محمد عيسى
منذ أواخر عام 2024، شهدت مدينة منبج الواقعة في شمال وشرق سوريا تحولاتٍ كبيرة على الصعيدين العسكريّ والسياسيّ، فبعد انهيار النظام في سوريا شن مرتزقة الاحتلال التركيّ والمجموعات الإرهابية التابعة له هجوماً على منبج واحتلوها بعد دفاع قوات سوريا الديمقراطية عنها بمقاومة تاريخية، ما أدّى إلى ازدياد حدة الانتهاكات والمجازر بحقِّ الأهالي.
المعركة والاحتلال التركيّ على منبج
في 12/8/2016، تمكّنت قوات سوريا الديمقراطيّة من تحرير مدينة منبج من قبضة مرتزقة “داعش” الإرهابيين، بعد مقاومة طويلة دامت شهوراً، لتصبح المدينة بذلك نقطة استراتيجيّة مهمة في شمال سوريا. وعقب التحرير، بدأت مرحلة جديدة من إعادة البناء، وعمل الأهالي على استعادة حياتهم الطبيعيّة التي دمرتها سنوات من الحرب، ورغم التحديات، نجحت قوات سوريا الديمقراطيّة في الحفاظ على الأمن والاستقرار داخل المدينة، وأصبحت منبج رمزاً للنصر والتعايش بين شعوبها المختلفة.
لكن مع أواخر عام 2024، تغيّرت ملامح المشهدِ السوريّ بشكلٍ جذريّ. مع انهيار النظام السوريّ وتدهور الأوضاع الأمنيّة في العديد من المناطق، بدأت القوى الخارجيّة في استغلال الفراغ الأمنيّ والسياسيّ، ففي هذه الفترة، دخل الاحتلال التركيّ والمجموعات المرتزقة التابعة له إلى منبج، مُعلنين عن نواياهم للسيطرة على المدينة التي أصبحت هدفاً استراتيجياً في إطار سعيهم للتوسع في شمال سوريا، وشنَّ جيش الاحتلال التركيّ ومجموعات المرتزقة التابعين له هجمات عنيفة على المدينة، مُستهدفين المنشآت الحيويّة والأحياء السكنية، كما تعرضت منبج لقصفٍ جوي ومدفعي مكثف، مما أسفر عن جرح واستشهاد العديد من المدنيين الأبرياء.
تزامنت هذه الهجمات مع تفاقم الوضع الإنسانيّ في المدينة، حيث دُمّرت أجزاءً كبيرة من البنية التحتيّة، وتعرض الأهالي لمخاطر جمّة، ما دفع قوات سوريا الديمقراطيّة إلى البحث عن حلولٍ لوقف هذه الهجمات، وفي مسعى للتهدئة وحماية المدنيين، وافقت قسد على إعلان هدنة بوساطة أمريكيّة في محاولة للحدِّ من الهجمات وتجنب المزيد من الخسائر البشرية، لكن هذا الاتفاق سرعان ما انهار، إذ استأنفت مجموعات المرتزقة مدعومة بقصفٍ جويّ ومدفعيّ من جيش الاحتلال التركيّ هجماتها على المدينة، متجاهلةً اتفاق وقف إطلاق النار والتهدئة.
لم تقتصر الانتهاكات على الهجمات العسكريّة فقط، بل امتدت لتشمل عمليات اختطاف وتهديدات ضد المدنيين، خاصةً من الكرد الذين كانوا عُرضة لهجمات مستمرة من قبل المرتزقة المدعومين من تركيا، هذه الأعمال الوحشية لم تتوقف عند حدود الهجوم العسكريّ بل شملت أيضاً استهداف المدنيين الأبرياء بهدف إحداث حالة من الرعب والتهجير، وقد أثارت هذه الانتهاكات موجة من الغضب والسخط في صفوف الأهالي الذين شعروا بأنهم أصبحوا ضحايا لحروب واحتلال على أرضهم.
مع تصاعد هذه الانتهاكات، بدأ سكان منبج في رفع أصواتهم مطالبين بضرورة استعادة السيطرة الذاتية على مدينتهم، مؤكدين على إن الحلول الداخلية هي الطريق الوحيد لإعادةِ الأمانِ والاستقرارِ. بالنسبةِ لهم، لم يعد بإمكانهم الاعتماد على الحلول الخارجيّة التي فشلت في وقف المعاناة، بل أصبح لزاماً عليهم أن يستعيدوا زمام المبادرة ويعيدوا بناء مدينتهم بأنفسهم، بعيداً عن التدخّلات الأجنبيّة التي ألحقت بها الخراب.
الانتهاكات والمجازر صرخات المعاناة المستمرة
منذ أن سيطرت مجموعات المرتزقة التابعة للاحتلال التركيّ سيطرتها على مدينة منبج، تعيش المدينة وما حولها سلسلة من الانتهاكات والمجازر التي استهدفت المدنيين بشكلٍ مباشر، ما فاقم معاناتهم يوماً بعد يوم، وفي مؤشر لفقدان الأمن وقعت سلسلة انفجارات آخرها انفجار سيارة مفخخة في 3/2/2025، على مدخل المدينة الجنوبيّ، بالتزامن مع مرور سيارة تقل نساء عاملات ما أسفر عن مقتل أكثر من 20 شخصاً معظمهم من النساء، إضافةً لعددٍ من الجرحى، وجاء التفجير متزامناً مع زيارة رئيس سلطة دمشق الجولاني إلى أنقرة، وكان الانفجار هو السابع في المدينة وجاء بعد يومين من انفجار في شارع الرابطة بمدينة منبج، وجاء في ظلّ ظروف أمنيّة معقدة، حيث شهدت المدينة انتهاكاتٍ كبيرة والعديد من حالات الاعتقال والسرقات ما زاد المعاناة الإنسانيّة لأهالي المدينة، لترتفع معها الأصوات مطالبةً سلطات دمشق بوضعِ حدٍّ للفوضى الأمنيّة.
المرصد السوريّ لحقوق الإنسان كان قد وثّق العديد من هذه الهجمات التي تستهدف المدنيين، بهدف زعزعة الاستقرار وخلق حالة من الفوضى داخل المدينة. كما سلط الضوء على أن هذه التفجيرات تأتي في سياق منهجي هدفه زيادة التوترات بين الأهالي وضرب أي محاولات للاحتجاج ضد الوضع القائم في ظل السيطرة التركيّة. من جانبها، أدانت قوات سوريا الديمقراطيّة هذه الهجمات، معتبرةً أنّها جزءٌ من حملة ترهيب ممنهجة تهدف إلى منع المدنيين من التعبير عن غضبهم أو مقاومة الاحتلال التركيّ، كما أكدت أن هذه التفجيرات تأتي في إطار سياسة تهدف إلى إضعاف إرادة الأهالي وتخويفهم.
مع تفاقم هذه الانتهاكات، أصبح أهالي منبج يعيشون تحت تهديد مستمر، إذ تسعى مجموعات المرتزقة التابعة للاحتلال التركيّ إلى تغيير التركيّبة الديمغرافيّة للمدينة عبر عمليات التهجير القسريّ للسكان الأصليين، وهذه العمليات لا تقتصر على الهجمات العسكريّة فقط، بل تشمل أيضاً حملات اختطاف وابتزاز مالي واسعة النطاق. وفي العديد من الحالات، اختطف مسلحون مجهولون أشخاصاً من منازلهم أو أثناء تنقلهم في الشوارع، وفي بعض الأحيان كانت هذه العمليات تليها مطالبات بفدية مالية ضخمة، ما يعكس انفلاتاً أمنياً غير مسبوق في المناطق الخاضعة للاحتلال.
إضافةً إلى ذلك، تتجسد هذه الانتهاكات في حالة من الفوضى التي عمّت المدينة، حيث أصبحت السرقات والنهب جزءاً من الحياة اليوميّة، إذ تعمد المجموعات المرتزقة إلى سرقة ممتلكات المدنيين وتدميرها، وهذا الوضع المتدهور يعكس بشكلٍ جلي الانفلات الأمنيّ المستمر الذي يعاني منه سكان المدينة، ويشعر العديد من السكان بوجود خطة ممنهجة تهدف إلى تهجير الكرد من المدينة، ما يعزز المخاوف من استمرار عمليات التهجير القسريّ التي قد تُفضي إلى تغيير معالم المدينة بشكلٍ كامل، وبالرغم من هذه الانتهاكات التي لا تنتهي، يظل الأهالي متمسكين بالأمل في أن تنتهي هذه الحقبة المظلمة وتعود المدينة إلى سابق عهدها من الاستقرار والعيش المشترك.
صمت سلطة دمشق المؤقتة
في المقابل، يظهر تراجعاً كبيراً في دور سلطة دمشق المؤقتة أمام الانتهاكات المستمرة في مدينة منبج، حيث لم تُسجِل أيّ مواقف جدية أو إجراءات حقيقيّة لملاحقة مرتكبي الجرائم بحق المدنيين في المنطقة، ورغم التأكيد المستمر على ضرورة فرض سيادتها على جميع الأراضي السوريّة، فإنّ هذه الدعوات لم تتحول إلى واقعٍ ملموس في مناطق الشمال السوريّ، التي تشهد تدخّلاتٍ مباشرة من الاحتلال التركيّ. في هذا السياق، وفي خطوة غريبة ومعقدة، أعلنت سلطة دمشق دمج العديد من المجموعات ومجموعات المرتزقة المدعومة من تركيا ضمن هيكل وزارة الدفاع السوريّة، في خطوةٍ قالت إنّها تهدف إلى تعزيز التنسيقِ العسكريّ، ولكنها على أرضِ الواقع جعلت الموقف أكثر تعقيداً، ولم نشهد أيّ نوع من السيطرة الحقيقيّة أو القيادة المستقلة من قبل الحكومة المؤقتة على هذه المجموعات ولا تقم بحلّ نفسها كما هو معلن، وما زالت تتلقى أوامرها وتعليماتها من الاحتلال التركيّ، ما يعكس واقعاً محبطاً، ويظهر عجز الحكومة المؤقتة عن فرض سلطة حقيقيّة على الأرض. زخم التصريحات في توحيد المجموعات وحصر السلاح بيد الدولة لا يتوافق مع ضعف الأداء الحكوميّ، ما أتاح المجال لزيادة الانتهاكات بحق المدنيين في منبج، فغابت تماماً كلّ أشكال المحاسبة على الجرائم المستمرة، سواء من قبل المجموعات المرتزقة التابعة للاحتلال التركيّ أو من قبل الاحتلال نفسه. بل على العكس، أدّى دمج هذه المجموعات ضمن الهيكل المؤقت للجيش السوريّ دون محاسبة إلى إضفاء شرعيّة على هذه الانتهاكات، بدلاً من اتخاذ إجراءات رادعة لوقوع المزيد من الجرائم.
هذا الوضع يزيد من معاناةِ السكان في منبج، الذين يعيشون في ظل الفوضى والتهديدات المستمرة، دون أمل حقيقي في التغيير. لم يعد هناك أي أفق لتحقيق الاستقرار في المدينة أو في المناطق التي تحتلها تركيا، في ظل استمرار تبعية هذه المجموعات للاحتلال التركيّ، وفي غياب أي تحرك حقيقي من الحكومة المؤقتة، يظل المدنيون في منبج ضحايا لتلك الانتهاكات المستمرة.
الحق في تقريرِ المصير
في ظل الوضع الراهن في مدينة منبج، يبرز أحد الحلول الأساسيّة التي من شأنها أن تُساهم في استعادة الأمن والسلام، وهو العودة إلى الإدارة الذاتيّة التي كانت تُمثلها المدينة قبل التدخّلات الخارجيّة. فمنبج، التي كانت تعيش حالة من الاستقرار في ظل الإدارة الذاتية وحماية مجلس منبج العسكريّ، تمتعَت بحالة استقرار وحافظت على تماسك المجتمع المحليّ وأمنه بعيداً عن أيّ تدخّلات خارجيّة، وهذه الإدارة كانت قد تأسست برغبةٍ مباشرةٍ من الأهالي، الذين قاموا بإدارة شؤون مدينتهم بشكلٍ مستقل، وضمان حماية المدنيين وممتلكاتهم.
استعادة هذا النظام الإداريّ هو خطوة حيوية نحو ضمان استقرار المدينة، خاصةً في ظل ما يعانيه السكان من تهديدات مستمرة جراء تدخّلات المجموعات المرتزقة المدعومة من الاحتلال التركيّ، ففي الوقت الذي تواصل فيه هذه المجموعات ممارسة العنف ضد المدنيين وتهجيرهم قسرياً، تبقى الإدارة الذاتية هي الخيار الأفضل الذي يضمن للأهالي في منبج استعادة سيطرتهم على حياتهم ومناطقهم. عبر هذه الإدارة، يمكن للسكان استعادة الأمن ويعودون للعيش بسلام بعيداً عن أي تهديدات خارجية.
إن العودة إلى الإدارة الذاتية في منبج هي خطوة ضرورية لمنع تكرار المآسي التي يتعرض لها المدنيون، مثل القتل والتهجير القسري، هذا الخيار لا يقتصر على كونه حقاً للأهالي فحسب، بل هو أيضاً السبيل الوحيد لتحقيق العدالة والاحترام لحقوق الإنسان في المنطقة. ما يشهده المجتمع الدوليّ من انتهاكات مستمرة يتطلب ضغطاً حقيقياً من جميع الأطراف الفاعلة في الساحة الدوليّة.
من أجل تحقيق هذا الهدف، يُطلب من الأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية المعنية بتوفير حماية حقيقية للمدنيين، وليس مجرد بيانات ومواقف ضعيفة. يجب على المجتمع الدوليّ اتخاذ خطوات ملموسة ومؤثرة لفرض عقوبات على المسؤولين عن الانتهاكات التي ترتكبها المجموعات المدعومة من الاحتلال التركيّ. كما يتعين أن يعمل المجتمع الدوليّ على ضمان إعادة هيكلة شؤون المدينة تحت إدارة أهلها بما يتماشى مع معايير حقوق الإنسان والقانون الدوليّ.