حمزة حرب
عام 2019 انهارت أسطورة الرعب والهلع المتمثلة بمرتزقة “داعش” كجسمٍ عسكريّ في آخر معاقله في الباغوز وكان ذلك زواله على الخارطة الجغرافية ونهاية لامتداده المتصل بينما لا زال الخبراء في شؤون الجماعات المتشددة يُحذّرون من أنَّ هزيمة داعش لا تعني انتهاء خطره فالمقاومة ضد التنظيم الإرهابيّ ستستمر، كما هو متوقع، ولكن بتكتيكٍ مختلفٍ يقوم أساساً عبر خلايا نائمة وذئاب منفردة تُنفذُ اغتيالاتٍ وتفجيراتٍ، حتى في مناطق بعيدة عن مواقع انتشارها كالعمليات الإرهابيّة في أوروبا وغيرها من دول العالم.
تُفيد تقديرات للأمم المتحدة بأن عدد مرتزقة داعش في العراق وسوريا يتراوح بين 1500 ــ 3000 عنصراً ما زالوا ينشطون في مناطقَ نائية ويُشكلون تهديداً أمنيّاً حقيقيّاً على المنطقة والعالم، وبناءً على هذه المعطيات يبقى الخطر الحقيقي قائماً خصوصاً مع التحولات المتسارعة التي شهدتها الساحة السوريّة وإحداث حالة الفراغ العسكريّ الذي خلّفته قوات النظام السابق والمجموعات التي تدعمه على الجغرافيا السوريّة.
داعش وبؤر التهديد
العالم ينظر الى مرتزقة داعش على أنّها خطرٌ حقيقيّ يحاول توزيع طاقاته لتبديدِ قدرة التعاون الدوليّ والإقليميّ للقضاء عليه، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك ما يسمى “داعش ـ خراسان” الذي يستمر في تشكيل تهديد كبير في أفغانستان والمنطقة خصوصاً بعدما بات يتمتع التنظيم الإرهابيّ بنوعٍ من الغطاء الرسميّ بعد سيطرة طالبان على الحكم بقرارٍ أمريكيّ بعد الانسحاب، وباتت أفغانستان بنظر المجتمع الدوليّ مجدداً مرتعاً للأنشطة الإرهابيّة.
واعتبر “داعش خراسان” وهو فرع مرتزقة داعش الإرهابيّ في أفغانستان منطلقاً لاستهداف أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة، إضافةً إلى روسيا، ففي تموز 2023، أُلقي القبض على سبعة أشخاص في ألمانيا للاشتباه في تخطيطهم لهجمات رفيعة المستوى واتصالهم بمخططيهم في “داعش – خراسان” التي تعتبر منطقة الرخاء العسكري ما يتيح لهم فرصة التخطيط والقيادة من هناك وكان جميع المشتبه بهم من آسيا الوسطى.
لا تشكل أفغانستان وحدها بؤرة تهديد مقلقة للعالم إنما الوضع مقلقاً للغاية في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل الإفريقيّ، حيث كثّف مرتزقة داعش إلى جانب التنظيمات الإرهابيّة هجماتهم، بما في ذلك ضد المدارس في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وفي الصومال عمد التنظيم الإرهابيّ الى تجنيد مرتزقة أجانب ليستفيد منهم في عملياته الإرهابيّة العابرة للحدود.
لا يكاد ملف مرتزقة “داعش” يتراجع حتى يعود ويطل بقوة على الساحتين الإقليميّة والدوليّة ليشكل مبعث قلق المجتمع الدوليّ سيما وأن التحذيرات تصاعدت في الآونة الأخيرة وآخرها تحذير وكيل الأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب فلاديمير فورونكوف في آخر إحاطة له أمام مجلس الأمن في 10/2/2025، من إن قدرة داعش على مواصلة أنشطته وتكييف أسلوب عمله، على الرغم من الجهود الدؤوبة لمكافحة الإرهاب التي تبذلها الدول الأعضاء والشركاء الدوليون والإقليميون.
وقال المسؤول الأمميّ: “إنّ الوضع المتقلب في سوريا “يُثير قلقاً كبيراً”، في ظلِّ خطر وقوع مخزونات من الأسلحة المتقدمة في أيدي الإرهابيين”، وأشار إلى أنّ منطقة البادية السوريّة مازالت تُستخدم كمركزٍ للتخطيط العملياتي الخارجي لداعش ومنطقة حيويّة لأنشطته.
ونبّه فلاديمير فورونكوف إلى أنّ عدم الاستقرار هذا يؤثر على المعسكرات ومراكز الاحتجاز وغيرها من المرافق في شمال وشرق البلاد، مضيفاً أنّ 42,500 فرداً، بعضهم له صلات مزعومة بداعش، لا يزالون محتجزين ويشمل ذلك 17,700 مواطن عراقيّ و16,200 مواطن سوريّ، فضلاً عن 8600 مواطن من بلدان أخرى.
وتحدث فورونكوف عن وتيرة إعادة هؤلاء الأشخاص إلى بلدانهم قائلاً إنّها انخفضت بشكلٍ كبيرٍ خلال الفترة المشمولة بالتقرير، إذ أعادت خمس دول أعضاء فقط أكثر من 760 فرداً من العراق وسوريا، وأعادت حكومة العراق ما يقرب من 400 طفلاً عراقيّاً من شمال وشرق سوريا إلى مركز لإعادة التأهيل.
في هذا السياق؛ أفاد الحقوقيّ جوان عيسو في حديث خاص لصحيفتنا “روناهي”: “رغم القضاء على مرتزقة “داعش” الإرهابيّ عسكريّاً إلا أنّ خطرَ داعش لا يزال قائماً عبر خلاياها وفلوله التي تشكّل خطراً على السلم والأمن في المنطقة والعالم خصوصاً مع استغلال الظروف والمتغيرات لإعادةِ ترتيب صفوفه ومهاجمة المنطقة لخلق حالة من عدم الاستقرار توفر له المناخ المناسب لشنّ عملياته الإرهابيّة”.
مؤكداً إنّ “المجتمع الدوليّ على الصعيد السياسيّ يتراخى في التعامل مع ملف “داعش” الإرهابيّ أو إنشاء محاكم لهم أو حتى فرض تعاون بين دمشق وشمال وشرق سوريا لوضع خارطة طريق لطي صفحة داعش رغم أنّ هذا الملف هو من أخطر وأعقد الملفات على الساحة في المنطقة إلا أنّه لا وجودَ لحلولٍ تُنهي الواقع المرير الذي يحاول داعش وداعموه تكريسه في المنطقة خصوصاً مع وجودِ مراكز احتجاز ومخيمات تأوي عناصر إرهابيّة وعوائل لهم هي قنابل موقوتة”.
ظروف جديدة لداعش بعد سقوط النظام السوريّ
وجد “داعش” نفسه أمام تغييرٍ مفاجئ لخريطة النفوذ في سوريا، وإجماع داخليّ وخارجيّ على توفيرِ الشروط لإعادة إعمار البلاد؛ ما يعني جعل مكافحته على رأس الأولويات؛ ومن ثم سيكون أمامه الحسم بين سيناريوهين متعارضين، أولهما سيناريو “الحشد والمواجهة” الذي يراهن على احتفاظ داعش بموقعٍ قدم في سوريا وتغذية أمله بالانتقال من مرحلة “الشوكة والنكاية” إلى مرحلة “التمكين” لاستعادة “خلافته” المزعومة، والثاني سيناريو “التراجع والمغادرة” الذي يراهن على مراعاة “داعش” لحجم التغيير الحاصل وإمكانيّة خضوع سوريا لسلطة مركزيّة واحدة مدعومة إقليميّاً ودوليّاً؛ ومن ثم تجنب أيّ مواجهةٍ غير متكافئة تقضي على وجوده.
في اليوم الذي فرّ فيه بشار الأسد من البلاد، ضربت قوات سوريا الديمقراطية وبالتعاون مع التحالف الدولي أكثر من 75 هدفاً لداعش في سوريا، وقال الجنرال الأمريكيّ مايكل كوريلا إنّه “لا ينبغي أنّ يكون هناك شكّ – أنّنا لن نسمح لتنظيم داعش بإعادة تشكيل صفوفه والاستفادة من الوضع الحالي في سوريا”.
وقبل ذلك رصد مختصون في شؤون الجماعاتِ الإرهابيّة أنّ هجمات مرتزقة داعش في سوريا تضاعفت ثلاث مرات خصوصاً في الشهر الأخير من العام 2024 مقارنةً بالعام السابق، وبلغت خلال العام المذكور حوالي 700 عملية إرهابيّة ما يعني ان المرتزقة قد حسنوا أوضاعهم، وزادوا من فتكهم، وأصبحوا أكثر انتشاراً جغرافياً.
وبحسب المختصين؛ فإنّ أبرز ما عزز من فرص نهوضِ “داعش” الإرهابيّ هي هجمات المجموعات المرتزقة التي تقودها تركيا ضد مناطق شمال وشرق وسوريا وقوات سوريا الديمقراطيّة وهي ما شكّل متنفساً لخلايا داعش في الداخل والخارج وعزز فرص إحيائه سقوط النظام وانسحاب الميليشيات التابعة له ما خلق فسحةً جغرافيّةً كبيرةً خصوصاً مع سيطرة التنظيمات المتشددة على العاصمة دمشق ومعظم مساحة سوريا.
بينما يسعى مرتزقة داعش بالاستفادة من هذه العوامل مجتمعة لتنظيم صفوفهم وإنشاء نقاط ارتكاز على امتداد جغرافيّ واسع لضرب مراكز الاحتجاز التي تحوي الآلاف من مرتزقة “داعش” بينهم متزعمين خطيرين على المنطقة والعالم في شمال وشرق سوريا والمخيمات التي تأوي عوائل العناصر الإرهابيّة وعلى رأسها مخيم الهول.
وتُثار المخاوف من أن يتمكن مرتزقة “داعش” من استغلال الفوضى وإعادة تنظيم صفوفه وشنّ هجمات جديدة، كما حدث في سيناريوهات مشابهة في سوريا سابقاً عندما حاول المرتزقة وبدعمٍ وتخطيط من قبل الاحتلال التركيّ ومرتزقته في 20/1/2022 السيطرة على سجن غويران في الحسكة وإخراج متزعميهم وعناصرهم الخطيرين.
جوان عيسو تحدث بهذا السياق مؤكداً إنّ “الدولة التركيّة لها سياسة واضحة في الاستثمار بعددٍ من الملفات الشائكة على الساحة السوريّة وعلى رأسها ملف داعش الإرهابيّ، الذي تهيئ له الأرضيّة المناسبة لهذا التنظيم عبر علاقاتٍ وطيدةٍ تربطه بداعش بشكلٍ مباشر أو غير مباشر عن طريق مجموعات مرتزقة أخرى على الساحة السوريّة مُقرّبة من “داعش” الإرهابيّ”.
مبيناً أنّه “في حال تم اتخاذ قرار بإنهاء الملف فيجب فتح قنوات مشتركة بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطيّة والمجتمع الدوليّ لإنهاء ملف “داعش” وفق أُطر قانونيّة وحقوقيّة تُنهي هذه العقدة وتقطع الطريق أمام دولة الاحتلال التركيّ في استثمار هذا الملف وتأجيجه بين الفينة والأخرى؛ بهدف السيطرة على مراكز الاحتجاز والوصول إلى مخيم الهول البؤرة الأكثر خطراً”.
وهذا ما حذّر منه كوريلا أيضاً بتأكيده “أنّ مرتزقة داعش يخططون لإفلاتِ أكثر من 8 آلاف من عناصرهم المحتجزين حالياً في منشآت في سوريا”، مشدداً على أنّه إذا تمكّن عناصر “داعش” من الفرار وبدء هجمات إرهابيّة والوصول إلى أوروبا، “فإنّ صورة المجموعة بين الذئاب المنفردة ذات التفكير المماثل سوف تتعزز”.
مع استمرار التهديد إلقاء السلاح انتحار عسكريّ
بالتوازي مع كلّ هذه التطورات والمخاطر التي تحيط بالمنطقة خصوصاً التحولات التي طرأت على سوريا والمخاطر الناتجة عن حالةِ الفراغِ والفوضى؛ تطالبُ سلطة دمشق المؤقتة قوات سوريا الديمقراطيّة بتسليم أسلحتها والانضواء تحت سلطتها، الأمر الذي ترفضه “قسد” من حيث المضمون وتقبله من حيث العنوان.
وأكّدت قسد على أنّها جاهزة للانخراط في أيّ جيشٍ سوريّ وطنيّ حقيقيّ يضمن الدفاع عن حقوق السوريين والدفاع عنهم وأنّ السلاح الذي حملته لتحرير هذه المناطق من قبضة مرتزقة “داعش” وحماية نفسها من الاعتداءات التي طالت شعوبَ المنطقة لن يتم إلقاؤه بسيناريو أشبه بذاك الذي كان يطالب به النظام البائد أو بصيغةِ الاستسلام والانصياع لمن يرى نفسه منتصراً في المعادلةِ السوريّة.
لأنه في نهاية المطاف سقوط النظام جاء نتاج جهودٍ مشتركة بذلها السوريّين على مدار سنواتٍ عديدة عسكريّةً كانت أو سياسيّة وبضغطٍ دوليّ تم حصد ثمار هذه الجهود بأنّ سقط نظام الظلم والاستبداد وكلّ السوريّين اليوم يحتفلون بيوم زوال المستبد وانهيار حكم البعث القمعيّ بينما قسد تستبسل في الدفاع عن مناطقها في مقاومة أسطوريّة على تخوم سد تشرين وجسر قره قوزاق.
إلى جانب ذلك تقود عمليات أمنيّة هامة وبارزة لملاحقة فلول “داعش” والنظام البائد وآخر ما أعلن عنه المركز الإعلاميّ لقسد في 15/2/2025، تفكيك خليةٍ تابعةٍ لمرتزقة “داعش” الإرهابيّ، في ريف دير الزور شرقي سوريا كانت قد استهدفت القواتِ العسكريّةَ والمدنيين والمنشآت العامة، كما عملت على جمع معلوماتٍ استخباراتيّة لصالح داعش في المنطقة.
وأكد القائد العام لقوات سوريا الديمقراطيّة، مظلوم عبدي، في تصريحاتٍ إعلاميّة أن قواتهم لم تقرر تسليم السلاح ولا حلّ نفسها، ولكنها تريد الانخراط في جيشِ سوريا المستقبل، محذّراً من أنّ أيّ طريقٍ غير التفاوضِ في مسألة دمج القوات سيؤدي إلى حدوثِ مشاكل كبيرة.
تدير قوات سوريا الديمقراطية نحو 26 مركزَ احتجازٍ تضمُّ 12 ألف محتجز، وأبرزها سجنُ غويران في الحسكة وفيه خمسة آلاف محتجز من “داعش”، وأيّ ضغطٍ على قوات سوريا الديمقراطية لإلقاء سلاحها سيكون بمثابة الدعوة للانتحار العسكريّ والسياسيّ والاجتماعيّ والأمنيّ لأنَّ قسد كرست سلاحها لمحاربة “داعش” الإرهابيّ وللدفاع عن نفسها والحفاظ على أمن المنطقة هو الضمانة الوحيدة لسلامة شعوب المنطقة.
يتساءل مراقبون لو طُبّق ما تطالب به سلطة دمشق فمن يضمن للسوريين عدم عودة “داعش” للسيطرة الجغرافيّة وتحقيق أهدافه في ضرب الأمن والاستقرار في مناطق شمال وشرق سوريا، في ظلِّ ضعفِ الإدارة سلطة دمشق، خاصةً مع وجود أزمات متشعبة على الساحة السوريّة إضافةً إلى الدعم اللامحدود الذي تقدمه دولة الاحتلال التركيّ إلى متزعمي “داعش” وعناصره ووجود المئات من عناصر “داعش” ضمن صفوف فصائل ما يسمى الجيش الوطنيّ في المناطق التي تحتلها تركيا.
جوان عيسو شدد على إنّ “دولة الاحتلال التركيّ تزجُّ بمرتزقتها في مفاصل هامة داخل سلطة دمشق وهذا يعتبر عقبة لها تأثير سلبيّ كبير جداً؛ لأنّ هذه الشخصيات ستُهيئ الظروف داخل الدولة لتشكيل تيارات وتنظيمات راديكاليّة تؤجج المشهد على الأرض سيما وأنَّ هذه الشخصيات متورطة في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ويجب محاسبتها عوضاً عن ترقيتها ومنحها سلطة واسعة داخل الحكومة المُشكلة من لونٍ واحد وطيف واحد”.