة إلى عقليّة الدولة” في محاولة واضحة لمنح الهيئة شرعيّة سياسيّة تتجاوز خلفيتها الأيديولوجيّة.
لكن هذا الخطاب لم يُترجم إلى واقعٍ ملموس، فقد أعلنت الهيئة نيتها عقد “حوار وطنيّ” يهدف إلى إعادة ترتيب المشهد السياسيّ، إلا أنّ هذا الحوار تأجل مراراً دون تقديم أسباب واضحة. ومع مرور الوقت، بدأت الشكوك تتزايد حول جدية الهيئة في الانفتاح السياسيّ، وجاء خطاب الجولاني الشهير، الذي وصِف بأنه “خطاب النصر”، ليؤكد أنّ تأجيل الحوار كان ضروريّاً لـ”ضمان الاستقرار”، وهو تبرير بدا لكثيرين مجرد ذريعة للتهرب من أيّ عملية سياسيّة حقيقيّة.
أثارت هذه التطورات مخاوف واسعة لدى القوى السياسيّة والمدنيّة، التي رأت في سلوك الهيئة استمراراً لنهج الإقصاء والاستفراد بالسلطة، فقد استمرت حملات الاعتقال طالت فلول النظام السابق، ولم يُسمح بتشكيل أيّ أحزاب سياسيّة خارج إطار الهيئة، ما أكّد الانطباع بأنَّ الحديث عن “التمثيل الشامل” لم يكن سوى مناورة سياسيّة تهدف إلى كسب الوقت حتى تتمكن الهيئة من إحكام قبضتها على الحكم.
وفي الوقت ذاته، برزت مخاوف جديدة بشأن تعامل الهيئة مع المكونات الدينية والعرقية الأخرى، فبينما ادعت أنها تمثل جميع الشعوب السوريّة، ظهرت اعتداءات متكررة استهدفت أفراداً من طوائف مختلفة، إلى جانب ممارسات تمييزيّة في بعض المناطق، ما أثار قلقاً واسعاً بشأن نواياها الحقيقيّة. ومع ذلك، حاولت الهيئة التنصل من المسؤوليّة، معتبرةً هذه الأحداث مجرد “أعمال فرديّة” لا تعكس سياستها الرسميّة، لكن هذا التبرير لم يُقنع الكثيرين، خاصةً مع استمرار تقارير تفيد بتعرض المجتمعات غير السنيّة لضغوط متزايدة، سواء عبر تقييد حرياتهم الدينيّة، أو عبر سياسات تهدف إلى تغيير التركيبة السكانيّة في بعض المناطق.
ورغم حديثها المتكرر عن “التمثيل الشامل”، لم نرَ أيّ شخصية من خارج الهيئة تتولى منصباً رئيسيّاً في الحكومة المؤقتة الجديدة. لم يكن هناك تمثيل حقيقيّ للطوائف الأخرى، ولا للقوى السياسيّة غير المنضوية تحت سلطتها، ما أكّد أنّ الهيئة لا تزال متمسكة بالسيطرة المطلقة، وترفض إشراك أيّ طرف لا ينتمي إلى منظومتها الفكريّة والعقائديّة.
كلّ هذه المؤشرات عززت القناعة لدى خصوم الهيئة بأنّها، رغم تغيير خطابها العلنيّ، لا تزال تمارس سياسات إقصائيّة مشابهة لتلك التي اتبعتها خلال سيطرتها على إدلب، وبينما تحاول ترسيخ حكمها عبر أدوات الدولة، يبدو أنّها تواجه معضلة شرعيّة، حيث لا يزال جزءٌ كبير من السوريين، داخل العاصمة وخارجها، يرى فيها سلطة أمر واقع فرضت نفسها بالقوة، دون أن تقدم ضمانات حقيقيّة لمستقبل ديمقراطيّ تعدديّ.
إرث الجهاد وصراع الاعتراف الدوليّ
رغم نجاح هيئة تحرير الشام في فرض سيطرتها، إلا أنّها لا تزال تواجه تحديات كبرى تهدد مستقبلها، داخليّاً وخارجيّاً. وظلَّ إرثها الجهاديّ مرتبطاً بها منذ تأسيسها، ليشكل عائقاً رئيسيّاً أمام محاولاتها تقديم نفسها كسلطة شرعيّة، وعلى الرغم من مساعيها المتكررة لإعادة صياغة خطابها، لا تزال معظم الدول تنظر إليها كجماعة متشددة، ليست فقط من الناحية الفكريّة، بل أيضاً في بنيتها التنظيميّة وأسلوب حكمها، وبينما تحاول الهيئة تجاوز هذا الإرث، تجد نفسها عالقة بين مطالب الاعتراف الدوليّ وضغوط التيار المتشدد داخلها، الذي يرفض أي تغيير جوهري في مسارها.
لكن المشكلة لا تتوقف عند الاعتراف الدوليّ، فمع مرور الوقت، بدأ الاستياء الشعبيّ من حكم الهيئة يزداد، وظهرت بوادر معارضة داخليّة، ليس فقط من القوى السياسيّة الأخرى، بل حتى من داخل صفوف الهيئة نفسها، فهناك تيارٌ داخلها لا يزال يرى في التنازلات السياسيّة تهديداً لهويتها “الجهاديّة”، ويعتبر أيّ محاولة للخروج من عباءة الفكر المتشدد خيانة للمشروع الأصليّ، وهذا الصراع الداخليّ يعكس التحدّي الأكبر الذي تواجهه الهيئة اليوم: كيف يمكنها التحول من جماعة جهاديّة إلى كيانٍ سياسيّ شرعيّ من دون أن تفقد السيطرة على عناصرها الأكثر تشدداً؟
وإذا كانت الهيئة تسعى بالفعل إلى بناء سلطةٍ مستقرةٍ ومستدامةٍ، فلا يمكنها الاكتفاء بتغيير خطابها الإعلاميّ، بل يجب عليها إجراء تغييرات جوهريّة في بنية حكمها، وإثبات أنّها قادرة على تجاوز نموذج “الدولة الجهاديّة” الذي فشلت فيه داعش والقاعدة. يتطلب ذلك الفصل بين الأيديولوجيا وإدارة الدولة، بحيث لا يكون الحكم مبنياً على منطق “التمكين الجهاديّ”، بل على أسسٍ سياسيّةٍ وإداريّة حديثة. كما أنّ استمرار سيطرة الجناحِ العسكريّ على مؤسسات الدولة يعزز الشكوك حول نواياها.
على الصعيدِ الدوليّ، لا يكفي أن تكتفي هيئة تحرير الشام بتقديم خطابٍ سياسيّ معتدل للخروج من عزلتها، بل يتعين عليها اتخاذ إجراءات ملموسة تُثبت أنّها قادرة على التحول إلى كيانٍ سياسيّ يمكن التعامل معه، فالمجتمع الدوليّ لم يعد ينظر إلى التصريحات وحدها، بل ينتظر خطوات فعليّة على الأرض، بدءاً من تفكيك البنية الجهاديّة داخل صفوفها، مروراً بدمج قوى سياسيّة مستقلة في الحكم، وصولاً إلى تقديم رؤية واضحة لسوريا كدولة مدنية قائمة على التعددية والمشاركة الحقيقيّة.
الهيئة اليوم أمام اختبار مصيريّ: إما أن تثبت قدرتها على التحول إلى سلطةٍ سياسيّةٍ حقيقيّة، قادرة على إدارة دولة بما يتطلبه ذلك من التزامات داخليّة وخارجيّة، أو أن تبقى عالقة داخل إرثها الجهاديّ، ما قد يجعلها مجرد مرحلة أخرى في الصراع السوريّ، سرعان ما تنتهي كما انتهى النظام السوريّ السابق. وبينما تحاول تحقيق التوازن بين ماضيها الجهاديّ ومتطلبات البقاء السياسيّ، يبقى السؤال الأهم: هل تمتلك الإرادة والقدرة على اتخاذ قراراتٍ جريئةٍ تُخرجها من هذا المأزق، أم أنّ قيودها الداخليّة ستجعلها عاجزة عن إحداثِ التغيير المطلوب؟
بالمجمل جاء تحوّل أبو محمد الجولانيّ إلى أحمد الشرع نتيجة فشل تنظيم القاعدة في أفغانستان والعراق، واحتاج لجملة خطوات للتخلي عن العمامة وارتداء البدلة الرسميّة مع ربطة عنقٍ، وإرساله مبكراً رسائل مضمونها أنّه لا يشكل خطراً على الغرب، ولكن وحدها الأفعال على الأرض، وليس الخطابات، هي التي ستحدد الحكم وهي معيار التقييم.