عبد العزيز قاسم
أقف متسمِّرًا، وقد تلبَّستني الدَّهشةُ الكاملةُ أمامَ اللوحةِ، التي نسجتْها أناملُ ابنتي الصغيرةِ (جمانة)، تلك الأناملُ التي ما زالت تكتشفُ العالمَ بألوانِه وظلالِه. لوحةٌ لا تُتَخيَّلُ أن يافعةً -تسكنها البراءةُ-رسمتْها، لأنَّها تنبضُ بعمقٍ يتجاوزُ سنواتِ عمرِها.
أجدني أغوصُ بينَ تفاصيلِ اللوحةِ، محاولًا فكَّ شيفرةِ الرسائلِ التي اختارت (جمانةُ) أن تُسكنَها في خطوطِها وألوانِها. شجرتانِ تتباينانِ، تبدو الأولى مُتعبةً، وقد لفَّها الخريفُ بوشاحِه النحاسيِّ، بينما الثانيةُ تقفُ صامدةً، متمسِّكةً بلونِها الأخضرِ، وكأنَّها تتحدَّى سطوةَ الزمنِ، رمزًا لصمودِ الحياةِ في وجهِ قسوةِ الفصولِ.
الأكواخُ شاحبةٌ، بنوافذَ صغيرةٍ، تحملُ في جدرانِها صمتًا ثقيلًا، كأنَّها تُحدِّثني عن حكاياتٍ لم تُروَ بعدُ، وعن أملٍ يحاولُ أن يشقَّ طريقَه من بينِ ظلالِ الحزنِ. حتَّى الغيومُ، تلكَ التي اعتدْنا أن تكونَ في سماءِ بلادِنا بشارةَ عطاءٍ وتفاؤلٍ، وسعادةَ روحٍ، وخيرٍ ينهمرُ، تبدو في لوحتِها كئيبةً، كأنَّها استعارتْ مزاجَها من شتاءٍ موحشٍ بعيدٍ.
أتساءلُ: هل نزعَها عرقٌ من جيناتِ السلافيِّين، لتسكنَ صغيرتي روحَ الروائيِّين الروسِ، من أولئكَ الذين أغرقوا صفحاتِ التاريخِ بسوداويتِهم؟ أيمكنُ لطفلتي أن تكونَ قد ورثتْ منهم تلكَ النظرةَ العميقةَ إلى الحياةِ، حيثُ الكآبةُ تتشابكُ مع الجمالِ لتخلقَ صورةً فريدةً؟ أم أنَّها ببساطتِها قد التقطتْ ما قد نغفلُ عنهُ نحنُ الكبارَ؟
ما الذي تودُّ أن توصِلَه صغيرتي من لوحتِها هذه؟