محمد عيسى
تسعى القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وإسرائيل، لإعادة تشكيلِ المنطقةِ وفقاً لمصالحها الاستراتيجيّة. فالحربُ التي اندلعت بعد عملية طوفان الأقصى في السابع من تشرين الأول 2023، بين حركة حماس وإسرائيل، لم تكن كسابقاتها من الحروبِ، ولم تقتصر على طرفي الصراع، بل تحولت إلى ملفٍ دوليّ شائكٍ، بسبب تناقضِ المصالحِ الإقليميّة والدوليّة لتصنعَ واقعاً جديداً، لم يكن الفلسطينيّون مستعدين له، واليوم تبدو غزة ساحة لمخططٍ دوليّ يهدفُ لتهجيرِ الفلسطينيين والسيطرةِ على أراضيهم. وليُطرحَ السؤالُ حول وقوع حماس في الفخ!
الهجوم الذي شنته حركة حماس على المستوطنات الإسرائيليّة كان بمنزلة الشرارة التي أشعلت حريقاً هائلاً، لم يقتصر على غزة وحدها، بل امتد ليشمل المنطقة بأكملها. والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم: هل كان هجوم حماس قراراً صائباً؟ أم أنّه كان فخّاً نصبته إسرائيل، وأوقعت الحركة نفسها فيه، لتجد غزة بأكملها تدفع الثمن؟ كشف استمرار الحرب في غزة على مدى 15 شهراً، أنّ إسرائيل كانت مستعدة لهذه المواجهة، بل ربما دفعت حماس دفعاً نحوها، لتبرر مخططات كانت تنتظر اللحظة المناسبة لتنفيذها. ومع تصاعد المعارك، بدأت تتكشف أبعاد أخطر من مجرد قصف متبادل، وبعد وقف إطلاق النار في 19/1/2025 بدأت ملامح مخططٍ دوليّ لإعادةِ تشكيل غزة، تهجير سكانها، والسيطرة على أراضيها بحجج مختلفة، بينما يقف العالم متفرجاً أو متواطئاً.
“حماس” وقعت في الفخ
طوال عقود، اعتمدت حركة حماس على نهج التصعيد العسكريّ كأداة ضغط ضد إسرائيل، دون أن تضع استراتيجية واضحة لما سيحدث بعد كل مواجهة.
اعتقدت الحركة أن الهجمات العسكريّة ستجبر الاحتلال على تقديم تنازلات، لكنها تجاهلت أن إسرائيل، بكل تفوقها العسكريّ والاستخباراتي، دائماً ما تستغل هذه المواجهات لصالحها، وتعيد تشكيل المشهد بما يخدم أهدافها بعيدة المدى.
يعدُّ السابع من تشرين الأول التاريخ الأكثر شؤماً لأهالي غزة، نفذت فيه حماس هجوماً غير مسبوق على المستوطنات الإسرائيليّة، معتقدة أنّ ذلك سيؤدي إلى تغيير جذريّ في ميزان القوى. ولكن بدل تحقيق نصر استراتيجيّ، وقعت في فخ محكمٍ، جعل غزة تدفع الثمن الأكبر في تاريخها. فإسرائيل لم تنتظر طويلاً، بل استغلت الهجوم ذريعة لشن أوسع عملية عسكريّة في القطاع، واستهدفت البنية التحتية والمستشفيات والمناطق السكنيّة، وحوّلت غزة إلى منطقة منكوبة. ومع الحصار المشدد، أصبح أكثر من مليوني فلسطينيّ عالقين في أزمة إنسانيّة غير مسبوقة، وانقطعت عنهم إمدادات الغذاء والماء والدواء، وأصبح الموت جوعاً أو قصفاً واقعاً يوميّاً.
المشكلة الكبرى أنّ حماس لم تكن مستعدة لإدارة تداعيات الحرب. وفيما يفترض أن يكون لديها خطة واضحة لحماية المدنيين وإيجاد حلول بديلة بعد بدء القصف الإسرائيليّ، وجدت نفسها في مأزق، ما جعل سكان غزة يدفعون الثمن الأكبر بسبب قراراتٍ لم تأخذ بعين الاعتبار السيناريو الأسوأ.
اليوم، لم يعد الهدف الإسرائيليّ مقتصراً على إضعاف حماس عسكريّاً، بل بات هناك مخطط واضح لإعادة تشكيل غزة ومنطقة الشرق الأوسط بالكامل. وتصريحات المسؤولين الأمريكيين والإسرائيليين المتكررة حول تهجير السكان، والمفاوضات الجارية مع دول الجوار، تشير إلى وجود مشروعٍ أوسع يستهدف إنهاء وجود غزة ككيانٍ فلسطينيّ مستقل، وتحويلها إلى قضية إنسانيّة دوليّة بدل كونها قضية سياسيّة ومسألة حق تقرير المصير لشعبٍ.
ترامب يكشف خطة بيع غزة!
في خضم الفوضى التي خلفتها الحرب في غزة، وبرغم كل المآسي والدمار الذي حل بالقطاع، أطل الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب بتصريحات فاجأت الجميع، وكشفت عن نوايا كانت تُطبخ في الخفاء لوقت طويل. وتتضمن الخطة الأمريكيّة إجبار الأردن ومصر على استيعاب سكان غزة المهجرين، ما يضع هذه الدول أمام معضلة سياسيّة وأمنيّة كبيرة.
في 25/1/2025، قال الرئيس الأمريكيّ ترامب: إنّه يتعين على الأردن ومصر استقبال المزيد من الفلسطينيين من قطاع غزة، بعد أن تسببت حرب إسرائيل ضد حركة حماس بأزمة إنسانيّة، وفي 4/2/2025 كشف عن رغبته بالاستيلاء على قطاع غزة مجدداً التأكيد على ضرورة تهجير الفلسطينيين منه، وطرح فكرة تحويل قطاع غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”
تحدث ترامب عن رغبة الولايات المتحدة في شراء قطاع غزة وتحويله إلى منطقة خاضعة لإعادة إعمار أمريكيّة، مع تأكيده أن الفلسطينيين سيُجبرون على النزوح إلى كل من الأردن ومصر. وبكل وضوح، وضع الرئيس الأمريكيّ النقاط على الحروف، مشيراً إلى أن ما يحدث في غزة ليس مجرد صراع عسكريّ، بل إعادة تشكيل كامل للمنطقة بما يخدم مصالح القوى الكبرى. وقال بوضوح: “نريد شراء غزة، سنعيد إعمارها، وستكون ملكية أمريكيّة، الفلسطينيّون يمكنهم العيش في الأردن أو مصر”.
تصريحات ترامب ليست كلاماً عابراً، بل جاءت مدعومة بتقارير استخباراتية متعددة تؤكد أن الولايات المتحدة بصدد تنفيذ مخطط فعليّ لإجبار سكان غزة على النزوح، سواء عبر الضغط العسكريّ المباشر أو عبر قطع الإمدادات الأساسيّة من الغذاء والدواء، وجعل الحياة في القطاع مستحيلة. وبالمجمل فالتصريحات كشفت ورقة أمريكيّة كانت مخبأة خلال الحرب، وتهدف إلى إنهاء الوجود الفلسطينيّ جغرافيّاً وسياسيّاً بالمنطقة.
الموقف المصري كان واضحاً منذ بداية الحرب، وأكّدت القاهرة رفضها القاطع لأي محاولة لتهجير الفلسطينيين إلى سيناء، وأنّ ذلك يهدد مباشرة السيادة المصريّة، ويقوض الأمن القوميّ جدياً. ليتوعد الرئيس الأمريكيّ المساعدات العسكريّة إذا رفضت استقبال الفلسطينيين، ما يزيد تعقيد موقف مصر التي تدرك تماماً أنّ قبولها بهذا المخطط يعني تحويل سيناء إلى بديلٍ جغرافيّ لدولة فلسطين، وبالتالي تغيير الخريطة السياسيّة للأبد.
أما الأردن، فالوضع فيه أكثر تعقيداً. فالمملكة تستضيفُ بالفعلِ نسبة كبيرة من الفلسطينيين على أراضيها، وأيّ تدفقٍ جديدٍ قد يؤثر بشكل كبير على التوازن الديمغرافيّ والسياسيّ. ويسعى الأردن للحفاظ على هوية بلاده، ورفض المخطط الأمريكيّ قد يعني توتر العلاقات مع الولايات المتحدة وحلفائها، في حين أنّ قبوله قد يشعل اضطراباتٍ داخليّةً على المستوى الشعبيّ والسياسيّ.
وفي مؤتمر صحفيّ مشترك مع العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، بالبيت الأبيض، الثلاثاء 11/1/2025، قال ترامب: إنّ كلا البلدين (الأردن ومصر) سيمنح “قطعة أرض” للغزيين. وأضاف: “لا بديل أمام الفلسطينيين سوى الخروج من غزة”، في المقابل، قال الملك عبد الله الثاني، إن المملكة ستأخذ 2000 طفل من قطاع غزة من الذين يعانون من أمراض، بما في ذلك السرطان، إلى بلاده “في أسرع وقت ممكن”، وهو ما وصفه ترامب بأنه “رائع”.
فيما حملت تصريحات الملك عبد الله الثاني إشارات غامضة، وقال: “هناك خطة ستقدمها مصر والدول العربيّة بشأن غزة”، لافتا إلى أنّه من المهم إيجاد حلٍ يراعي مصالح الجميع، ويأخذ بالاعتبار مصالح الشعوب، وخاصة الشعب الأردنيّ”، “سنتعاملُ مع الأوضاع بما يخدم مصلحة بلدنا”. وهذا التصريح فتح البابَ للتكهنات حول احتماليّة تغيّر الموقف الأردنيّ، وما إذا كان قد بدأ التفكيرَ بخياراتٍ بديلةٍ تحت الضغطِ الأمريكيّ أو موافقة ضمنيّة على جزء من المخطط بحال حدوث تحولات في الوضع الإقليميّ. وأشار الديوان الملكيّ، إلى أنّ العاهل الأردنيّ، قد ذكر أنّه “سيتم إخلاء نحو ألفي طفل مصابٍ بالسرطان وممن يعانون وضعاً طبيّاً صعباً في غزة إلى الأردن لتلقي العلاج، كجزء من جهود الأردن في تعزيز الاستجابة الإنسانيّة في القطاع”.
عدم حسميّة مواقف مصر والأردن، تشير إلى أنّ الشرق الأوسط أمام مرحلة دقيقة وخطيرة قد تعيد رسم خريطة المنطقة، وتزيد تعقيد الوضع الفلسطينيّ والعربيّ بشكل عام. والمخطط الأمريكيّ بتهجير سكان غزة وإعادة تشكيل المنطقة قد يُغرق الدول المجاورة في مستنقع أزمات سياسيّة واجتماعيّة، ويؤدي إلى تغييرات جذريّة قد تطول أمدها لعقود قادمة.
مقترحٌ تركيّ ببعدٍ عثمانيّ
أحمد داوود أوغلو رئيس “حزب المستقبل” ورئيس الحكومة التركيّ السابق تحدث في 12/2/2025 عن ضرورة “إعادة ربط” غـزة بتركيا كمنطقة تتمتع بالحكم الذاتيّ مستنداً إلى ما أسماه «شرعية تاريخيّة». وأوضح ذلك لاحقاً بالقول: “الآن، بصفتي تركيّاً، وبصفتي من رعايا الدولة العثمانيّة، أقول لترامب: آخر دولة شرعيّة لغزة كانت الدولة العثمانيّة”. واعتبر داوود أوغلو سكان غزة “رفاقاً ومواطنين طبيعيين” بتاريخهم المشترك مع تركيا.
في الحقيقة أحمد داوود أوغلو هو المعلم الأيديولوجيّ لأردوغان، وهو صاحب نظرية “العمق الاستراتيجيّ”، إلا أنّ أردوغان وجد في إزاحته ضرورةً للتفرد بالسلطة، كما فعل مع عبد الله غول، ويظهر جليّاً أنّ أنقرة التي دأبت على إبداء مواقف الدعم والمساندة للفلسطينيين إنّما تتطلع إلى مساحة إضافيّة لنفوذها، ولا تفصل ذلك عن تاريخها العثمانيّ، كما بررت احتلالها لمناطق سوريّة بذرائع تاريخيّة منها الميثاق المليّ. وإذا كان الحديث عن غزة وإلحاقها بتركيا بعد حرب لأكثر من سنة، فما حال المناطق السوريّة التي تحتلها تركيا منذ سنوات؟؟
فيما دعا رئيس حزب السعادة التركيّ محمود أركان إلى إنشاء قوة عسكرية في غزة باسم “قوات سلام غزة” من دول مختلفة والدول الإسلاميّة لضمان أمن القطاع، مشدداً على ضرورة ألا تقوم قوات السلام بتسليم غزة تحت أيّ ثمن.
تهديد بوقف المساعدات لمصر والأردن
الإثنين 10/2/2025 هدد الرئيس ترامب، بوقف المساعدات للأردن ومصر إذا لم يستقبلا اللاجئين: “أعتقد أن الأردن سيستقبل لاجئين”. وأضاف: “الناس في غزة يريدون الخروج إذا وفرنا لهم مكانا مناسبا، وأعتقد أن هناك دولا يمكنها توفير ذلك”.
منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد للسلام بين مصر وإسرائيل عام 1979، اتخذت واشنطن نهجاً ثابتاً بتقديم مساعدات خارجيّة كبيرة لمصر، وفقاً لمكتب خدمات أبحاث الكونغرس”، وبرر الساسة الأمريكيّون المساعدات، باعتبارها استثماراً استراتيجيّاً في استقرار المنطقة، يرتكز على التعاون العسكريّ طويل المدى والحفاظ على معاهدة السلام.
وتكشف معطيات وزارة الخارجية الأمريكيّة عن مصر، أنّ إجمالي مساعدات واشنطن للقاهرة خلال عام 2023، بلغ 1.5 مليار دولار. وتوزعت هذه المساعدات، حسب موقع “ForeignAssistance.gov”، الذي يتابع ويوثق المساعدات الخارجية، بين العسكريّة بنسبة 81%، والاقتصادية بنسبة 19%، ويتصدر التمويل العسكري الخارجي الأنشطة الرئيسية للمساعدات بقيمة 1.215 مليار دولار، يليه برنامج الشراكات التعليمية بـ 26.28 مليون دولار، ثم مشروع “نكسوس” للمياه والغذاء والطاقة بـ 24.88 مليون دولار.
وحسب بيان لمكتب الشرق الأدنى التابع للخارجية الأمريكيّة، تمثل المساعدات لمصر ركيزة أساسية في العلاقات بين البلدين منذ عام 1978، وقدمت واشنطن للقاهرة أكثر من 80 مليار دولار، موزعة بين مساعدات عسكريّة تجاوزت 50 مليار دولار، ونحو 30 مليار دولار مساعدات اقتصاديّة.
تمتد جذور الدعم الأمريكيّ إلى الأردن إلى عام 1951، عبر مساعدات اقتصاديّة مباشرة، وبعد ست سنوات بدأ برنامج المساعدات العسكريّة. ووفقاً لمكتب خدمات أبحاث الكونغرس”. بلغت القيمة الإجماليّة للمساعدات الأمريكيّة للأردن، بإشراف وزارتي الخارجيّة والدفاع، نحو 26.4 مليار دولار حتى نهاية السنة الماليّة 2020.
يعد الأردن واحدا من أكبر متلقي المساعدات الخارجية الأمريكيّة على مستوى العالم، وشهدت هذه الإعانات تطوراً كبيراً، إذ تضاعفت ثلاث مرات خلال الـ15 سنة الماضية. وتظهر بيانات موقع ForeignAssistance.gov أن الأردن تلقى مساعدات أمريكيّة بلغت 1.69 مليار دولار في عام 2023، ليكون بالمرتبة الثانية لأكبر متلقي الدعم الأمريكيّ بعد إسرائيل. وكانت اقتصاديّة بنسبة 75% من إجمالي الدعم، وعسكريّة بنسبة 25%.
وفي 16/9/ 2022، تم توقيع مذكرة التفاهم الرابعة من نوعها، لتنظيم إطار المساعدات الخارجيّة الأمريكيّة للأردن على مدى سبع سنوات (2023-2029). وتتضمن المذكرة، التي تخضع لموافقة الكونغرس، التزام الإدارة الأمريكيّة بالسعي لتأمين مساعدات اقتصادية وعسكريّة سنويّة للأردن بقيمة 1.45 مليار دولار.
إلى أين تتجه المنطقة؟
السؤال الأكثر إلحاحاً في ظل ما يحدث في غزة: هل سيسمح الفلسطينيون والعرب بتمرير هذا المخطط؟ هل ستكون هناك إرادة سياسيّة حقيقية لمواجهة هذا التغيير الجيوسياسيّ الضخم الذي يهدد المنطقة؟ أم أنّ الانقسامات الداخليّة التي تعصف بالعالم العربيّ ستظل عائقاً يحول دون اتخاذ مواقف استراتيجيّة حاسمة؟
ما تشهده غزة اليوم ليس مجرد تصعيد عسكريّ أو صراع عابر بين طرفين، بل تحوّلٌ جذريّ في مجريات الشرق الأوسط، إذ تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى فرض واقعٍ جيوسياسيّ جديد يُعيد تشكيل المنطقة لعقود قادمة. وهذا المخطط لا يستهدف غزة فحسب، بل يشمل المنطقة برمتها، ويغيّر معالمها السياسيّة والاقتصادية بشكلٍ عميقٍ.
الفلسطينيّون اليوم ليسوا مجرد ضحايا لحرب أو صراع، بل هم في مواجهة مخطط شامل يسعى إلى مسح هويتهم الوطنيّة وتهجيرهم بشكل نهائي من المعادلة السياسيّة الإقليمية. إنهم يخوضون معركة وجودية قد تحدد مصيرهم في المنطقة.