No Result
View All Result
المشاهدات 2
عبد الله رحيل_
يقول روميو على لسان شكسبير: رب الغرام لديه أجنحة يطير بها على الأسوار. هيهات ليس يصده سد من الأحجار. فالحب ذو بأس وليس ترده الأخطار. وليس أهلوك جدار. ترد جولييت: إن شاهدوك ها هنا قتلوك، روميو: سحر اللحاظ أشد فتكا من طعان بالسيوف، فلتبد لي عين الرضا لأرد أخطار الحتوف.
في فيرونا الإيطالية، ساحة منزل صغير، وشجرات تتمايل في الليل العتيد، وشرفة رخامية صغيرة، لم تدر أنها حظيت باهتمام كبير مثير، ما لم تحظ به، شرفات لزعماء وعظماء في تاريخ البشرية كلها، غيروا التاريخ والإنسان، يترك هناك العشاق من أنحاء العالم كلها، على جدران منزل رسائل، وتوسلات، وقبلات، وأقفال، ومفاتيح، وأمنيات باللغات كلها، وعلى شجرة تحت شرفة منزل، يذكِّر بحب أضاء منذ القرن الرابع عشر الميلادي، حب أسطوري انتهى بواقعية صادقة، وموعد مع الموت والفراق، ومع بكاء القدر على قبر جولييت، الذي ما لبث روميو أن لحقها، وآثر أن يبقى جوارها أبد الدهر.
فإذا جلست يومًا وحيدًا بين هاتيك الربا، والطير حولك صَدّاع بأنغام، والجداول ترفد الغروب بخريرها المنهك، والشمس دانية لحظة لحظة نحو الغروب، فتتراءى لك من أعماق ذاكرتك البعيدة قصة حب، عشتها مع من هواك قلبها، فاجمع صورها وكلماتها، وألّف لها شعرا، بسحر الغروب، وارسم عينيها البراقتين فراش حقل نشط، ولؤلؤا من أصداف الشواطئ، واترك لها أثرا لا يمحوه اغتراب الأيام، ولا توالي السنين، وإن ذبل حبها، وأصبحت الريح تذروه.
قالت جولييت: «حسنًا، لمَ سُمِّيتَ روميو؟» وأضافت: «منذ أن أحببتُكَ، لم يعد للأسماء معنًى.»
إذا كان الحب أعمى فلن يصل إلى غايته، وسيظل منتظرا طريق البلوغ، ويظل منفردا بائسا حزينا، يتلمس آثار الحبيبة، ويعدو خلف عطورها في الهواء الطلق المثير، ويظل منزويا تحت أشرعة الذكرى، وتحت خيمة التردد، مستردا صوراً وابتسامات تناثرت في رجع حديث الهوى.
فعندما لا يكون الحبيب جزءا من حبيبته؛ ستقطع العديد من النجوم الصغيرة والكبيرة من الفضاء، وسيبقى الظلام كائنا وجوديا في السماء، وسيبقى العالم كله يهيم في ضوء القمر، وفي روح السناء.
وهكذا في احتفالات كبيرة مهيبة أقيمت في مدينة، اللورد فيها كان كريما، لم يدع أحدا للحضور فجعلها عامة، كانت حفل عشاء، ورقص مثير لفتيات ساحرات جميلات، أغلبهن أميرات ودوقات، وكان الصوت صاخبا والموسيقا الكلاسيكية المثيرة، ترنم في الأرجاء في باحة الرقص الكبيرة، نظر الشاب الوسيم روميو، الذي كان في كامل أناقته، مرتديا لباس الأمراء والفرسان إلى ساحة الرقص المثير، وبقناعه الأسود الجميل على أنفه وعينيه، رأى فتاة تهتز برشاقة بفستان أبيص مرصع بالجواهر والدرر، يزين عنقها عقد لؤلؤي أبيض لامع، وشعرها الملتف حول قمة رأسها المعتدل، وعلى رقبتها وشاح أبيض، لا يهوى أن يبتعد عنها، مستديرة في حلبة الرقص وحيدة، تمد ذراعيها إلى الجمهور، الذي لا تلتف إليه، وكي لا يكون المحب والعاشق أعمى، شق روميو بحرقة عاشق محب طريقه بين الجمهور والحضور إلى تلك الفتاة الحسناء:
“عفوا سيدتي/ لئن كانت يدي تلك الأثيمة/ قد مست الحرم المقدس/ في يديك؛ فدنسته/ فلربما ليس أن أزيل خطيئة/ بخطيئة عذبة”.
جرأة عاشق صب محق، استنفد أسباب الصبر والعناء، متحديا الأهوال والأخطار، استنكرت المحبة الحسناء ما كان من متودّد وسط الجمهور، وعلى مرأى الأمراء والنبلاء، تنظر إلى يده المرتعشة، التي أمسكت كفها المسترسل، يزينه قفاز أبيض طويل:
يا أيها الحاج الكريم/ ظلمت كل الظلم راحتك/ فهي التي أبدت خلاق العابدين/ وكل قديساتنا/ لهن أيد لا تني/ تمسها أيدي الحجيج/ وفي تلامس الكفين/ للحجاج قبلة مقدسة”.
وسط سكون المكان تراءى امتداد شارع بسيط في مدينة فيرونا الإيطالية، وبين الأشجار الملتفة إلى شرفة رخامية بيضاء، هي الوحيدة في منزل صغير، تسلل العاشق النبيل؛ فرأى جولييت واقفة على شرفتها، “كفص من الألماس يضيء في العتمة” كما وصفها شكسبير، وآثار لهيب القبلة تحترق بين شفتيها:
ما ذاك النور الذي ينساب من النافذة/ قل إنه المشرق لاح/ قل إنها جولييت بل شمس الصباح/ هيا اسطعي شمسي الجميلة وامحقي البدر الحسود”.
وعلى ضوء خافت لمصباح وحيد في رأس شارع خلا من المارة سوى مواء قطة تبحث عن أليف، تسلل الشاب الوسيم من بين أشجار الدفلى، فراح يسترق النظر إلى شرفة جولييت الصغيرة، فضمهما الليل، وغفا على حديثها ضوء القمر، نثر كلماته العاشقة وروح الغرام، على لمعان عقدها اللؤلؤي المرصع بالألماس.
“روميو:
رب الغرام أهاب بي أن أبحثا/ أعارني حكمته … فأعرته عيني/ أنا لست ملاحًا ولكن/ لو كنت تبعدين عني بعد أقصى سأحل في الأرض/ لكنت قد ركبت البحر في سبيلك!”
جولیت:
لولا قناع الليل يحجبني/ لرأيت في خدي ما نمَّ عن خجلي/ مما اعترفت به وأنت تسمعني!”
تتقاذف رياح الاختلاف والسيطرة والتملك في مدينة فيرونا الإيطالية قلوب الناس، وأهواءهم في الخلاف بين أسرتين نبيلتين، كل منهما يسعى للسيطرة على المدينة، تنتمي جولييت لإحداها، وروميو ينتمي للأخرى، فتدور الأحداث، ويصبح منزل جولييت، هو المكان الأكثر شاعرية عند شكسبير، وكذلك ساحة المنزل، ويصبحان عبر الأزمنة مهوى أفئدة قلوب العشاق، والمحبين، وعلى إثر ذلك الخلاف، يمنع روميو من الزواج من حبيبة الدهر جولييت الساحرة، الجميلة، فيُزوجان سرا، ثم ينتهيان إلى مصير محتوم بمساعدة القس، الذي شهد على زواجهما سرا، بأن تأخذ جولييت دواء، يجعلها فاقدة الوعي أياما؛ كي يستطيع القس تهريبها، على أنها قد ماتت، لكن سرعة القدر لم تدع القس، يخبر روميو بالخطة؛ فيتسرب خبر موت جولييت لروميو، الذي سرعان ما قدم إلى منزل حبيبته، وحينما رآها ممددة، تجرع السم الذي أحضره، وحين فاقت جولييت؛ رأت حبيبها مسجى جانبها، فعمدت إلى خنجر روميو؛ فقتلت نفسها، فضمهما لحد هُيئ لهما منذ البدء، وظلا يحدثان للأنام قصة وفاء لحب، لم تسعه الأرض، فلربما وسعته السماء.
“اذهب أنت إذن فأنا لن أمضي الآن!/ ما هذا؟ هذي كأس في يد زوجي المخلص!/ يبدو أن السم مضى بحبيبي قبل أوانه!/
ما أبخلك جرعت السم ولم تترك لي قطرة/ لم تترك ما أشربه كي ألحق بك؟ سأقبل شفتيك/ فلعل بقايا سمك عالقة بهما/ كيما ألقى الموت بما يحيي النفس/ ما زال الدفء بشفتيك”.
كل يمضي إلى غايته وأمله، وكل يجبر على اعتناق فكرة أو قبول قانون، إلا الحب فلا يفرض على أحد، فللقلوب أقفالها الرصينة والمتينة، لا يدخلها إلا المغرمون والمحبون، ولا يملك مفاتيحها إلا الساكنون في النفس، ومن تجرعوا مرارة العشق ولذة الحب، فالحب أعظم ارتباط عرفه التاريخ، وكم من مقتول حب ضمه قبر وحيد غريب، لم يتخل عنه حتى بلوغ منيته، ولعل الدهر يذكرنا بالمجنون حين جُن بليلى العامرية:
“وجدت في الحب نيراناً تلظى
قلوب العاشقين لها وقودُ
فلو كانت إذا احترقت تفانت
ولكن كلما احترقت تعودُ
كأهل النار إذا نضجت جلودٌ
أعيدت للشقاء لهم جلودُ”.
No Result
View All Result