حروف الرمل…أوجاع نامت على وجهِ الماء

آراس بيراني_

القسم الأخير: على تخوم البلاد الجميلة لعابهم يسيل، رغبة القتل ترتدي سيوفهم، سحنتهم القاتمة مثل أسراب الجراد حملوها من جهات الأرض، كالغربان اليائسة، تاريخ موحل من الغزوات والدم كان مصيره السقوط تحت سنابك خيول ما عرفت الخنوع، ويصرُّ الشاعر في قصائده على توليد مواقف درامية ولهذا فإننا نجده ينسج نصه ويشبك خيوط الماضي بخيط الحاضر ليمنح النص فرصة جديدة مختصراً كل الأزمنة، مما يعني أن هذا المخاض الآني قد سبقته اجتراحات دامية مصحوبة بالعذابات، والقهر، والنزوح والاغتيال، ويستمر في سرد تفاصيل السواد في حربه ضد النقاء، يرسم صورة التوحش في بشر يشربون دماء ظباء كانت تراقص خيوط الشمس، بشر يقطفون الورد، ويغتالون القصائد والأغنيات، ومن هنا يمنح الشاعر شخصية “هفرين” رمزية المرأة الكردية المسالمة النقية، الأنيقة أناقة الماء والزهر إزاء وحشية الغزاة الذين لا يتقنون إلا القتل محمولة بشهوات الجسد وخرافة النعيم الأزلي في فراديس الله.

للنص انثيالاته، وتحولاته ومكاشفاته، مرماه، للنص جسده، وروحه وعيناه وأجنحته، وموسيقاه، هناك في قعر النص صخب ما أو هدوء يشبه الموت غايته التعبير.

من بساطة تلك التعابير اليومية نستشف تعقيد الواقع، من جملة شعرية ما، نرفع عقيرتنا، نردد مع الشاعر موالاً رعوياً خارجاً من الزمن، حاملاً صخب المعارك، وعويل الثكالى، وصهيل الخيل.

ففي ذاك المكان الشاسع الذاهل حيث ايائل تخوض جغرافيته، وقصص قديمة عن العشق تزركش تاريخه.. وخناجر وبواريد تعلن صخبها في هشيم بيادر القرويين تمنح العين حاستها فيعبره في الزملكان، في متوازية الآخر، حيث الاختلاف حضارة وقانون أزلي، والتنوع في الاختلاف سمة صانعة للجمال، وتبقى الشمس حقيقة والرمل خداع آثار الأقدام، تحدي النسيان والريح ذاكرة من رمل تتحرك في المكان، ضد القنوط، وتمحي الأثر..

لغة الشعر لغة هدم، وبناء، والشاعر له لغته وتصاويره، بعباراته، وحكمته وتناصاته، وتكراراته، ومحمولاته، يصارع الماضي نحو جمهرة من المتلقين، يوازن بين ثقافة الكلام واللغة، وينفخ في صور الرمل، يجعله طاغوتاً ربما، أو ربيعاً على هذي الأرض فالأرض عليها ما يستحق الحياة حسب تعبير درويش.

وهل ثمة شيء سوى السلام والعشق، هذه الكلمات المجبولة بنسغ لغة الشاعر، التي يمنحها الشاعر تفاصيل صغيرة يفكك بنية المكان، يتخلص من الكلي إلى المجزأ الأحادي، يختصر الكل في أنثى واحدة لها قدسيتها، يسمعها بكل صخبها بحراً هادراً لا يهدأ، اللغة دلو ماء يسكبه الشاعر على حياة جافة، لا يأبه بطولها أو قصرها فالخلود لحظة تستمر، ومن هنا يعلن النص عن فرادته، وتميّزه ورنة جرسه الموسيقي، ويمنح لقمان عبدالرحمن نصه الشعري كل ثراء التاريخ، ذاك التاريخ المتشرّب بالدماء، تاريخاً يلوكه الغبار.

“حروف من رمل” كتاب يضم بين دفتيه بحوراَ من الخيبة، وأمكنة بهيّة، وشخوصاً يعبرون تخوم قرى منهوبة، وبشراً تائهين في حقول القصب، يرتلون أناشيد صوفية عن شاعر منح قلبه للتراب وجبة أزلية لعشق مازال ممجداً في فضاءات مزركشة بحبات رمل اتقدت ناراً، وكانت نجوماً وشمساً تراقب دواخلنا في السر والعلن.