الساتياغراها وبراديغما العصرانية الديمقراطية

ليلى خالد

إدارة مشتركة لمنتدى حلب الثقافي، كاتبة وقاصة

السلام هو حلم البشرية منذ الوجود ويُسعى إليه بالفطرة بالرغم من اختلاف الأعراق والأجناس، وهي حقيقة الحياة لأنها خُلقت معه كما خُلِقت له صفات وخصائص فطرية أخرى. يبدأ السلام من الذات والأسرة فالمجتمع والعالم، ويعتبر أولى غايات الشعوب والمجتمعات.

تُعتبر ميزوبوتاميا والشرق الأوسط مهد الحضارات والثورات من ثورة اللغة والكتابة والزراعة وبالتالي ساهمت في تطور العقل البشري حيث شهدت هذه المنطقة أقدم الثقافات وظهرت فيها إمبراطوريات عدة منها: البابليون والسومريون والإخمينون والآشوريون والميديون والميتانيون وغيرهم، وفي القرن السادس عشر تحول الشرق الأوسط إلى ساحة صراعات حيث كان الصراع العثماني والصفوي والقاجاريون حيث دام لقرون وفي عام (١٥١٤ تمخضت عنها ثمانية عشر اتفاقية فيما بينهم ومازال الصراع مستمراً بهيئة الدولة القومية الجديدة بهدف السيطرة على مُقدّرات وخيرات شعوب المنطقة والتوسع بهيئة قومية -دينية-مذهبية).

استغل البريطانيون والفرنسيون والإيطاليون هذا الصراع في المنطقة وغدا ساحة لحروبهم الدينية والتوسعية وباتت المنطقة ككعكة تُقسّم بحسب المصالح والاتفاقيات (لوزان الأولى ولوزان الثانية-سان ريمو-سيفر-القاهرة) ولا زالت الأطماع الغربية وشراهتهم لنهب خيرات الشرق مستمرة ليومنا هذا (اعتماداً على سياستها القديمة- الجديدة “فرق-تسد”). وما نشهده من صراعات وحروب أكبر دليل على ذلك بعد تقسيمهم للمنطقة إلى دويلات وأقطار، رغم أنها تكون غالباً تحت مسميات السلام وحقوق الإنسان والشعوب وبنوايا خفية.

السؤال المطروح هو: كيف للحروب أن تجلب الأمان والسلام؟ ولو فرضنا بأن السلاح حُمِلَ بهدف الدفاع، فهذا يؤكد بأن السلاح رُفِع بوجه الآخر حتى اضطر الأخير على حمله والدفاع عن نفسه ووطنه وأرى ذلك حقاً مشروعاً كأداة للدفاع.

قوى الهيمنة العالمية واستغلالها لمفاهيم السلام

 الدول الغربية والمهيمنة تخلق الذرائع في الشرق الأوسط لتصنع لنفسها موطئ قدم بإشعال فتيل اضطرابات وتمردات بهيئة ثورات كالتي شهدناها فيما سُميت «بثورات الربيع العربي» ولم يكن سوى بركاناً وطوفاناً جرف معه خيرات وحضارة الشرق وهجّروا سكانها الأصليين إلى بلدان مختلفة حول العالم وتم استثمار طاقاتهم وقدراتهم الشابة في أوروبا (القارة العجوز).

 كل ما يدور من صراعات يكون على حساب شعوب المنطقة، والخزي والعار في هذه الحروب والاتفاقيات والمعاهدات أنها تقوم تحت عناوين توحي وكأنها تسعى لإرساء وتحقيق السلام وأقرب مثال لنا؛ الحملات العسكرية التي قام بها الجيش التركي الطوراني في سوريا بشعارات رنانة، وأسماء هذه الحملات كلها توصلنا لمعاني وقيم السلام نذكر منها:

1ـ درع الفرات: تم من خلالها احتلال جرابلس بتاريخ ٢٤ /٨/ ٢٠١٦ والباب في شباط 2017.

٢_غصن الزيتون: تم من خلالها احتلال عفرين بتاريخ ١٨/٣/٢٠١٨.

٣_نبع السلام: تم من خلالها الهجوم واحتلال كري سبي/ تل أبيض، وسري كانيه/ رأس العين بتاريخ ١٠/١٠/٢٠١٩.

وهذا يعتبر تحريفاً كلياً لمعنى السلام الحقيقي وتشويه جوهر هذه الكلمات وقدسيتها وبث الفوضى الخلاقة والممنهجة في الشرق الأوسط.

نحن بحاجة لثقافة السلام والتي تتشكل وتتكون عبر الحوار والنضال والعمل على تأسيس منظمات وأحزاب تعمل وفق آليات وأدوات تعطي للسلام معناه وأيضاً إنشاء وتأسيس جمعيات تنشر ثقافة السلام وقبول الآخر، أي أن السلام لا يكون في التخلي عن إحدى أدوات الدفاع عن النفس والوطن (السلاح) فقط، بل يحتاج إلى بناء مجتمع سياسي أخلاقي أيكولوجي ديمقراطي يضمن العدالة والمساواة لجميع الشعوب بعيداً عن الصراعات العنصرية وسياسات الإقصاء والتهميش، فهذه السياسات تبث سمومها في جسد المجتمعات.

إن الفوضى والصراعات الممنهجة من قبل قوى الهيمنة الرأسمالية ستستمر في الشرق الأوسط إن لم نجتمع على أفكار ورؤى مشتركة تنادي بالعمل والسير معاً نحو تحقيق السلام الذي لن يكون إلا بوحدة الشعوب في مواجهة ثقافة العنف والإقصاء الدولتية، أي نحن بحاجة إلى حالة ذهنية مجتمعية ترسّخ قيم السلام الاجتماعي.

بوابات السلام: الساتياغراها؛ تجربة الهند مع الاستعمار البريطاني

 بعد استقلال الهند عام ١٩٤٧ وكردِّ فعل على الاضطرابات الحاصلة في الهند دخل غاندي في إضراب عن الطعام لوقف حالات الاحتجاجات والقمع آنذاك وهو صاحب مفهوم الساتياغراها (اللاعنف)، والساتياغراها: هي مجموعة من المبادئ تقوم على أسس دينية وثقافية واقتصادية.

ويعتبر اللاعنف هو أعظم قوة تحت تصرف البشرية فالحرب الحقيقية ضد الحرب هو: “تعليم أطفالنا مبادئ السلام”، وتستند فكرة السلام عند غاندي على:

١-تشجيع العصيان المدني على نطاق جماهيري.

٢-الوسائل العادلة تفضي إلى غايات عادلة.

أن تكون الوسائل عنيفة للوصول إلى السلام فيها تناقض واضح، ويجب أن تكون وسائل النضال سلميّة وألّا يستخدموا خطابات الكراهية، وهناك مقولة شهيرة لغاندي تُلخص تجربته النضالية مع الإنكليز: “سيتجاهلونك ثم يحاربونك ثم يحاولون قتلك ثم يفاوضونك ثم يتراجعون وفي النهاية ستنتصر كالأبطال”، ويشير إلى الإنكليز مرةً أخرى بجملته التي تحمل معاني سامية: “يمكنك أن تقيدني وحتى يمكنك أن تقوم بتدمير هذا الجسد ولكنك لن تنجح في احتجاز ذهني وهويتي وثقافتي”.

 موقفه هذا ساهم وأدى لانسحاب بريطانيا من الهند، حتى وضع له تمثالاً بجانب تشرشل بالرغم من أنه كان يكره غاندي كثيراً وكان ذلك من نتاج المقاومة السلمية، وكُرّم لاحقاً باعتبار يوم ميلاد غاندي عيداً وطنياً في الهند واليوم الدولي لـ(اللاعنف).

براديغما أوجلان وتجارب السلام مع الحكومات التركيّة المتعاقبة

 يعتبر القائد أوجلان مهندس براديغما الأمة الديمقراطية. هذا المشروع الأممي الكبير الذي يضمن لكل الشعوب حقوقها الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وفق مبادئ المساواة والحرية والديمقراطية بعيدة عن العنصرية والتهميش والإقصاء، لذا تم استهدافه بمؤامرة دولية كبرى شاركت فيها عدة دول تحت إشراف “منظمة غلاديو” التابعة لحلف الناتو وتم اختطافه من نيروبي بكينيا بتاريخ ١٥/٢/١٩٩٩ وتم اصطحابه معصوب العينين إلى تركيا في ١٦/٢ بتمام الساعة الرابعة فجراً ليُسجن في وسط جزيرة إيمرالي (مكان يُعدم فيه كبار الشخصيات) وقُطعت عنه كل سُبل التواصل وتم منع دخول المحامين واللقاء به وازدادت العزلة عليه مع بداية الحراك الشعبي في الشرق الأوسط (الربيع العربي).

إن أفكار وفلسفة أوجلان مناقضة تماماً لما تسعى إليه الدول المهيمنة، حيث أن أهداف قوى الهيمنة الدولية والحداثة الرأسمالية تتحقق بخلق الأزمات وتفرقة الشعوب والمشروع الذي طرحه القائد أوجلان (الأمة الديمقراطية) هو مفتاح الحلول لهذه الأزمات وترتكز على وحدة الشعوب وتعتبر خارطة الطريق لشعوب منطقة الشرق الأوسط.

ويتمثّل ذلك في نموذج الإدارة الذاتية الديمقراطية الذي يعتبر الحل الأمثل للأزمات التي خلقها الاستعمار بشكليها القديم والحديث في مجتمعاتنا ويعمل مشروع الإدارة الذاتية الديمقراطية على لملمة شتات المجتمع المبعثر بفكره وأهدافه وتوجهاته وتطرح نفسها كالنموذج الأنجع منذ اندلاع شرارة الشعوب والتي حوّلتها القوى الهيمنة الإقليمية الدولية (وأتيت على ذكرها آنفاً) لأزمة عارمة جرفت معها كل القيم والمبادئ والمُثل العليا للمجتمع. ثورة الشعوب الآن تتمثل في ثورة روج آفا وتجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية في شمال وشرق سوريا والتي أُعلنت في عام ٢٠١٨ وتعتبر نموذجاً حياًّ ويتوجب دعمها وحتى تعميمها على كل الجغرافية السوريّة والمنطقة لأنها تمثل مطالب وآمال الشعوب.

استمرار العمل والنضال من أجل السلام

 كما ذكرنا إن أي عملية سلام حقيقية لا تتم بإلقاء السلاح أو بإنهاء صراع مسلح أو عنف مباشر إنما بإزالة الأسباب التي أدت لحمل وممارسة العنف المضاد ولن تكون دون توفر الرغبة والاستعداد من الأطراف المتنازعة للتفاوض بجدية حول القضايا المتنازع عليها وعدم اللجوء إلى القوة المسلحة لتحقيق أهداف المتنازعين مع التزام المتفاوضين بالقرارات المتخذة وفق المبادئ  والمرجعيات الدولية لأجل إرساء السلام، وهذا يتطلب مشروعاً جاداً وبتوافق الطرفين في السعي لإنهاء الصراعات المستمرة وضمان حلول جذرية وتأطيره ضمن عملية مؤسساتية ديمقراطية.

ومن هذه الحيثيات بادر القائد أوجلان بإطلاق تسع مبادرات لعمليات السلام والتي بدأت منذ ١٩٩٣ – ٢٠١٥(اتفاقية دولما باهجة) للحد من إراقة الدماء والوصول لحلول سياسية اجتماعية واقتصادية ولكن ما نشهده اليوم في عدم الإصغاء لهذه النداءات السلميّة من قبل الحكومة التركيّة ومواجهتها بممارسات لا إنسانية ولا أخلاقية داخلياً وخارجياً من خلال اعتقال نشطاء سياسيين ودبلوماسيين؛ كرد واحتلال مناطق (عفرين _سري كانيه _كري سبي) في سوريا بعد أن دمروا المناطق الأثرية ونهبوا آثارها وحطموا البيئة الطبيعية لعفرين من خلال قطع أشجار الزيتون التي ترمز إلى أسمى معاني السلام.

بعد مساهمتي هذه في القراءة لمعنى ومفهوم السلام وتجارب الشعوب توصلت إلى المعادلة التالية: “لم ولن يتحقق السلام من طرف واحد فالسلام يحتاج إلى النيّة والرغبة وجدّية الحوار وعدم إقصاء أي طرف”.