محمد عيسى
في الثالث عشر من شباط 2025، شهدت العاصمة الفرنسيّة باريس انعقاد مؤتمر دوليّ غير مسبوق حول مستقبل سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد. جاء المؤتمر كجزء من الجهود الدوليّة لتنسيق الدعم للمرحلة الانتقاليّة، وسط مشهد سياسيّ وعسكريّ معقّد، حيث تتداخل المصالح الإقليميّة والدوليّة، بينما تحاول حكومة دمشق الجديدة بقيادة الجولاني بسط سيطرتها على البلاد واستعادة الاستقرار السياسيّ والاقتصاديّ.
في هذا السياق، برزت قوات سوريا الديمقراطيّة (قسد) عامل حاسم في المعادلة السوريّة، بعدما أثبتت نفسها على مدار السنوات الماضية كالقوة الوحيدة التي خاضت معركة وجودية ضد مرتزقة داعش الإرهابيّ، ونجحت في تحرير مساحات واسعة من سوريا من قبضة داعش المتطرف، في الوقت الذي كانت فيه القوى الأخرى، سواء النظام السابق أو المجموعات المسلحة، متورطة في صراعات داخليّة أو خاضعة لإملاءات خارجيّة.
جاء مؤتمر باريس بعد محطتين سابقتين، هما اجتماع العقبة في الأردن في 14 كانون الأول 2024، ومؤتمر الرياض في 12 كانون الثاني 2025، واللذين مهدا الطريق لمؤتمر باريس لأكبر تجمع دوليّ لدعم سوريا في هذه المرحلة المفصليّة. ومع مشاركة ممثلين عن 20 دولة ومنظمات دوليّة، كان واضحاً أنّ هناك إرادة دوليّة لإعادة بناء سوريا على أسس جديدة.
التأكيد على الحل السياسيّ وفق القرار 2254
أكد المشاركون في المؤتمر الدوليّ الذي عقد في باريس في 15 شباط 2025 على ضرورة التوصل إلى حلٍّ سياسيّ شاملٍ وسلميّ في سوريا، يرتكز بشكلٍ أساسيّ على تنفيذ مضامين القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن الدوليّ. هذا القرار، الذي يشدد على أهميّةِ إقامة نظامٍ سياسيّ ديمقراطيّ يحترم التعدديّة السياسيّة، يهدف إلى الحفاظ على مؤسسات سوريا وتحقيق استقرار طويل الأمد للبلاد. وفي هذا السياق، تم التأكيد على أنّ الحلَّ السياسيّ يتطلب إعادة بناء المؤسسات، بما في ذلك الجيش والأجهزة الأمنيّة، بطريقة تضمن حماية البلاد من أيّ تهديدات داخليّة أو خارجيّة.
وخلال المؤتمر، تم التطرق إلى “مؤتمر الحوار الوطنيّ” الذي أعلن عنه رئيس حكومة دمشق الجولاني في 30 كانون الثاني 2025. والهدف من هذا المؤتمر إشراكُ مكونات الشعب السوريّ في صياغة مستقبل البلاد. وهو خطوة مهمة في مسار الحلِّ السياسيّ، لكن هناك تبايناً في الرؤى حول كيفية ضمان تمثيل الأطراف السوريّة بشكل عادل وفعّال.
وقد تم التأكيد في مؤتمر باريس على ضرورة أن يشملَ هذا الحوار الشعوب السوريّة دون استثناء أو إقصاء لأيّ طرفٍ كان، وهو ما كان من المفترض أن يكون الأساسَ في تشكيل لجنة الحوار الوطنيّ.
لكن الواقع بعد تشكيل اللجنة في 14 شباط الجاري ظهر تناقض واضح مع هذه المبادئ المعلنة. فقد تم استبعاد مكونات وشعوب شمال وشرق سوريا من المشاركة الفعالة في هذا الحوار، ما أثار العديد من التساؤلات حول جدية التزام لجنة الحوار الوطنيّ بالشمولية التي تحدث عنها المشاركون في مؤتمر باريس.
وفي تصريح مثير للجدل، قال المتحدث باسم اللجنة التحضيريّة للحوار الوطني في سوريا، حسن الدغيم، في 13 شباط 2025، في مؤتمر صحفيّ إنّ “قسد” لا تمثل الكرد، وأنَّ من يمثل المواطنين السوريين (وقصد شمال وشرق سوريا) هم أهل هذه المحافظات. مشيراً إلى هذه القوات لا تمثل الأطراف السياسيّة التي يمكنها المشاركة في الحوار السياسيّ، بل تقتصر على كونها قوة عسكريّة، وأنّ “مهمة الحوار الوطنيّ هي بالدرجة الأولى صياغة وجهات نظر بين السوريين”. وهذا التصريح يعدُّ هجوماً صريحاً على قوات سوريا الديمقراطيّة (قسد)، والتي كانت تجسيداً حقيقيّاً لإرادة مشتركة لأبناء شمال وشرق سوريا وتمت ترجمة تلك الإرادة بامتزاج دماء مختلف الشعوب السوريّة في معارك دحر الإرهاب.
كما أنّ التصريح تجاهل حقيقة مهمة تتمثل بأنّ “مجلس سوريا الديمقراطيّة”، الجناح السياسيّ لقوات سوريا الديمقراطيّة، هو في الواقع الكيان الذي يمثل شعوب شمال وشرق سوريا، ويتمتع المجلس بتمثيل واسع، ويعدُّ أحد الأطراف السياسيّة المهمة في الساحة السوريّة، وله دور بارز في محاربة الإرهاب وبناء مؤسسات مدنيّة في مناطق شمال وشرق سوريا.
في هذا السياق، تظهر انتقادات لجان الحوار الوطنيّ على أنها تقتصر على تمثيل فئات محددة، وتغفل الدور الهام الذي تلعبه مسد وقسد في صياغة المشهد السياسيّ في سوريا. كما أن الحديث عن الحوار السوريّ دون الاعتراف بمشاركة القوى السياسيّة الفاعلة مثل “مجلس سوريا الديمقراطيّة” يثير تساؤلات حول مدى جدية هذه اللجان في تحقيق الحل الشامل الذي يضمن حقوق السوريّين، من مختلف الشعوب والأطياف.
يبدو أن لجنة الحوار الوطنيّ قد أغلقت الباب أمام قسد باعتبارها قوة سياسيّة معترف بها، وهذا يعد خطوة سلبية تعكس في جانب منها محاولات لفرض رؤية ضيقة للحل السياسيّ في سوريا، مما يعقد فرص التوصل إلى تسوية شاملة ومستدامة.
قوات سوريا الديمقراطيّة ودعم المجتمع الدوليّ
خلال المؤتمر الدوليّ الذي انعقد في باريس، تم تسليط الضوء على الدور البارز الذي لعبته قوات سوريا الديمقراطيّة (قسد) في مواجهة داعش الإرهابيّ، حيث أُكد بالإجماع على أن “قسد” كانت القوة الوحيدة في سوريا التي تصدت بشكل مباشر للمرتزقة والإرهاب، وأنها كانت عاملاً حاسماً في هزيمة داعش في العديد من المناطق الحيويّة في شمال وشرق سوريا. وأشار الرئيس الفرنسيّ، إيمانويل ماكرون، إلى أن “قسد” قدمت تضحيات ضخمة في التصدي لداعش، حيث حاربت خلايا داعش النائمة والمجموعات الإرهابيّة في مناطق كانت تعدّ معاقل لداعش.
وفي كلمته خلال المؤتمر، قال ماكرون: “ندين لقوات سوريا الديمقراطيّة بالكثير، فهي التي واجهت داعش على الأرض، وقدمت تضحيات جسيمة لضمان أمن المنطقة والعالم. لهذا، يجب أن يكون لها دور أساسيّ في سوريا الجديدة، سواء على المستوى الأمنيّ أو السياسيّ”. وأضاف ماكرون أن فرنسا تعتبر “قسد” شريكاً استراتيجيّاً في مكافحة الإرهاب، معترفاً بأن هذه القوات كانت على الخط الأمامي لمكافحة الإرهاب، مما كان له تأثير كبير في الحدِّ من تهديدات “داعش” على مستوى العالم.
كما أعلن ماكرون عن استعداد فرنسا لتقديم المزيد من الدعم الماليّ والعسكريّ لـ “قسد”، مؤكداً على ضرورة دمج هذه القوات في الجيشِ السوريّ الجديد بعد تحقيق الحلِّ السياسيّ، في خطوةٍ تهدف إلى ضمانِ استقرار شمال وشرق سوريا بشكلٍ مستدام. وشدد على أن دعم “قسد” لا يقتصر فقط على الجانب العسكريّ، بل يمتد ليشمل أيضاً مساعدات مالية تهدف إلى تعزيز الأمن والاستقرار في المنطقة.
وأكد الرئيس الفرنسيّ على أنَّ دمج “قسد” في الهيكلِ العسكريّ السوريّ يجب أن يتم بحذر، وبما يضمن الحفاظ على توازن القوى في المنطقة. وهذا سيكون خطوةً أساسيّةً لضمانِ عدم وجودِ فراغ أمنيّ في شمال وشرق سوريا، والذي قد يكون بمثابة فرصةٍ جديدةٍ للتنظيماتِ الإرهابيّةِ، مثل داعش أو القاعدة، لاستعادةِ قوتها والتمددِ في المنطقةِ.
تأتي هذه التصريحات في وقتٍ حرجٍ من الصراع السوريّ، لا يمرُّ فيه الوضعُ الأمنيّ والسياسيّ في البلاد بمرحلةٍ من عدم الاستقرار، وسط محاولاتٍ لضمان مستقبل سوريا من خلال حوار سياسيّ يضمّ الأطراف كافة.
وفي تصريحات خاصة لصحيفتنا قال أبو عمر الإدلبيّ قائد لواء الشمال الديمقراطيّ التابع لقوات سوريا الديمقراطيّة إنّ مؤتمر باريس كان نقطة تحول هامة على الصعيدين الدوليّ والإقليميّ في إطار بناء سوريا الجديدة بعد زوال نظام الأسد البائد.
وأكد الإدلبيّ أنّ اللقاءات والمؤتمرات الدوليّة التي عُقدت قبل مؤتمر باريس، بما في ذلك تلك التي جرت في الأردن والسعودية، أكدت على استمرار الحرب ضد الإرهاب، وعلى رأسه مرتزقة داعش، لحماية الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم.
وأشار إلى أنّ قوات سوريا الديمقراطيّة كانت الشريك الأساسيّ لقوات التحالف الدوليّ في القضاء على داعش، لافتاً إلى التضحيات الكبيرة التي قدمتها قسد في تحرير مدينة الرقة، التي كانت عاصمة للتنظيم الإرهابيّ، ومن ثم تحرير منطقة الباغوز في آذار 2019، آخر معاقل مرتزقة داعش في سوريا والشرق الأوسط.
وأشار الإدلبيّ إلى أنَّ الدعم الدوليّ لقوات سوريا الديمقراطيّة مستمر بشكلٍ كاملّ، وأنّ القوات ما تزال تتعاون مع التحالف الدوليّ لمكافحة خلايا المرتزقة الإرهابيّ. وأوضح أن الوضع الحالي في سوريا، خاصة في مناطق شمال وشرق سوريا، يواجه تحديات عدة بسبب التدخلات الإقليميّة والتقاطعات الدوليّة، بالإضافة إلى المعوقات الداخليّة التي نشأت عن سنوات من الأزمة السوريّة. ورغم هذه التحديات، شدد الإدلبيّ على أن قوات سوريا الديمقراطيّة تظل صمام الأمان لشعب سوريا، وتحظى باحترام دوليّ وإقليميّ. كما أضاف أن قسد، التي تضم مقاتلين من مختلف الشعوب في سوريا، تمثل نسيج المجتمع السوريّ المتعدد الثقافات، مما يعزز الثقة والاحترام بين جميع مكونات الشعب السوريّ.
وأكد الإدلبيّ أن قوات سوريا الديمقراطيّة، منذ تأسيسها في عام 2015، كانت تسعى لتحقيق تطلعات الشعب السوريّ في الأمن والسلام والحرية والديمقراطيّة، وتعمل من أجل تحقيق أهداف إنسانيّة سامية ليس فقط في سوريا بل في المنطقة والعالم. كما أكد على أن الدعم لقوات سوريا الديمقراطية يأتي من مختلف المناطق السوريّة وليس فقط في مناطق شمال وشرق سوريا، بما يعكس النظرة الوطنيّة من مكونات الشعب، وذلك في ضوء ما قدمته القوات من تضحيات في تطهير الأراضي السوريّة من الإرهاب وحماية السلم الأهليّ. وفي الختام، شدد الإدلبيّ على أن سوريا تمر بمرحلة حساسة تتطلب تضافر القوى العسكريّة والسياسيّة والاجتماعية لتحقيق رؤية وطنيّة شاملة، وهو ما تواصل قوات سوريا الديمقراطيّة العمل من أجله لتحقيق أهداف الشعب السوريّ.
تأييد دوليّ لرفع العقوبات
من أبرز القضايا التي تناولها مؤتمر باريس كان ملف رفع العقوبات المفروضة على سوريا، حيث أكد وزير الخارجيّة الفرنسيّ، جان نويل بارو، أن الاتحاد الأوروبي يعمل على تخفيف القيود الاقتصاديّة المفروضة على بعض القطاعات الحيويّة لتسهيل عملية إعادة الإعمار ودعم الاقتصاد السوريّ المنهار. كما أعلنت فرنسا عن تقديم 50 مليون يورو كمساعدات إنسانيّة لسوريا في عام 2025، مع التركيز على توفير الإغاثة للمدنيين وإعادة تأهيل البنية التحتية المدمرة، خصوصاً في المناطق التي شهدت معارك عنيفة ضد مرتزقة داعش.
وفي ختام المؤتمر، شدد البيان الختاميّ على التزام الدول المشاركة بدعم سوريا في مرحلتها الانتقاليّة، مع التأكيد على ضرورة ضمان عدم عودة الإرهاب إلى البلاد، واحترام سيادتها، ورفض التدخلات الخارجيّة التي قد تعرقل عملية إعادة البناء السياسيّ والاقتصاديّ.
ومع استمرار الاجتماعات الدوليّة حول سوريا، تبرز قضية أساسيّة تتعلق بكيفية تحقيق توازن بين المطالب الغربية التي تدعو إلى تمكين “قوات سوريا الديمقراطيّة” قوة شرعية في البلاد، في ظل تعقيدات الوضع السياسيّ. ما هو مؤكد حتى الآن، أن “قوات سوريا الديمقراطيّة” أثبتت أنها القوة الوحيدة التي تصدت بمرتزقة داعش في سوريا، وبالتالي ستظل عنصراً أساسيّا في أيّ حل سياسيّ مستقبليّ.