عبد الله رحيل_
نقطةٌ في الهواء عالقةٌ، تهفو لها النّفس، وتسرح في مدارات الكون، وعيونُ الفضاء لها مدى، هجرت سحابة غيث تجمّع فيها النّدى والطَّل، تقف حائرة في شرفة الفراغ! أيَّ الجهات تقصد، لأنّها صَيبٌ يصيب بلادًا هي النّجاة لها، غازلتْها رياحُ السَّماء، فحنّت لها، وهامت في كلامها، ففي مقاصد حرفها سحرُ بيانٍ، تجلَّى عشقها الأزليّ، بوميض نجم سرى إليها مُغرمًا، ثم أخذتها الرّيح بين الأفلاك، عابرةً نهاياتِ الزَّمن، وسائحةً بها في بطون السحب وثوران الضباب، أعطتها صفاتِ الخلق والنّماء، وازَّينّت في بهرج التغيير واللّطف، فتداخلت فيها عناصر الإنبات والخصب، وقد تلاقت في مسراها، الإنسانية والطّبيعة، فانضمت إلى كِسَفٍ في رحلة كينونتها؛ مؤلِّفةً سحابًا عظيمًا متراكمًا، تخلطه الرّيح العاصفة؛ فهَطْلٌ من غيوم ذوارفَ، تُسرع فيه الخُطا حثيثةً إلى الأرض البَوار؛ كي تمتزجَ في أديمها، مشكّلةً وسائل لقاح الأرض الخصبة؛ فتغدو أمشاجا منوَّعة من النّبت والزّرع، والشّجر، ثم تصيب الأرض المتهمّشة اليابسة الجدباء، فتهتزّ بها وتربت، فكأنّها امرأة في حمل بهيج، وقد تجمّل المدى مخضرًّا بغيثٍ مُغيثٍ عليلٍ، تهفو له القلوب، وتهدأ له النفوس.
فتساقى القوم ماءً نقيًّا صافيًا عذبًا، وانتشى بحرٌ على وقعِ طلٍّ غزيرٍ جمٍّ، وعلى المنحنيات تتلاطم جداول الشُّكر منحدرةً إلى حيث ملقاها، مع تغريدة ريح احتفت بها بقاع الأودية، فوابل متسارع القطرات، ترتطم مراكز ذراته بأنفس البشر، التي انتظرت مقدمه كلّ شتاء، مستحمّةً في طهر لقائه بالأرض، وبالجبال البعيدة، هطول مُزن تساقط في أحضان الغروب، وأسوار الفضاء تحفّه من كلّ جانب بأذرعها الممتدة في الفراغ الطّلق، وفي مخدعها الدافئ تعزف الوُرْقُ موسيقا الحياة والنّماء والولادة من جديد.
من أجل ذلك صيّرت القطرة تغييرا في ثورة المطر بتزاحم مدارك النّفس والنّبت، وفق تقدير العزيز الحكيم، إلى تغيير وجه الطبيعة، بعيني المخلوقات، التي تناثرت في أوجهها، وفي أحداق عينيها، محبّةُ الأرض للسّماء، مدوِّنة عشق المطر في أخاديد الزّهور، وفي تموّجات أوراق الشّجر، تنتشر ألسنة ضوء الشّمس، التي بزغت خجولةً من بين سحاب، قد فرّق بعضَه برقٌ عتيدٌ، لاح بين أروقة الغيوم؛ فانتشر دنانيرَ ذهبيةً في الأرض الخضراء،
في سفر ملحمة الماء والخصب بديعة الجمال.
وهكذا في تلاقي الله والقطرة في الفضاء الواسع، الذي أصبح مهدًا لقطرات تتّحد في تأليف السّحاب: (اللّهُ الّذِي يُرْسِلُ الرّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السّماءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ)، منشئةً بذلك قانون الطبيعة في النّماء والخلق والإنبات، ومظهرةً التميُّيز في سيرورة ارتشاف الثّرى للذّة القطرات في العطش الطّويل، الذي سئمته الجبال والواحات، فتعالَى الحكيم المدبّر، والقادر المقدّر، الذي تصرّف بكلّ شيء، وجعل لكلّ شيء سبباً وقانوناً، في هجرة القطرة في يوم مشمس حارّ بَخِرٍ، إلى أعالي النقاء والقداسة، حتّى تستحمّ بطهر السّماء، مُنَقَّاةً من نقائض البشر العتيدة والعديدة، فتدور في طبقات الأفلاك تبحث عن منفذ صوفي لترديد العشق الإلهي، ثم تَرِدُ الأرضَ مزروعةً وممزوجةً برعود وبروق مرة أخرى، في عودة التلاقي بين الماء والتراب من رحلتها السّماوية الدّائرية الدّائمة، التي تشكِّل شخوصاً نفسية، وروحية، وصوفية لإيلافِ الوحدة، والاكتمال في رحم الأرض، وقد حَملت بأجنّة النّبت والإخصاب، ثم كُوِّرتْ؛ حتّى غدتْ مركزَ الإقامةِ والإعمارِ والحياةِ.
وقد أخذت القطرة النّائمة في مهد المجهول أسماء، وهويات منوّعة في حكم الأساطير والميثولوجيات القديمة، وهي التي سَفِرَتْ ولم تتبرقع، ولم تخفِ عينيها، لأنّها المجهولة عن كلّ مقلة عارفٍ، فعند الفينيقيين هي «بعل»، وهو إله المطر، وفي روما القديمة «جوبيتر»، إلّه المطر، وقد سمّاها الإغريق «أبولّلو»، وفي مصر القديمة «تفنوت» عند الفراعنة، وفي القرآن الكريم، تكون «مطراً، وغيثًا، ووابلاً، وصيباً،”، وعند النِّسوة بشائرُ خير عميم، تنشئه نساءٌ أغنياتٍ في حناجرها، التي صدحت باستقبال الخير بالأرض، وفي علاقة مرتبطة للفلّاحين والزرّاع المتعلّقة في بروج السّماء، هي علاقة حساب المطر بالبيدر، لكنّ قطرة المطر المهداة من السّماء، تعاقب وحشيةَ القوم أحياناً، فثور وتدمِّر الشّر في منتقياتهم، مخلِّقة الفيضاناتِ، والزَّوابع إلى تقليم أظفار الشّر، الذي تجاوز محاوره، فتكون ثورة خلّاقة، لتوازن تربية الطّبيعة وفق المحدود من التّصرّف والقانون.
وفي لقاء القطرة بالمخلوق الآدمي؛ تجلو جسده بطهارة الإيمان، فأول ما يولد المولود تطهِّره، في طقوس الأديان المختلفة، ففي القرآن الكريم: “وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حيٍّ”، والماء المقدس في المسيحيِّة، هو ماء التعميد، فقد قام يوحنا المعمدان بتعميد المسيح في نهر الأردن، وعند الثَّقافة اليونانيَّة التّقليدية، أوّل عمل عند استقبال الضيوف والأشراف، هو تقديم كأس ماء نقيّ، ورائحة لقاء المطر بالتّراب، هي «تريكور» عند الإغريقين القدامى، ومثلما التقت قطرة المطر النبيلة بجسم الإنسان، الذي طهّرته وعمدته، تلتقي في وقت منيته، ورحلته إلى العالم السّماويّ الآخر؛ لأنّها تطهّر موته من آثام عمله في الدّنيا؛ لتكون طهرا وآخر ما يلامس جسده المسجّى في لحده، ثمّ تُرَشُّ بما يشبه الحفل الجماعي على تراب قبره في وداعه الأخير.
وقد لملم الشاعر الإسباني «ميجول دي أونامونو” ألفاظه ومعانيه في نصٍّ، يُعذَب بذكر المطر: “أتبلّل بالماء”:
“لَماءُ الله، الذي تخفيه الرِّمال… لَماءُ الله، الذي يهجع في الصّحراء…للماء يجري منعشاً وصافياً… تحت تلك التّربة…للماء الخفيّ، الذي يحفظه الرّمل الملتهب… في حبٍّ داخل حجر عقيم…للماء الذي يحيا بعيداً عن النّور… ولكنّه مشبّع بالسّماء… وعندما يحيي الشّرابُ، وهو نبع الحياة…قلبي وحسّي من جديد…أرفع جبهتي لله، ومن عينيّ…تسقط في بطء…دمعتان على الرّمال”.
وقد لاحت قطرة الماء عند شاعر الهايكو الياباني، يوسون وجودا فلسفيا في تغيير رائحة الأرض، مع اندماج القَطْر فيها:
“شهرٌ مطيرٌ، لا تكفّ الأمطار… عن السّقوط والانهمار…بينما أرقد في الفراش… آهٍ، عجوزٌ هرمٌ يجترُّ الذّكريات.”