من أصالة البادية

عبد الرحمن محمد –

فرضت حياة البادية والصحراء طقوساً ونماذج للعلاقات الاجتماعيّة، والتواصل والتعامل اليوميّ بين أفراد الأسرة الواحدة والقبيلة والجوار، وكانت العادات والتقاليد البدوية والعربية واضحة وصارمة بعض الأحيان، وتارة أخرى محل نقاش واجتهاد ومداولة فكانت الأعراف وكان الحكماء العرب و»العارفة» وغير ذلك من الاجتهادات التي كانت تستند الى القيم والمثل الأصيلة في البت بالأمور التي قد لا يكون فيها حكم واضح.
وكلمة البدو اصطلاحاً عرفت بها المجموعات البشرية التي تسكن الصحاري، والأراضي قليلة الخصوبة الوعرة والقاسية والأراضي الصخريّة والصحارى السهبيّة كذلك التي يتواجد فيها الماء والكلأ، ويقيمون في تلك المناطق مادامت توفر الماء والعشب ويرحلون عنها ان أقفرت وأصابها الجدب، فحيثما وجد البدوي الماء والمرعى كان يقيم ويستقر.
هذا التنقل وعدم الاستقرار، والحياة القاسية في ظروف متغيرة وحالات من شبه الاستقرار والمعاناة من شح الماء والمرعى وضيق اليد والعداوات وأخذ الثأر، كانت تفرض دائما نوعاً من عدم الاستقرار للقبيلة والشخص، والمشاحنات والصدامات على الاستحواذ على بعض المناطق الغنية بالماء والعشب، وكان لابد دائما من قيادة تتمثل بشيخ القبيلة وبعض الأعوان من الوجهاء والعقلاء وأداة حزم تضمن ذلك بوجود فرسان أشداء، وقوانين شفاهية كالعرف والعادات القبلية والعربية، وعرف البدوي دوما بعادات باتت هوية وخصالاً متأصلة فيه كالكرم وإغاثة الملهوف، وإجارة المستجير.
في معترك الحياة اليومية أيضا كانت للمجتمع البدوي طقوسٌ سهَّلت وتلاءمت مع الحياة الخاصة بكل تفاصيلها، ومن ذلك بعض الجوانب والمقاربات التي ظهرت في المجتمع البدوي فقط ونذكر من تلك المفردات والجوانب الخاصة «القصير والطنيب».
الكثير من أبناء الحضر أو المدينة لا يعرف الفرق بين هاتين التسميتين وهي متداولة في المجتمع البدويّ ومعروفة في المجتمع العربيّ وكتعريف وتفصيل يمكننا القول:
الطنيب: هو من يقع في ضيم ويطالَب بمال أو ثأر، نتيجة انتهاكه لدم أو هدره لمال الغير ويصبح مطالبا بتأديته، فيترك عشيرته ويلجأ إلى عشيرة أخرى طالباً حمايتها له ولماله وعرضه، غالباً ما يكون له ذك، ولزيادة الطمأنينة في قلب الطنيب وضمان أن يكون في مأمن يقرب بيته قدر الامكان من بيت المستجير به حتى تتداخل حبال ربط البيتين فيما بينهما، والأطناب تعني الحبال التي تربط البيت، والطنيب يكون غريباً عن العشيرة ويكون في حماية العشيرة ممن يظلمه أو يطالبه بالثأر والمال و غير ذلك ما زال في حمايتها مقيماً فيها، ولا تشمله الحماية تلك إن غادر العشيرة وخرج من أرضها وحدود سيطرتها، وإن طاله ظلم أو قتل فإن لمن أجاره الحق في الدفاع عنه والمطالبة بما طاله من ضرر والأخذ بثأره ما دام في حمايته.
القصير:في بعض الحالات التي قد يحس فيها البدويّ بالوحشة أو بالرغبة في تغيير المكان الذي يقيم فيه لطلب الأنس والتواصل والمخالطة مع عشيرة أخرى فقد يطلب الاذن من عشيرة أخرى كي يحط رحاله في مرابعها، ولا يمكنه ذلك إلا إذا سمحت له بذلك، وقد يرتحل مع أفراد أسرته إلى عشيرة غير عشيرته طلباً للاستئناس من وحشة الصحراء أو المرعى أو طلب الرزق أو الحصول على الأمان أو غير ذلك بدون أن يكون مطلوباً من قبل الآخرين، وقال في ذلك الشاعر الخمشي العنزي: « قصيرنا ما حشمته عندنا يوم…يزيد مع زايد سنينه وقاره، إلى قزت عينه قزينا عن النوم…والشيخ ما يكتب عليه الخسارة، دونه نروي كل رمح ومسموم…نرخص عمار دون كسر اعتباره، عفو الظهر مضمون ألا عن القوم…بيوم يخلط اجمارنا مع جماره».
ويكون للقصير ما لأي فرد من أفراد القبيلة من المكانة والاحترام والتقدير والكرم والدفاع عنه وحمايتهن ويقع عليه ما يقع على ابن القبيلة من ناحية الدفاع والحماية ما زال في رعايتها وحمايتها.
هي بعض القوانين المجتمعية الشفهية التي تداولتها القبائل فيما بينها، لتغدو مع الأيام دستوراً وناظماً لحياة عُرفت دائماً بالنقاوة والأصالة ورسمت حدود العلاقات بين الأشخاص والقبائل ضمن طقوس وحيثيات قد تعجز عنها الكثير من القوانين المدنية الحديثة.