تتردد دائماً على لسان مسؤولي الفاشية التركية عبارة “حدود الميثاق الملّي” عندما يتحدثون عن الأمن القومي التركي، وهو الميثاق الذي أقره البرلمان التركي في 28 كانون الثاني 1920 ورسم حدود تركيا بعد انهيار الدولة العثمانية، ووافق عليه البرلمان بمن فيهم مصطفى كمال الملقب لاحقاً بأتاتورك.
ومع أن هذا المصطلح لم يختفِ من الأدبيات السياسية التركية على امتداد العقود اللاحقة لكنه برز علناً ورسمياً في السنوات الأخيرة على لسان معظم مسؤولي حزب العدالة والتنمية الإخواني.
ويندرج ضمن حدود الميثاق الملي كل الشمال السوري بما فيه حلب، وباشور “جنوب” كردستان، وبعض المناطق في القوقاز وبحر إيجه.لكن الصراع في النهاية رسا، ولا سيما في معاهدة لوزان 1923، على الحدود الحالية المعترف بها دولياً. مع ذلك فقد بقي “الحنين” إلى استعادة الطورانية العثمانية حدودها، وفق الميثاق الملي حاضراً بقوة في العقل السياسي التركي، ولا سيما مع وصول حزب له أيديولوجيا دينية ومذهبية، وهو حزب العدالة والتنمية، لا يخفي الإشادة بتاريخ الدولة العثمانية والإشارة الدائمة إلى الإرث العثماني.
وفي مساعي العثمانية الجديدة لتحقيق حلمها في إحياء الميثاق الملي المنشود سعت الفاشية التركية لنسف التركيبة الديموغرافية في البلدان المجاورة أو المناطق التي تحتلها، خصوصاً تلك المناطق ذات السمة الكردية، ما ساعدها على ذلك وعزز محاولات تطبيق خططها الاحتلالية في الشرق الأوسط، والامتداد بها إلى إفريقيا، والأزمات التي عصفت بالبلدان العربية، أو ما عُرف بالربيع العربي، واختارت العديد من الأدوات لتطبيق ميثاقها على الأرض قدر الإمكان.
تغيير التوازنات الديموغرافية في شمال سوريا وجنوب كردستان
نجحت تركيا في توظيف العمليات العدوانية التي قامت بها في الأعوام 2016 و2018 و2019، والتي أدت إلى احتلال تركيا ما يقرب من قرابة عشرة آلاف كم مربع من الأراضي السوريّة، وفي إحداث تغيرات ديموغرافية واسعة وتهجير قرابة 600 ألف من السكان الأصليين وملء فراغهم عبر استقدام مستوطنين من مناطق سوريّة مختلفة للاستقرار في تلك المناطق ناهيك عن جلبها من خارج سوريا عدد واسع من الإيغور والتركمان وأبناء الجماعات المؤدلجة القريبة من نظام الحكم في تركيا، وعوائل المرتزقة.
والواقع أن سياسات التتريك كانت أكثر ضراوة في المناطق الكردية المحتلة في سوريا، مثل عفرين وسري كانيه، حيث أدت إلى تشريد عشرات الآلاف من السكان الكرد من مناطقهم.
وفي الطرف الآخر؛ سعت تركيا إلى تبنّي سياسات التتريك التدريجي في مناطق جنوب كردستان والتي بدأت تظهر بصورةٍ لافتةٍ بعد حرب الخليج 1991، حيث ازدادت عمليات التتريك بفعل التدخلات العسكرية التركية هناك، والتي جاءت تحت ستار حماية أبناء الشعب التركماني المتواجدين في العراق، حيث تعتبرهم أنقرة امتداداً طبيعياً لها، كما يطلق تركمان العراق على تركيا “الوطن الأم تركيا” أو “الأمة التركية العظمى”.
ومع سقوط نظام صدام حسين، وتصاعد الاحتقانات الطائفية في العراق، وجدت تركيا بيئة خصبة لتطوير سياسات التتريك، خاصةً في القرى العراقية التابعة لمدينة دهوك، والتي تصل إلى أكثر من ثلاثين قرية حدودية، حيث عملت تركيا على جلب العناصر التركمانية إلى هذه القرى، كما استخدمت أراضي هذه القرى وأحزمتها الزراعية لبناء قواعدها العسكرية، والتي وصلت في عام 2019 إلى نحو 29 موقعاً، بيد أن هذه المعسكرات زادت خلال الآونة الأخيرة، لتصل إلى نحو 87 موقعاً أغلبها تم بناؤها على أنقاض القرى الحدودية بين العراق وتركيا، والتي تعرّض أهلها للتهجير القسري تحت وطأة القصف التركي على المدنيين بذريعة وجود مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
وتجدر الإشارة إلى أن المؤسسات الدولية، كانت قد دقت منذ سنوات، ناقوس الخطر ضد عمليات التهجير القسري للكرد جنوب كردستان، فعلى سبيل المثال عبرت الأمم المتحدة عن قلقها في 19 تشرين الاول 2017 من سياسات تهجير قسري لمدنيين أغلبهم من الكرد، وتدمير ونهب منازلهم وشركاتهم.
الخشونة والنعومة.. أسلوب تركيا في السيطرة على اقتصاد شمال سوريا وجنوب كردستان
عمليات التغيير الديمغرافي التي تسعى لها تركيا في المناطق المحتلة في الشمال السوري، وجنوب كردستان، وتثبيت وجود العناصر البديلة عن السكان الأصليين، وإنقاذ الاقتصاد التركي المتهاوي، لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال إحكام السيطرة على الجوانب الاقتصادية في تلك المناطق.
واتبعت لهذا الشأن سبيلين الأول خشن في الشمال السوري من خلال القبض على جميع المناحي الاقتصادية، عن طريق القبضة العسكرية ومن خلال متزعمي المرتزقة التابعين لها، إذا عملت على ربطه بالاقتصاد التركي، وإعادة تأهيل شيء من البنية التحتية وركزت على مد شبكة من الطرق التي تربط الشمال السوري بالداخل التركي بتغيير طبوغرافي لا تخفيه العين ، كما باتت الليرة التركية هي العملة الرسمية فيها.
أما في في جنوب كردستان فاتبعت الأسلوب الناعم نوعاً ما عبر استمالة بعض القوى الكردية في هولير، وبخاصةٍ التي تبحث عن مصالح آنية وضيقة وبناء نفوذ سياسي على حساب قضية الكردية، وفي الصدارة الحزب الديمقراطي الكردستاني، حيث سعت تركيا إلى تجذيرها في الإقليم لطمس هوية الكرد، بل كان الأدهى، هو تبرير هذه الأطراف للعمليات العسكرية التي تشنها تركيا على مناطق جنوب كردستان وشمال وشرق سوريا.
الأمر الآخر، من خلال إنشاء شركات عائلية أغرقت تركيا جنوب كردستان بالعلامات التجارية التركية المنتشرة في كافة أرجاء الإقليم، بدءاً من مراكز التسوق ووصولاً إلى متاجر الأثاث والسلع التجارية والاستهلاكية، حتى إن السكان في جنوب كردستان لا يملكون خيارات بديلة للبضائع التركية بسبب السياسات الاقتصادية المتبعة هناك، وبحسب العديد من التقديرات المحلية. يأتي ذلك في الوقت الذي وصل فيه عدد الشركات التركية العاملة في الإقليم إلى أكثر من 1500 شركة كبيرة وصغيرة، علماً بأن هذا الرقم في تزايد مستمر.
الهيمنة التركية على عملية الإنتاج النفطي في جنوب كردستان
وبحسب تقرير لـ DRAW في 24-3-2022 يعتبر جنوب كردستان وجهة مهمة وفريدة من عدة نواحٍ بالنسبة لتركيا، بدون الثروة النفطية والغازية للإقليم، لا تستطيع تركيا المضي في ديمومتها، وبدون الهيمنة على أسواق الإقليم تتعرض تركيا الى أزمات اقتصادية، فالعلاقات مع إقليم كردستان أنقذت تركيا من الوقوع في أزمة البطالة
لكي تتوضح الصورة أكثر حول العلاقات بين حكومة الإقليم وتركيا سلط التقرير الضوء على عدة عوامل وهي كالتالي:
1ـ لا تملك تركيا مصادر للطاقة، تستورد ما تحتاجه من الخارج.
2ـ الطاقة من إحدى العوامل المهمة لديمومة عجلة التنمية في هذا البلد.
3ـ تقع تركيا في موقع عجيب، حيث تقع بالقرب من (73%) من احتياطي النفط في العالم و(70%) من إحتياطي الغاز، هذه المصادر تقع في منطقة الشرق الأوسط وبحر قزوين القريب منها :
هذه العوامل لها تأثير بشكلٍ مباشرعلى علاقة تركيا مع إقليم كردستان، والتي تحاول بكل السبل أن تكون في موقف المسيطر، وأن تكون لها اليد العليا في عقودها الاستثمارية مع الإقليم، بالاضافة الى ذلك حجم وقرب الطاقة الموجودة في الإقليم بالنسبة لتركيا سمة أخرى لها، ولذلك تحاول بشتى الطرق تكثيف الضغط على الإقليم من هذه الناحية، كما تعمل الشركات النفطية التركية في ثمانية حقول جنوب كردستان، تملك الشركات التركية بمجملها حصص وبنسب مختلفة في البلوكات النفطية بالإقليم، تصل في معظم الأحيان إلى 75%.
ونرى أن الهيمنة التركية على اقتصاد المناطق الكردية وتتريك مناطق شمال سوريا، وجنوب كردستان، وإعادة هندسة مجتمعات هذه العناصر من خلال إحداث تغيرات ديموغرافية على حساب سكانها الأصليين ثم إفقار شعوبها، أمر يمثل لدولة الاحتلال التركي آلية مهمة لتشتيت المجتمعات الأصلية في تلك المناطق خصوصاً الكردية منها أو دفعها للرحيل إلى مناطق بديلة، وهذا يعتبر توجه راسخ في عقيدة النُخب التركية على اختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها.
الرئيس التركي رجب طيب إردغون مترئساً اجتماع مجلس الأمن القومي (الرئاسة التركية)