صفحات من التاريخ الإسلامي ـ4ـ فاتحا الأندلس

د. محمد فتحي عبدالعال (كاتب وباحث مصري)_

بعد هذه الانتصارات ارتحلت الدنيا عن البطلين، مدبرة من بعد إقبال وإشراق وتبسم، حيث تتضارب الروايات حول مصيرهما، والذي ارتبط بالتحول في بلاط الخلافة الأموية، من الوليد والذي كان على فراش الموت، وقت هذه الانتصارات، إلى أخيه سليمان، والذي آلت إليه السلطة بعد ذلك، حيث تزعم الروايات أن سليمان طلب منهما البطء في الحضور والمكوث بفلسطين، ريثما ينفذ أمر الله ويغدو هو الحاكم، وتصبح الغنائم الكبيرة من نصيبه، ويقترن الفتح العظيم بحكمه، وقيل في روايات أخرى؛ أن خلافا دب بين طارق وموسى في البداية، لتسرع الأول في التوغل داخل الأندلس، دون إذن الأخير، وقد كان المبتغى في البداية شن حرب محدودة، وقيل أن خلافا لاحقا شب بينهما، حول الغنائم المهولة وتبعا لبعض الروايات، أنها كانت كنوزا من الذهب واليواقيت، والجواهر والزبرجد، وأن موسى اتهم طارقاً بسرقة قدم مائدة سليمان الذهبية، والمرصعة بالأحجار الكريمة، وإخفائها، على الرغم من أن طارقاً، هو الذي عثر عليها في مدينة سالم، ولو صحت الرواية لكان الأولى أن يخفيها بالكلية، لكن يعلل البعض أن إخفاءها من جانب طارق كان للتدليل أمام الخليفة على أنه هو صاحب هذا  الكشف وليس موسى! فيما تزعم روايات أخرى أن سليمان بن عبد الملك اتهمهما بالسرقة، وأن ماضي موسى بن نصير والأصول الأعجمية لطارق بن زياد، جعلت الطرفين متهماً وخاسراً في آن واحد، أمام الخليفة فموسى شيخ كبير لا يطمح من ورائه بشيء، وهذه بالضرورة آخر معاركه، كما أن الأمويين كانوا يوالون الجنس العربي على الأعجمي، لذا فلا ضرورة لطارق أيضا، ولا جدوى من الانتصار لكفته، فأصبح الرجلان يعانيان الفقر والفاقة في أواخر حياتهما، بعد سعة ويسر، بحسب أغلب المصادر، لكن ثمة مصادر أخرى رسمت مصيرا أفضل لموسى بن نصير، فتدعي أن الخليفة رضي عنه وحج معه، وحقق رغبته في الموت بأرض الحجاز، وأنه مات بموسم الحج، فيما اختار طارق حياة الزهد بجوار جاريته، وقيل زوجته أم حكيم في دمشق، وهي أول امرأة مسلمة عبرت إلى الأندلس، ورافقته فتوحاته وأسفاره.

المصير الغامض للرجلين، والتضارب الشديد الذي شابههما؛ دفع بعض الكتاب المعاصرين لإنكار حقيقة وجودهما التاريخي من الأساس، ومثل هذه الأشكال من الإنكار لحقائق دامغة هي آفة استشرت في وقتنا الحالي، لاتهام كل ما هو إسلامي، وإغفاله بالكلية كأن لم يكن، وتشكيك المسلمين في ثوابتهم التاريخية، خاصة المتعلقة بالملهمين من الأبطال والمجاهدين الأبرار طمعا في رضا الغرب والانبطاح لرؤيته.

هذه النوعية من المنكرين إذا دخلت في جدالهم العقيم، فهب معهم؛ أن قائدي الغزو الإسلامي من قَبيل اختراع مؤرخي العرب؛ إذاً أعطني أنت تصورا بديلا لحقيقة ما حدث عند نهر وادي لكة، أو بالإسبانية جواديليتي أو معركة سهل البرباط أو معركة شذونة، أو معركة دي لا جونا دي لا خاندا بالإسبانية، أو أي تسمية تريد، فقد أجمعت كل المصادر على ذكر الواقعة فهل حدثت دون قائد أو مصادفة مثلا؟! هنا ينعقد لسان المنكرين ويبهت الذي كفر.

نعود للبطلين وأيا كان مصيرهما، سواء حق ما نقلناه حول التنكر لصنيعهما، أو أنهما نالا التكريم المناسب لدورهما التاريخي البارز فقد أعد الله لهما في الآخرة ما هو أعظم، وهو الجزاء الأوفى  بالدرجات العلى من الجنة -ونحسبهم عند الله من الصديقين الشهداء – فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :  (مثلُ المجاهِدِ في سبيلِ اللهِ – واللهُ أعلمُ بِمَنْ يجاهِدُ في سبيلِهِ – كمثلِ الصائمِ القائمِ الدائمِ، الذي لا يفْتُرُ منْ صيامٍ ولا صدَقَةٍ، حتى يَرْجِعَ، وتوكَّلَ اللهُ تعالى للمجاهِدِ في سبيلِهِ إِنْ توفَّاهُ أنْ يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، أوْ يُرْجِعَهُ سالِمًا مع أجرٍ أوْ غنيمَةٍ)..

ومن أقوال موسى بن نصير، والتي تكشف عن تواضعه وكرمه واعترافه بأنه بشر يخطئ ويصيب، فضلا عن أهمية وحدة الصف واجتماع الكلمة قوله عند دخوله القيروان: “أنا رجل كأحدكم، مَن رأى مني حسنة فليحمد الله، وليحضّ على مثلها، ومَن رأى مني سيئة فلينكرها، فإني أُخطئ كما تُخطئون، وأُصيب كما تُصيبون، وقد أمر الأمير -أكرمه الله-لكم بعطاياكم، وتضعيفها ثلاثا، فخذوها هنيئا مريئا، ومَن كانت له حاجة فليرفعها إلينا، وله عندنا قضاؤها على ما عزّ وهان، ومع المواساة إن شاء الله”، وقوله أيضا “لو أطاعني الناس لفتحت روما”.

فيما ينسب التاريخ لطارق هذه المقولة، وقيل: إنه أصدر أوامره بإحراق السفن الإسلامية: “أيها الناس، أين المفر؟ البحر من ورائكم، والعدو أمامكم، وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم، وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم، ولم تنجزوا لكم أمرًا ذهبت ريحكم، وتعوَّضت القلوب من رعبها منكم الجراءة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة، من أمركم بمناجزة هذا الطاغية (يقصد لذريق) فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن، إن سمحتم لأنفسكم بالموت”. وسأتوقف هنا عند هذه الخطبة لا لإنكارها كما يحلو للبعض، لعدم ورودها في الكتب القديمة المزامنة للفتح أو لأصول طارق البربرية، والتي تمنعه من التمتع بهذه القدرات الخطابية البلاغية العالية في الإلقاء بلغة حديثة عليه، وهي العربية، وهو أمر لا أراه حجة منطقية في إنكار نسبة هذه الكلمات إليه، ذلك أن الإسلام انتشر بين صفوف البربر منذ عهد أسبق بكثير من ميلاد طارق، وبالتالي انتشار العربية بين صفوفهم، وتلقي بعض الفصاحة عن فحول الشعراء والأدباء العرب بحكم الجوار والدين والتزاوج والتلاحم الثقافي، أمر بديهي،  أما ما أود إنكاره وبقوة فهو مناسبة هذه الكلمات حيث تدعي الروايات أنها جاءت بعد أن أمر طارق بحرق سفن الأسطول الإسلامي؛ ليقطع الطريق أمام المجاهدين، ويضعهم بين خيارين لا ثالث لهما، إما النصر وإما الشهادة، وهي نظرية غير منطقية لا تخطر ببال عاقل، فكيف يقدم قائد حتى ولو كان لا يملك سوى الحد الأدنى من الخبرة العسكرية على مثل هذا القرار المتهور منفردا، ويضع نفسه وقواته لقمة سائغة لعدوه والحرب على مدار التاريخ بين كر وفر، كما إنه إتلاف عمدي لممتلكات الدولة، لا يجوز ولم يكن ليقره عليه أحد من مرافقيه، بل كان سيستوجب عزله ومحاسبته في التو، لذلك أرى أن هذه القصة لا ينبغي أن تتضمنها كتب التاريخ فمضارها أكثر من نفعها، إن وجد لها نفع.