دجوار أحمد آغا
نتيجة التغافل عن محاسبة الجناة، تُكرر المجازر بحق ناشطين ومثقفين كرد، في باريس، حيث بقيت ملفات الجرائم مطوية بأيدي السلطات الفرنسية؛ ما يكشف النوايا بإخفاء الحقائق، وينذر بارتكاب المزيد مادام الصمت سيد الموقف.
بداية يجب أن تعلم تركيا قبل غيرها بأن الكرد شعب حيّ، ولن تستطيع بارتكابها المجازر والإبادات، أن تنهي وجوده مثلما عجزت عن إبادة الأرمن والسريان والعرب، وغيرهم من شعوب الشرق الأوسط الأصلاء. كما ذكرنا الكرد وليس كما يقول الأتراك ومن لف لفهم “الأكراد”. الكرد شعب أصيل له تاريخ وحضارة وعراقة في الشرق الأوسط، وما زال يقدم الكثير من أجل المنطقة والعالم. ما يقوم به الكرد الآن وما قاموا به من قبل في كسر شوكة أعتى تنظيم إرهابي حلّ على المنطقة والعالم ونقصد هنا “داعش”، وتحطيم سطوته واعتقال الآلاف من عناصره، العالم مدين للكرد في ذلك من خلال أكثر من 14 ألف شهيد و25 ألف جريح حرب. يجب على تركيا أن تعلم جيداً بأن الشعب الكردي أصبح منظماً ولديه القدرة على حماية نفسه من الإبادة والفناء.
المجازر التركية ضد الكرد
تاريخ تركيا حافل بارتكاب الكثير من المجازر والإبادات الجماعية بحق شعوب المنطقة بشكل عام، والشعب الكردي على وجه الخصوص. هذه الجرائم، التي ترتقي إلى جرائم حرب ضد الإنسانية، كانت -وما تزال-ترتكبها بشكل ممنهج ضد الكرد والأرمن والسريان، والآشور، والشركس، والشيشان، وحتى العرب تتم ممارسة سياسة التتريك بحقهم، إلى جانب تضييق الخناق على القوى التقدمية والديمقراطية، وخاصة من الطائفة العلوية.
الكثير من المجازر والمذابح التي قامت بها تركيا بحق الكرد على وجه الخصوص بغية إنهائهم والقضاء عليهم، لترتاح نهائياً من أصحاب الأرض الحقيقيين، الذين يؤرقون راحتها؛ لأنها تعلم علم اليقين، بأنها قد بنت دولتها على أرض كردستان.
كوجكيري، آلقمش، ديرسم، نوالا قصابا، كلي زيلان، وغيرها لم تكفِ الفاشية التركية بل قامت بارتكاب مجزرة “مرعش” 1978 ومن ثم مجزرة السجون في 19 كانون الأول سنة 2000، وصولاً إلى مجزرة باريس الأولى في التاسع من كانون الثاني 2013، ومجزرة باريس الثانية في 23 كانون الأول 2022.
ملاحقة الكرد في أوروبا
سعت تركيا دوماً إلى ملاحقة المناضلين الكرد أينما ذهبوا، والعمل على منعهم من طرح قضيتهم أمام العالم الخارجي، هذا الأمر الذي أدّى إلى اعتقال الكثير من المناضلين والثائرين الكرد، الذين هاجروا إلى الدول الأوروبية وقدّموا طلبات لجوء اليها لكي يتمكّنوا من النضال من أجل تعريف المجتمع الدولي بقضية شعبهم العادلة ويكتسبوا أصدقاء.
هذا الأمر الذي أدى إلى تأسيس وتشكيل مؤسسات ثقافية كردية ومعاهد للصداقة بين الكرد وشعوب أوروبا، الأمر الذي أغضب تركيا؛ ما دفعها إلى تكليف أحد عملائها باغتيال رئيس الوزراء السويدي “أولف بالمه” سنة 1986 واتهام حزب العمال الكردستاني بالعملية تمهيداً لوضعه على لائحة الإرهاب، ومنع كوادره من العمل بحرية فوق الأراضي الأوروبية. ولم تكتفِ تركيا بذلك، بل طالبت الكثير من الدول الأوروبية بتسليمها المناضلين الكرد من باكور كردستان، الذين حصلوا على اللجوء السياسي أو الإنساني في تلك البلدان وقد قامت العديد من تلك الدول بتسليم المناضلين إلى تركيا مثل (السويد، ألمانيا، بلجيكا، الدنمارك، فرنسا، وغيرها).
مجزرة باريس الأولى
رغم كل ما قدمته الدول الأوروبية لتركيا من وضع حزب العمال الكردستاني على قوائم الإرهاب، وهو منها براء، وتسليمها الكثير من كوادر الحزب، إلا أن الفاشية التركية لم تشبع بذلك. لذا؛ قررت أن تقوم بنفسها بتصفية واغتيال المناضلين والمناضلات الكرد وفي قلب العواصم الأوروبية مثلها مثل إيران، التي اغتالت قادة الكرد (قاسملو في فيينا 1989، وشرف كندي في برلين 1992).
لذا؛ قامت بالتخطيط وبشكل مكثف وبالتعاون مع عملاء لها في باريس العاصمة الفرنسية، للقيام بعملية اغتيال بحق ثلاث مناضلات كرديات وهن: (ساكينة جانسيز، فيدان دوغان، ليلى شايلماز)، بتاريخ التاسع من كانون الثاني 2013 في الدائرة العاشرة بباريس. هزّت هذه المجزرة البشعة بحق المناضلات الكرديات العالم خاصة، وأن الشهيدات الثلاث ناضلن من أجل حرية المرأة في مختلف أنحاء العالم. مجزرة باريس الثانية
مرّت مجزرة باريس الأولى دونما أي اتهام أو اعتقال أو إدانة من جانب السلطات الفرنسية ولا حتى سعت إلى الكشف عن ملابسات القضية، على العكس من ذلك، تكتّمت عليها بشكل مخيف، الأمر الذي شجّع تركيا على التخطيط والتحضير لتنفيذ مجزرة باريس الثانية. وبالفعل؛ في يوم الجمعة المصادف الثالث والعشرين من شهر كانون الأول 2022 يتم استهداف مركز الجمعية الثقافية الكردية في العاصمة الفرنسية باريس من جانب شخص إرهابي مدفوع من جانب الفاشية التركية؛ ما أدى إلى استشهاد ابنة الشعب الكردي المناضلة والثورية العظيمة أمينة كارا “أفين كوي”، والفنان الوطني الملتزم “مير برور”، والوطني الشجاع “عبد الله كزيل”.
الدلائل والمؤشرات كانت تُشير إلى أن من نفذ مجزرة باريس الأولى ولم تتم محاسبته، هو من تجرأ وقام بارتكاب هذه المجزرة الثانية وفي قلب العاصمة الفرنسية باريس. حتى أن شخصية مرموقة مثل “جان لوك ميلنشون” مؤسس حزب فرنسا الأبية قال خلال مؤتمر صحفي: “لا يؤمن بالصدفة عندما يتعلّق الأمر باغتيال كرد في باريس”.
موقف السلطات الفرنسية
لم تكشف السلطات الفرنسية عن ملابسات المجزرة الأولى التي جرت في باريس، حيث تكتمت على التسجيلات والشهود ولم يطرأ أي تقدم في ملف القضية. المخابرات الفرنسية ووزارة الداخلية رفضوا الكشف عن أية معلومات حول مسار القضية تحت حجة “أسرار الدولة” الأمر الذي أثار الريبة والشكوك حول حدوث تواطؤ بينها وبين الاستخبارات التركية، خاصة بعد الإعلان عن موت المنفذ المزعوم للمجزرة “عمر كوني” بظروف غامضة في السجن سنة 2016.
وعلى الرغم من أنّ قوات الدفاع الشعبي كانت قد قبضت على أحد ضابط الاستخبارات التركية في باشور كردستان عام 2017، واعترف بأن مجزرة باريس الأولى كانت من تخطيطهم، إلا أن السلطات الفرنسية والدول الأوروبية لم تحرك ساكناً، الأمر الذي يؤكّد بأنها متواطئة معهم وتقع المسؤولية على عاتقها. لا تزال العدالة غائبة والجناة يعيشون بحرية، وربما يتم تكليفهم بالقيام بمجازر وجرائم أخرى طالما لم تتم معاقبتهم، ولا تحميلهم المسؤولية من جانب السلطات الفرنسية.
لا بد من معاقبة القتلة
لا يمكن أن تستمر هذه الجرائم بحق المناضلين الكرد، وفي قلب العاصمة الفرنسية باريس، إذا لا بد من الكشف عن الجناة وتقديمهم للمحاكمة. جميعنا يعلم بأن من يقف وراء هذه المجازر هي تركيا، التي تهدف من وراء ذلك إحباط نضال الكرد من أجل الحرية، وإسكات صوتهم. إن مجزرتي باريس الأولى والثانية، لم تستهدفا فقط المناضلات الكرديات من أجل الحرية، بل هي استهداف قيم العدالة والديمقراطية في أوروبا.