البحث عن أصل الوجود في قصة “حـــــيِّ بـــنِ يـقـظــــانَ”

عبد الله رحيل_

البحث عن أصل الأشياء، والمادة، وتفسير علة العلل، كانت مهوى الفلاسفة، والبحث عما وراء الطبيعة عن أصل وجود الأشياء، لكن هذا البحث لم يفضِ إلى النتائج المرجوة، أو الوصول إلى أصل وجود العالم من حولنا، لهذا يمكن أن ننظر إلى العالم من حولنا، بمنظار الفحص والتجلي، لما تقع عليه حواسنا، ومن ثم محاولة تفسير علله المجهولة، التي يمكن أن نصل بمحاولتنا إلى الغاية، التي وجدت من أجلها، ومنها ماهية الديان، والماء، والمطر، ودورة الأفلاك، والكواكب، وخلق النار، ووجود الإنسان على هذه المعمورة، وما شابه، وبالمقابل من ذلك هناك موجودات لا علم للإنسان أن يعرف ما وراء خلقها ووجودها، وهي وجود روح هذه الموجودات، فلا ندركها بحواسنا، وهذا البحث والتقصي عن وجود هذه الأشياء تنظر إليهما الفلسفة في علم ما وراء الطبيعة، وهذا العلم يقودنا إلى الحكمة الإشراقية، التي جاء بها الفيلسوف ابن سينا، “إن الحكمة المشرقية هي قمة المعرفة الإنسانية”، والإشراق عند جماعة من الحكماء، وبعض الفلاسفة هو ظهور الأنوار العقلية، وفيضانها على النفس الكاملة عند التَّجرد عن المواد الجسمية، والمحسوسة، لكن الفرق بين الإشراقيين، وعموم الفلاسفة الباحثين لما وراء الطبيعة، هو أن الإشراقيين يؤمنون بالوحي، الذي جاء به الأنبياء والرسل، ولا يغفلون عن الجانب العقلي، والحدس في الوصول إلى ما وراء الطبيعة.

وفي محاولة الوصول إلى عمق النظرة الإشراقية عمد الفيلسوف الإسباني، والعالم العربي أَبو بَكر محمّد بن طُفَيْلِ اَلْقَيْسِي اَلْأَنْدَلُسِيِّ المعروف بِابْنِ طُفَيْل (1100م -1185م). والذي كانت له شهرة واسعة في الفلسفة، والأدب، والرياضيات، والفلك، والطب، عمد إلى تأليف قصة ذات منظور فكري، وفلسفي، وصوفي، يطرح من خلالها ترابط النفس الحيوانية بالنفس الإنسانية ضمن الفكرة الإشراقية، التي رسم معالمها ابن سينا سابقا، فتدور أحداث القصة في مدينة يحكمها ملك متفرّد السلطة، وكان أن وقعت أخت الملك في حبّ شخص اسمه يقظان، الذي يكرهه أخاها؛ فقررا الزواج سرًّا ثم تحمل منه، وخوفا على الطفل؛ قررت إلقاءه داخل تابوت في البحر، ثم تجرفه المياه نحو الشاطئ، فالتقطته ظبية كانت للتو فاقدة رضيعها، الذي أكلته الطيور الجارحة، وعلى صراخ طفل رضيع؛ هرعت الظبية إليه، وقامت بإرضاعه، وتربيته، كما لو أنه طفلها؛ فتعلم الطفل المفقود لغة الحيوانات، وطبائعها، وطريقة عيشها، وأكل طعامها، إلى أن ماتت الظبية؛ فظل الطفل بجوارها، يناديها، ويصرخ عليها، لكنها لم تجبه؛ فظل بجوارها حتى صدرت رائحتها الكريهة، واهتدى إلى دفنها، فتوالت الشهور على الطفل وحيدا حزينا لفراق أمه الظبية، يفكر بصمت بين الأجمة، ويبحث عن سبيل ليكمل به حياته بعد أمه، وفي يوم ريح عاصف اشتد فيه البرق، والرعد، والأمطار، فأضرم البرق ناراً في الهشيم اليابس فلاحظ النار، التي لم يعرفها فأحس بالدفء؛ أخذ منها قبسا، احتفظ به، ثم صنع طعامه؛ فاستلذ بطعم الشواء، وهكذا أخذ قبساً من النار أينما ذهب، حتى بلغ العشرين من عمره؛ فاكتسب خبرات وتعلم بناء كوخ، يقيه الحر والأمطار والبرد، وكانت الحيوانات المفترسة تأوي إليه، وتنام معه دون أذيته؛ فاستأنس بها، وفي رحلة بحثه في الغابة ينشر نظره في الفضاء الرحب متأملا، ومنشغلا بأصل الموجودات من حوله، لكنه لم يهتد إلى سبب مقنع له، ولما يدور في خلده، إلى أن التقى بمخلوق أدمي يشبهه في التكوين، فتبعه، فرآه يصلي ويعبد إلها، وأعجب بحسن ترتيل صوته، لكن الرجل خاف من حي، ظنه حيوانا مفترسا، حتى ألفه، واستأنس به، فعلّمه الرجل الكلام، وأصول الدين، والعبادة، ووحدانية الإله، الذي خلق الأكوان والإنسان، وأكثر ما أقنعه الرجل الغريب، أن كلامه يشبه ما كان يدور في خلد نفسه بوجود الخلق، وإيجاد الأشياء، وقدرة المعبود العظيمة، وهما في الغابة يعيشان؛ إذ ضلت ذات يوم سفينة طريقها، فوصلت إلي جزيرة حي بن يقظان، وحملتهما معها، إلى إحدى البلاد؛ فوجد حي بن يقظان الناس منشغلين بأمور الدنيا، ومتغافلين عن أمر الخالق، وطريقة الدين الصحيح، فحاول أن يهديهم، ويعلمهم أصول الدين، ومعرفة الخالق، لكن دون جدوى فلم يسمعوه، ولم يعيروا له عناية، واهتماما؛ فعاب عليهم ذلك واستهجنه؛ فقرر العودة إلى جزيرته برفقة معلمه الرجل، اللذين ظلا يعبدان الله، ويقيمان شعائرهما الدينية، ويتأملان في طبيعة الخلق والكون، إلا أن جاء أجلهما في تلك الجزيرة الغامضة.

في تقديم هذه الأطروحة بقصة بن يقظان، التي عنصرها العزلة، والفقد، والبحث العقلي؛ عمدت الفلسفة الإسلامية إلى نهج منهج أفلاطون المعمم بمنهج قيمة العقل لإدراك أسس الأشياء، والموجودات، وهذا الذي يوافق الدين والفلسفة بخلاف النظرة الفلسفية في أصل مادية الموجودات.

وبهذا الفهم يقدم ابن طفيل الأندلسي شخصيته الفلسفية حي بن يقظان، الذي يعيش في جزيرة مقفرة نائية، بعيدة عن أي إرث ديني، أو مذهبي، أو سياسي، معزولة عن أي اتصال إنساني، لكنه وعن طريق عقله، وتفرده في التأمل، أدرك أعلى درجات العلم العقلي، الذي قاده إلى المعرفة الحقيقة للوجود وحقيقة الله، ووحدانية الروح المتمثلة بالإدراك الإنساني، وتأكيد إمكانية إدراك النفس الإنسانية قيمتها ووعيها من خلال العزلة بالذات الضرورية لإدراك هذه الحقائق، بعيدا عن الاجتماع المدني، وتأكيدا للنظرة الفلسفية، التي تجسد حقيقة، إن الإنسان قادر على اكتساب الفضائل الإنسانية، والمعطيات الإلهية، دون أن يكون جزءا من المجتمع، والتعايش مع الآخرين

فكانت معركة ابن طفيل الوجودية، وتفاعلها مع المجتمع الحيواني، هي انتصار العقل، وتحقيق الذات بالعزلة على النمط الثقافي السائد في المجتمعات، وفضلا عن ذلك أراد ابن طفيل أن يبين القيمة في التوافق ودرء الهوة بين المعرفة العقلية، التي تنتهج الجانب العقلي، وبين المعارف الشرعية، التي تُستقى من الوحي بواسطة الأنبياء.

لكن ابن طفيل لم يكن السبَّاق في تأكيد هذه الفكرة، فقد نجدها عند ابن سينا، والسهروردي، كما نجدها عند ابن باجة، بعنوان “تدبير المتوحد”. لكن الفرق، الذي تميزت فيه قصة ابن طفيل عن غيرها تمثل في جذرية عزلة الشخصية عن المجتمع، وابتعادها التام عن أي تأثير مجتمعي، هو فضاء لا مدني، ولا سياسي، إننا هنا أمام حالة يبدو أنها سابقة حتى على “حالة الطبيعة”، التي وصفها فلاسفة العقد الاجتماعي، من هوبز حتى جان جاك روسو، ما يشير إلى أن ابن طفيل قد حرص تماماً على أن يبين للملأ، والمفكرين أن الإنسان بقدراته الطبيعية الذاتية يمكنه أن يكتسب الصفات المدنية، فيتحول من كائن طبيعي إلى كائن إنساني، دون الحاجة إلى دولة أو شريعة، أو قانون، أو تاريخ.

كان التساؤل المركزي الذي تطرحه قصة حي بن يقظان هو سؤال “من أنا”؟ إذ لا غاية له سوى البحث عن الذات بكل حرية، والبحث عن حقيقة الوجود، التي لا يمكن أن تكون قد خُلقت عبثية، أو مصادفة، هذا البحث والتقصي قادا ابن طفيل عبر قصة حي بن يقظان؛ أن يثبت حقيقة الوجود وتفسير عالم ما وراء الطبيعة، بأن يكون لهذا العالم والفضاء الشاسع خالق يديره، الذي هو الله الأزلي عن طريق التأمل، إذ أن كل شيء لا بدَّ له من صانع.