عبد الله رحيل
لعلّ من بابِ الإنصافِ في الخلافِ الدَّائر حول التّثاقف، والتّناصّ، والموافقة الأسلوبيّة في اللفظ والتراكيب، وفي الموضوع والمعنى في الشعر عموما، والنثر خصوصا، أن نقف حول ماهية النّصّيّة والتّناص، وأن نستوفي الحديث، ونستفيض به وصولا إلى ما سمّاه ناقدو الشّعر السّرقات الأدبيّة، فلو تمايزتِ الآراء، اتّفقتْ أو اُختلفتْ، نحو جلّ ما أُلِّف، وقيل في الشّعر والنّثر؛ لوجدنا أن التّشابه المثير بين المعاني، والألفاظ المتواترة بين متون المؤلفات، والدّواوين الشّعرية المختلفة، واضحٌ ومرتكز إلى التّأثير والتأثّر، ويشكل نموذجا جدليًّا بين نقاد الأدب، وتمحيص الشّعر، ولرأينا هذا التشابه في الصّورة، والأسلوب، اللذين حِيكا به، لكن في المقابل، أليست الألفاظ، والتّراكيب منثورةً في الطّرقات، والمعاجم، والدّور الّلغوية المختلفة؟ فما عسى الشّاعر، والأديب، أن يلمَّاها بأسلوب، وبمنهج مختلف؛ حتى تغدو قصيدةً منظومةً، أو وصفًا يسرُّ العارفين والقارئين، وبهذا المعنى، يبدو التَّناص والمثاقفة تجديدا للأدب، واللّغة عموما؛ لكيلا يصيرا منهجا جامدا، لا روح فيهما ولا نماء.
مفهوم التناص والمثاقفة في اللغة والأدب
وفي هذا السياق النّقدي، لا بدّ لنا من أن نُعرِّج إلى تعريف التّناص في المعاني، والتّثاقف اللّفظي، فيظهر التّناص في المعجم اللّغويّ، أنّه مصدر الفعل تناصَّ، أو تناصص، ويعني ازدحم، نقول تناصَّ النّاس، أي ازدحموا، ويتضمّن معنى المُشاركة، لكنّه في الاصطلاح النّصيّ النّقديّ، حسب معجم المعاني، فهو العلاقة الّتي تربط نصًّا أدبيًا بنصٍّ آخر، أو استحضار نصٍّ أدبيّ، داخل نصّ أدبيّ آخر، وهو مُرتبط بوجود علاقات بين النّصوص المُختلفة، ويقوم على فكرة عدم وجود نصٍّ بدأ من العدم، فكلّ نصّ موجود، هو مُعتمد في وجوده على نصٍّ آخر، إمّا في الفكرة، وإما في استخدام التراكيب، والألفاظ، وتُعد الفيلسوفة البلغارية الفرنسيّة جوليا كريستيفا رائدة هذا المُصطلح، وقد أصبحت مؤثّرة في التحليل النّقديّ الدّوليّ والدّراسات الثّقافيّة، والحركة النّسويّة؛ بعد أن نشرت مقالات تتناول التّناصّ.
ومن جميل مبتغى علماء العربيّة، ومردهم فحوى الحديث؛ ساروا يتلمسون وجود التّناص أساسا للتّشابه، والتّداخل النّصيّ، فهو عندهم حضورُ نصٍّ داخل نصٍّ آخر، عبر الاقتطاع والتّحويل، أو ملاحظة القارئ لعلاقات ما بين عمل أدبيّ، وأعمال أخرى سابقة، فالتّماثل الشّعوريّ واللّاشعوريّ بين المعاني، دفع الشّعراء القدامى إلى إقرار هذا التّداخل بين المعاني، والتّشابيه المختلفة، فذكر البكاء، وتشبيه بكاء امرئ القيس ببكاء ابن خذام لمحة تدليليّة لتشابك نصين، أو توليد معنى من معنى آخر، فهذا البيت يمثل اعترافا من امرئ القيس أنّه مسبوق في هذا المعنى:
عُوجَا عَلى الطَلَلِ المَحيلِ لِأَنَنا
نَبكي الدِيارَ كَما بَكى اِبنُ خِذامِ
فالتّناص من منظوره الدِّلالي ينظر إلى التّأثّر المتبادل، والتّشابه بين نصّين، فيعدُّ الأول منهما نصًّا أساسيًّا عامًا، ويُسمّى نصًّا تاريخيًّا، وانطلاقا من هذا المفهوم للتَّناص يأخذنا الحديث إلى فلسفة فرويد: وهي أثرٌ لأثرِ أثرٍ نفسيٍّ.
وبهذا أوصى عالم اللسانيات اللغوي الفرنسي فرديناند دو سوسور”: علينا أن نتذكَّر دائما أن اللّغة ميراث العصور السَّابقة، وهي عبارة عن نِتاج جماعيٍّ، يعمُّ أبناءها جميعهم”.
الأصل التاريخي والأدبي للتناص
فغداة تهبُّ علينا رياح البحث والتقصيّ للغوص في أصول هذا المصطلح، الذي باتت تينع جذوره، وثماره بين كثير من الكتّاب، والمفكّرين، والشّعراء، وكلِّ من يقودُه قاربُ التَّأليفِ والكتابة، نعود بالنبش في أصوله إلى الوراء في زمن الشُّعراء الأوَّلِ؛ فنجد ما كنَّا نبغي، فالشَّاعر عنترة بن شدّاد قبل ردهة من الزمن أثار هذا المفهوم اللفظيّ، والنقديّ في الشِّعر عمومًا، حيث عناه هذا الجانب، وهو في زمن الشِّعر الأوَّل، فيقول في مقدّمة معلقته الشّهيرة:
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
وهذا اعتراف منه أنّ الأوَّلين لم يتركوا للآخرين معنىً، ولا موضوعا إلا وطرقوه وألفوا فيه شعرًا.
وقول عليّ بن أبي طالب، في سياق نقديّ: “لولا أنّ الكلامَ يُعاد لنفدَ”
ويقول الشَّاعر أبو تمام:
يَقولُ مَن تَقرَّعُ أَسماعَهُ
كَم تَرَكَ الأَوَّلُ لِلآخِرِ
وقد أثار هذا الرّأي النّقديّ الشّاعر المخضرم كعب بن زهير:
ما أَرانا نَقولُ إِلّا رَجيعاً
وَمُعاداً مِن قَولِنا مَكرورا
أما الأخطل، فهو كذلك قد أدلى بدلوه حيال هذا التّناصّ، حتى رُوي عنه قوله: (نحن معاشرَ الشُّعراءِ، أسرق من الصّاغة).
وثمة مقولات عديدة تثبت هذه الظّاهرة، مثل قول الشّاعر، والكاتب، والمخرج المسرحيّ الألماني برتولد بريخت”: “وشكسبير أيضا كان سارقاً”.
وبالتّوافق في هذه الآراء النّقدية يبرز التّناص والتّثاقف منهجا في تأليف الأدب والشّعر المختلف، ويظهر حقيقة جلية، يلجأ إليها طلاب التأليف في أساليب متعددة، لكن ضمن هذا التّناص يبين علماء اللّغة، أنَّ لا عيب في التّثاقف، والتّشاركيّة اللّفظيّة مع الآخرين، لكن يجب أن تكون للمثقّف، أو الأديب، أو الشّاعر، هوية وطريقة، وحريٌّ بنا أن نَعْدِلَ الحِمْلَ ونُوزنه متمثّلين بأقوال شعراء؛ حتى يستقيم بنا السّير في ماهية التّناص والتّشاركيّة في المعنى، ففي معلقة طَرَفَةَ بنِ العَبدِ، ورد هذا البيت من الشّعر
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ.
وقد أجاد في قول اللّفظ نفسه، هنا أمرؤ القيس، وقد أورد البيت نفسه، بخلاف كلمةِ القافية الأخيرة، في معلقته المشهورة:
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَمَّلِ
لكن التّجلُّد في قول طَرفة هو الصّبر الجميل، وفي قول امرئ القيس هو: الموقف الحكيم مع الصّبر، فقد يكون أشمل من قول طَرفة، لكنَّنا لا نعرف مَنِ المتأثّر بالآخر، فلو رجعنا إلى ترتيب المعلَّقات؛ لوجدنا أنَ النَّقاد جعلوا معلقة امرئ القيس في المقدّمة عن معلقة طَرفة.
ومثال هذا التّوافق اللّفظي، والتّركيب الشّعريّ يُلمح عند الشّاعر الفرزدق، والفرزدق عاصر العصر الأمويّ، فلولا أنّ التّناص، قد مُنع أو عِيب في جذوره الأولى، لا نراه منثورًا بين قصائد الفحول من الشُّعراء، لكن هذا الجانب لم يعدُّه نقاد الأدب عيبًا، أو تكرارًا لما قِيلَ:
إِنَّ الَّذي سَمَكَ السَماءَ بَنى لَنا
بَيتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطوَلُ
وهنا يردُّ عليه قرينه جرير، صاحبه في فنّ النّقائض الممتع، والأسير للفكر والألباب، مستخدمًا اللَّفظَ والأسلوبَ نفسَه للفرزدق:
أَخزى الَّذي سَمَكَ السَماءَ مُجاشِعاً
وَبَنى بِناءَكَ في الحَضيضِ الأَسفَلِ
معارضةٌ شعريَّةٌ نبيلةٌ بصورة الهجاء المُقذِع، فالموضوع واحدٌ، والوزن على بحر الكامل، فعلاتن، فعلاتن، فعلاتن، واحدٌ، والمعنى واحدٌ، وكذلك الرويُّ والقافيةُ، لكن علماءَ اللُّغة ونقادها الكُثر، لم يعدُّوا ذلك سرقة أدبية، أو تناصًّا، إنما هو إثراءٌ للُّغةِ والأدبِ.
نظرية التناص عند اللغوين العرب والغربيين
وكما أسلفت سابقا أنّ التّناص والتّثاقف في معناه الحديث، فقد ظهر عند العرب الأولين، لكن بشكل اقتباسات محدّدة، وبالرّغم من ذلك، فقد امتدّت جذوره، وفروعه المتعددة، والمتشعبة عند الكتّاب الرّوس، وعند علماء اللّسانيات الفرنسيين، وعلماء البنيويّة اللّغوية، والأدبية، وهو عند العرب الحداثيين، له تسمية مغايرة لما أطلق عليه الغربيون، فهو عندهم، وخاصّة في النّقد العربيّ القديم، يشابه التضمين، أو الاقتباس، أو ما أطلقوا عليه السّرقات الأدبيّة، وإن كان هناك بون كبير بين التّضمين والتّناصّ، فالتّضمين يؤتى به، كشاهد لبيان بلاغة، أو إثبات رأي، لكن التّناص هو نصٌّ جديد كامل بعناصره، ومقدماته، وخواتمه، متأثّرًا بنصٍّ قديم، لكنه بإطار لغوي حديث مختلف.
وبطريقنا نحو أسرار النَّصيّة والتَّشاركيّة، فيجدر بنا أن نرى هذا التّشارك عند النّاقد الأمريكي ت. س، إليوت، والشّاعر العراقيّ بدر شاكر السّياب، فلو غصنا في المقارنة، والنقدية بين الشّاعرين؛ لرأينا التّناص الكبير، والمشابه تماما للسّياب مع إليوت، ويظهر هذا في قصيدة “الأرض الخراب”، وقصيدة أنشودة المطر، فالانبعاث من جديد بعد الموات عند إليوت، هو نفسه عند انبعاث الحياة بعد الموت والخراب عند السّياب، ومن هنا يظهر الخراب عند إليوت، بعد الحرب العالمية الأولى أرضا خرابا؛ بسبب الحرب، لكن الخراب عند السّياب هو خراب بسبب الجهل، والتخلف، والظلم، والاستبداد.
وقد سادت نظرية التّناص حين بدأت الهجرات العربية نحو الغرب، وحين بدا الاستشراق نحو الأدب العربي، وحين غدت الترجمة وجهة الباحثين، ودور النشر والطباعة، وحين ضعف التأليف، وضعف التعبير العربي في وصف حالة الجهل والتخلف، والأزمات، التي عانت منها نظرة المثقّف، والشّاعر نحو التّغيير، ذلك الواقع للأدب جعل التّناصّ، والتّشارك ملجأ خصبا لشعراء الحداثة، ورموز المسرحيّة العربيّة، وكتّاب الروايات الطولية، كما يظهر جليا عند نجيب محفوظ، وفي بعض الأحايين عند المنفلوطي.
فإن يمت اللفظ، ويستهلك معناه، نكون قد وأدنا اللغة ومقاصدها، وتوافقاتها الحداثية في عصور التطور والتغيير، وبقي التأليف يدور في المحلية التي تضعفه، وتسف معناه، ولهذا أدرك علماء اللغة والأدب في العصور الغربية الأولى هذا الجانب من التأثر والتأثير بين اللغات العالمية، واللغة العربيّة، وبدؤوا بالاتجاه إلى المشرق يعارضون الشعر، ويتأثرون لما أُلف به، كما فعل الفيلسوف الإيطالي دانتي في تأثره الكبير، والنّصيّ في مسرحيته” الكوميديا الإلهية” مع “رسالة الغفران” لأبي العلاء المعري، التي تدور وقائعهما في العالم الآخر بعد الموات، ويمكن لنا أن نجمل الرّحلات العربيّة، التي قام بها الرّحّالة العرب؛ للكشف في متاهات العالم وأدبياته، وعاداته، ومن ذلك رحلة ابن بطوطة حول العالم، الذي تأثّر بتاريخ الشّعوب، وكتب عن عاداتهم، وثقافتهم، ذلك كله يأتي من قبيل التّناصيّة، والتّثاقفيّة والتّشاركيّة في الأعمال الثّقافيّة كلّها، ما يُثري الأدب، والحراك الثَّقافي بين شعوب العالم.
رأي النقاد الأقدمين في التناص
ومن قبيل البحث، والتّقصيّ، والعودة إلى التّمحيص، والتّدقيق في القيمة التّناصيّة، يورد القاضي عبد القاهر الجرجاني عذرا منطقيا لأهل عصره في لجوئهم إلى التّناصّ، ومن يليهم؛ معلّلا سبب وجود هذا التّناصّ:
“لأنّ مَنْ تقدّمنا قد استغرق المعاني، وسبق إليها، وأتى على معظمها، وإنّما نحصل على بقايا، إما أنْ تُرِكتْ لرغبة عنها، واستهانةٍ بها، أو لبعد مطلب مراميها، والتّعذر الوصول إليها”.
ولاستقامة الحديث، ونماء غاياته، وجني ثماره، لابدّ لنا من القول، ومن باب النقد الأدبي لما حل في مشاركة المعاني والموضوعات، إنّ التّناصّ يحي اللغة، ويقدّم لها التّطور، والنماء، ومسايرة الحداثة العالمية، ويولد ثقافة جديدة، وعلامة تمازج مطلوبة بين الشّعوب. لكن، والحالة النّصيّة الكبيرة، التي يتشارك فيها علماء العصور وأدباؤها، بموضوعات ونتاج أدبي شعريّ كثيف، أثرى المكتبة، والعقل بإبداع جمٍّ وافٍ، فمن المنطقيّة، والضرورة أن يكون للمتأثر أسلوبٌ، ومنهج خاصٌّ به بعيدا عن التشابه الكبير، وأن يكسي نفسه حلّة الإبداع، والتفرّد الأسلوبيّ الذي يعرف فيه، كما يليق بمنتوجه الأدبيّ والعلميّ واللّغوي، وبهذا المعنى الشمولي لمفهوم التّناصّ، والتّشاركيّة، والتّثاقف، يقدم لنا في النقد الأدبيّ القديم، الأديب أبو هلال العسكري في كتابه الصناعتين، رأيًا محوريًّا وهامًّا، لدى كل من يعرج متأثرا بالآداب العالمية والمحلية، حتى عُدَّ حقًا الميزان العادل للتّناصّ في الأدب، وغيره: