كيف قام حزب العمال الكردستاني بملء الفراغ الفكري الموجود في الشرق الأوسط؟ ـ1ـ

أحمد بيرهات (الرئيس المشترك لمنتدى حلب الثقافي)

في تاريخ الشعوب والمجتمعات، هناك أشخاص وحركات أثَّرت وبشكلٍ كبير في مسارهم، فقد كان لحزب العمال الكردستاني نصيب في ذلك.

سأقوم بإجراء قراءة مقتضبة لتاريخ حزب العمال الكردستاني خلال عدة حلقات أتمنى أن تكون مساهمة قيّمة في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ الشرق الأوسط والعالم والكرد بشكلٍ خاص.

منذ تأسيس حزب العمال الكردستاني بدأ بطرح الأسئلة على نمط:

-من هم الكرد؟ ومن أين أتوا؟ لماذا يتعرضون للظلم ولا يُسمح لهم بتعلم لغتهم الأم والتكلم بها، في وقت هناك قوانين لحماية الحيوانات لا نجد في كل المواد قوانين موضوعة في دستور الدولة التركية بند أو مادة واحدة يشار فيها إلى الكرد.

ومن ناحية أخرى طرح أسئلة فلسفية ذات صبغة سوسيولوجية، لماذا الكرد فقدوا الثقة بالنفس وفقدوا الأمل في خوض غمار الحياة، ولماذا يتحاربون فيما بينهم ويعيشون في حالة خصام دائم كاد أن يتحول إلى ثقافة لديهم؟!

تلازم كل هذه الأسئلة مع السؤال الجوهري وهو: من… وأي جهة تكمن خلف كل ما يتعرّض له المهمشين والفقراء من جميع الشعوب والمكونات من الظلم والطغيان ويعيشون حياة مظلمة وبائسة.

هذه الأسئلة الجوهرية والوجودية فتحت أبواب لأسئلة أخرى اتخذت طابعاً ثورياً أكثر وضوحاً.

ماذا سيفعل هذا الحزب الثوري الوليد في سبيل تغيير هذا الواقع الذي عاشه الكرد وشعوب المنطقة، وكيف سيكون جواباً لهذه الأسئلة التي طرحها في بداية تأسيسه؟

 فكانت النتيجة بعد مخاض هذه الأسئلة هي ضرورة وحتمية التوصل إلى رؤية واضحة والبدء بالتمرد وتنظيم انتفاضة والقيام بالثورة على هذا الواقع المرير.

في البدء كان العمل والنضال بهدف تحقيق الحرية من خلال التعاضد والتكاتف بين الشعوب المضطهدة في تركيا وفي المنطقة والعالم كمسار متلازم، وبذلك يكون قد وضع حداً لفلسفة القدر والموت التي لازمت شعوب المنطقة لآلاف السنين التي باتت كعقدة وبحاجة إلى حلول ناجعة لها.

هذه المقدمة اتخذتها منهجاً لقراءة ومحاولة الإجابة على أسئلتها المطروحة، والتي قد أحدثت تشويشاً في الرؤى الموجودة وانقلاباً في وقائعها آنذاك، وهذا بالتحديد السر الكامن وراء الانطلاقة الثورية القوية لحركة حرية كردستان ممثلة بحزب العمال الكردستاني.

وهذا يظهر بأن تشكيل حركة منظمة ومتينة ضمن أحشاء المجتمع الكردستاني كان أمراً بالغ الصعوبة ما لم يتم إدراك أهمية وأسباب الأسئلة التي طرحتها هذه الحركة، وقد أشرنا إليها في مقدمة مقالنا البحثي هذا، ومدى مشقة وصعوبة تكوين المجتمعية الثورية في الشرق الأوسط.

حزب العمال الكردستاني ومنهجه النضالي

بدأ حزب العمال الكردستاني نضاله الثوري بتعريف نفسه أنه حركة فكرية وسياسية واجتماعية، ويمتلك برنامجاً اقتصادياً يتخذ التوزيع العادل للثروة أولوية لديه، وتقوده مجموعة ثورية بهدف تغيير الواقع المعاش والسير به نحو التقدم ومواكبة العصر وإحداث تغيير جذري من خلال رفع شعار “كردستان مستعمرة” وتبنت قضية تحرير الشعوب أساساً وبشكلٍ متلازم مع نضال حركات التحرر للشعوب الأخرى، وبذلك حصل هذا الحزب على الشرعية الشعبية، وهذا هو بالتحديد السبب وراء الانتشار السريع لهذا الحزب وهذه الحركة الشعبية لاحقاً لامتلاكها نهج وفلسفة خاصة بها، فكان لا بدَّ لها من استخدام أساليب مختلفة عن الحركات الأخرى فاتخذت الجرأة في انطلاقتها الثورية وفي طرح مشروع تنويري ونهضوي مفعم بالثورية كأطروحة مضادة في وجه النظام الحاكم الذي له ارتباطات بأجندات الدول “الإمبريالية” فتركيا عضوة في حلف الناتو وكانت تلعب دوراً متقدماً في مواجهة المعسكر الاشتراكي آنذاك، واستكملت لعب دورها كشرطي لهذا الحلف في الشرق الأوسط بعد انهيار شاه إيران وانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية.

لم يتخذ حزب العمال الكردستاني النضال والفعل العسكري في بداية انطلاقته كاستراتيجية نضالية، بل اتخذ العمل الفكري والسياسي وسيلة لنشاطاته، لكنه كان مقتنعاً أنه لا يمكن الدفاع عن أفكاره وكوادره دون التحضير للعمل العسكري لمقاومة ومواجهة النظام الفاشي في تركيا التي تعيش على إبادة وصهر الشعوب، وما قامت به في مواجهة التمردات والانتفاضات الكردية في باكور كردستان بين أعوام 1925-1940 إلا دليل ذلك فالمجازر التي حصلت في بالو وكنج في آمد وكليه زيلان وديرسم كفيلة لإيضاح صورة المشهد حينها.

وفق ما ذكر فقد وضعت هذه الحركة رؤية استراتيجية تضع حتمية اتخاذ النشاط العسكري كهدف تكتيكي لخدمة استراتيجيتها في تلك المرحلة (ومازالت سارية حتى الآن) وهذا ما حصل فعلياً مع الانطلاقة المسلحة في يوم 15 آب عام 1984. بعد النداء الشهير للمناضل محمد خيري دورمش أثناء محاكمته في محكمة آمد وصرخته في وجه الفاشية بأنه “قد حان الوقت للنضال المسلح”.

لقد عمل حزب العمال الكردستاني وفق معادلة جدلية ووجودية، ووفق التناقضات الموجودة في تركيا متأثراً بالمد الثوري والمد اليساري آنذاك والأجواء العالمية والثورات المندلعة حينها في فيتنام وكوبا وكمبوديا وأنغولا ولاوس والجزائر وغيرها.

إضافةً للصراع المحتدم بين القطبين والقوتين الرئيستين المتمثلتين بالمنظومة الرأسمالية والمنظومة الاشتراكية في تلك المرحلة (في سبعينيات وثمانينيات القرن المنصرم).

فهذا التناقض الجدلي قد ولّد تقدّماً وخلق توازناً فكرياً خلّاقاً، كما هو في علم الكوانتوم “فالشمس تجذب الأرض لأنها أثقل، والأرض أثناء دورانها حول الشمس تخلق قوة طرد مركزية، فتخلق التوازن”. وهذا بالضبط ما قامت بها حركة حرية كردستان في المجتمع الكردستاني والشرق الأوسط عامة بانطلاقتها النضالية المفعمة بالحيوية.

حزب العمال الكردستاني بين الانبعاث و”الفوبيا“

عمل حزب العمال الكردستاني في بداية تأسيسه على بناء الإنسان الثوري من خلال التعبئة النظرية والتنظيمية وزرع بذور الجرأة وبناء الروح الرفاقية المتينة والتدريب والتثقيف عليها وفق نقد ثنائية المادية البحتة والميتافيزيقية والوضعية الغربية، فقد قام هذا الحزب في البدء بوضع مواصفات للشخصية المناضلة الثورية الخاصة بها، والمستخلصة من خلاصة تجارب الأفكار المنبثقة من الإرث الميثيولوجي والديني والفلسفي والعلمي ورواد كل هذا الإرث من الرسل والأنبياء والحكماء والعلماء، وخلق منها جميعة وتركيبة ثورية مبدعة تقاوم أعتى “القوى اللوياثانية” في العالم، وهذه التركيبة الجديدة باتت قيماً ومبادئ بمثابة يوتوبيا معاصرة تتخذ الفكر والإرادة والإيمان منهجاً لإعادة تصويب الأخطاء التاريخية التي عاشتها الثورات من خلال إعادة كتابة التاريخ بعد قراءتها ودراستها بتمعّن وإيجاد تفسير خاص بهذا المنهج، فالإنسان هو الأساس في حركة حرية كردستان، وهذا بالتحديد شكّل محور الشخصية المناضلة ضمن هذه الحركة (والبراديغما الأوجلانية لاحقاً)، فتغيير الذهنية الكلاسيكية مهّد لتغيير الواقع الذي أشرنا إليه وهو واقع الشعب الكردي والشعوب المتعايشة معه ولعب هذا الحزب دوراً ريادياً في ذلك فاتخذ مصالح الشعوب أساساً مرتكزاً في ذلك على نقد تجربة الاشتراكية المشيدة والرأسمالية المتوحشة، مما أسس ذلك لخلق وبناء ذهنية وبالتالي وعي يرفض الاستسلام والخنوع ويؤسس لمقاومة مستدامة في كل زمان ومكان (في الجبال والسجون وفي كل الساحات)

لم يعتمد حزب العمال الكردستاني في تاريخه الذي تجاوز الخمسة وأربعين عاماً على أي دولة أو أي جهة مهيمنة في المنطقة والعالم بالرغم من وجود علاقات تكتيكية مع بعض الدول في المنطقة، وحتى في أوج صراع القطبين الاشتراكي والرأسمالي فاتخذ الفكر والجرأة والروح الرفاقية كأطروحة وأساساً في عمله النضالي كما ذكرنا ذلك آنفاً.

وبذلك أعاد هذا الحزب تأسيس وبناء المعنى لحضارة ميزوبوتاميا ولثقافة الشرق الأوسط والحركة الثورية العالمية من جديد، وهذا يعني أنه تحوَّل من حزب ثوري كادح إلى حركة عالمية تتخذ المجتمعية منهجاً حداثوياً وهذا ما يميز جدلية هذا الحزب الذي أسس لانبعاث وريادة الكرد وشعوب المنطقة من خلال بناء حضارة ديمقراطية جديدة وبنفس الوقت أصبح فوبيا بالنسبة للنظم الفاشية والأوليغارشية في المنطقة وداعميها من قوى الهيمنة والحداثة الرأسمالية العالمية.

وبصدد قراءتنا هذه عن تاريخ هذا الحزب لا بد من التأكيد على الدور والتأثير الكبير لحركات الاشتراكية العلمية والأفكار الخصبة من روادها الأوائل من ماركس وأنجلس ولينين وستالين وديمتروف وماوتسي تونغ وكيم إيل سونغ وأبيمال غوزمان وكيفارا وفيديل كاسترو وماهر جايان ودنيز كزميش وإبراهيم كايبا كايا ورفاق القائد أوجلان من الرعيل الأول أمثال حقي قرار وكمال بير ومحمد خيري دورمش ومظلوم دوغان ومعصوم قورقماز (عكيد) وغيرهم الكثير.

فالمخاض الكبير الآخر في تاريخ هذه الحركة كان مقاومة السجون عام 1982 (وما تمخض عنها فيما بعد من حملة مسلحة وانتفاضة عارمة في شمال كردستان) ولم يصل حزب العمال الكردستاني إلى ما وصله الآن لولا القفزة النوعية لحملة 15 آب المسلحة، فتعتبر هذه الحملة بمثابة الطلقة الأولى لصحوة الكرد في باكور كردستان وامتدت شظاياها وتأثيراتها على باقي أجزاء كردستان وفي نفس الوقت ضربة قوية في رأس وذهنية الفاشية التركية التي أقنعت نفسها يوماً بأن الكرد قد انتهوا وإلى الأبد وأنه لا يمكن أن يحييوا مرةً أخرى.

فكان الانبعاث الكردي الجديد في ذلك اليوم، فقد تلاشت الغيوم السوداء وأشرقت الشمس من جديد في تاريخ الكرد، وأعاد للكرد ثقتهم بأنفسهم وقدرتهم وإمكانية رسم وطن جديد وجميل في مخيلتهم، “فالكرد شعب الخيال” كما وصفهم القائد أوجلان في لقائه مع الصحفي والأديب السوري نبيل ملحم في كتابه المعنوّن “قائد وشعب”.

 فهذه الحملة أخرجت قادة كرد جُدد من صلب معاناة الشعب الكردي إضافةً إلى عشرات ومئات قادة التمردات والانتقاضات الكردية الأوليين من عبيد الله النهري وإحسان نوري باشا وقاضي محمد وملا مصطفى البرزاني ودكتور شفان وعبد الرحمن قاسملو وشرف كيندي وغيرهم من قادة معاصرين واستكمل برفاق ومناضلي هذا الحزب أمثال خليل جاوغون وصالح كندال وقادة مقاومة السجون في آمد، مظلوم دوغان ومحمد خيري دورمش وكمال بير ومناضلي مقاومة 14 تموز كفرهاد كورتاي وأشرف آنليك وعلي جيجك وعشرات الآلاف من الشهداء الذين أسسوا لنهضة وانبعاث الكرد من جديد.