جل آغا / مثنى المحمود ـ
المنقلة لعبة شعبية تراثية، مازالت تحتفظ بمكانتها في شمال وشرق سوريا، حيث لا يكاد يخلو منزل من هذه اللعبة، التي تشبه الشطرنج إلى حد ما.
تعد لعبة المنقلة من أبرز الألعاب الشعبية، التي لا تزال تحجز لنفسها مكانة في معظم جلسات السمر الريفية، وفي المدن أيضا، كما يواظب على لعبها الكبار والصغار بشغف كبير، فهي لعبة بسيطة لا تحتاج إلى مقومات كبيرة، إنما فقط لبعض الدهاء في توزيع الحجارة.
خشب وحجارة
هذه اللعبة تصنع من ألواح خشبية، وبها تجويفات صغيرة يُستخدم فيها الحصى، وتعتمد على حسابات رياضية دقيقة يترتب عليها تحركات اللاعب، ومن ثم حساب الربح والخسارة، أمام منافسه الآخر، ففي المقاهي والساحات المفتوحة للمنازل والريفية أحيانا حتى على أرصفة الطرقات داخل الحارات الشعبية، في بلدة جل آغا تحتدم المنافسات بين اللاعبين، لاسيما من كبار السن، للفوز باللعبة التي تحظى برواج وحضور شعبي مميز.
يحدثنا المواطن عبد المحمود من أمام منزله في حي الشهيد جودي عن أجواء وطقوس اللعبة: “يتجمع رجال الحي يوميا أمام منزلي، بحثا عن متعة ممارسة هذه اللعبة، التي رافقت معظم أبناء جيلي منذ صغرنا”، يضيف الرجل السبعيني، الذي يتقن اللعبة منذ أكثر من ستين عاما، عن بعض أساسيات اللعبة: “قواعد اللعبة تبدأ بتوزيع سبعة أحجار في كل تجويف باللوح، وعددها الإجمالي أربعة عشر تجويفا، بينما يبلغ عدد الحجارة ثمانية وتسعين حجرا صغيرا، كما أن للمنقلة حفرة على اليمين، وأخرى على اليسار، بعد توزيع الحجارة بالتساوي في كل تجويف يبدأ اللعب من اليسار إلى اليمين، فيما يتنافس في هذه اللعبة لاعبان، ويكون الفائز من يجمع أكبر عدد من الحجارة”.
من جانبه، يقول راكان العلي، اللاعب الآخر، لصحيفتنا “روناهي”: “المنقلة اليوم تتكون من لوح من الخشب طوله متر واحد، وهي لعبة ثنائية، تبدأ بصناعة سبع حفر صغيرة بالأرض، أو بعمل تجاويف في لوح خشبي بشطرين متقابلين، توضع في كل حفرة مجموعة من الحصى الصغيرة، ويحاول كل لاعب أن يحصل على حصى خصمه، وعدم تمكينه من كسب حجارته، وهذا الأمر يحتاج إلى عملية حسابية ذهنية تلعب الخبرة، والفطنة والتركيز دورا كبيرا فيها”.
استمرارية اللعبة في ذاكرة الشعوب
ووصف العم علي الرجب لعبة المنقلة، أنها تعكس الجانب الإيجابي للحياة الاجتماعية المشتركة، إذ تتميز بأجواء الود، التي تبقى مسيطرة على اللاعبين، بخلاف بعض الألعاب الأخرى، حيث يرى أن جل الرياضات، والألعاب التي يمارسها الأطفال والشباب في الوقت الحالي، تجلب العنف وتحرض عليه، كما أن شدة المنافسة أحيانا تنعكس سلبا على شباب هذا الجيل، وتولد لديهم الضغينة على بعضهم، وأشار إلى أنها لعبة لا ينساها كبار السن، ويعدّونها وسيلة للتسلية، لاسيما أنها صنعت مما وفرته الطبيعة من مواد كالحجارة، والأخشاب، كما تعدّ جزءا لا يتجزأ من التقاليد الموروثة في شمال وشرق سوريا بشكل خاص، وسوريا بشكل عام كما أنها تحتفظ بمكانة خاصة لديهم، إذ أن هذه اللعبة لا تزال تحافظ على مكانتها داخل المجتمع نظرا الى سهولة لعبها، ومحبة جميع الأجيال لها، حيث بات الأبناء يرثون حبها من آبائهم، الذين جلبوا محبتها من أجدادهم، وهكذا يستمر لوح المنقلة الخشبية منذ آلاف الأعوام إلى يومنا هذا.
تفوقٌ على الحداثة
يقول المواطن عبد الله الحسين ابن قرية خراب باجار: “إن هذه اللعبة التراثية تتحدى الألعاب الحديثة، كونها تعتمد على الذاكرة والحسابات الرياضية، والتركيز ولا تحتاج إلى الكهرباء أو الانترنت أو أجهزة مساعدة، كما أنها لا تحتاج إلى فريق كامل، كل ما هنالك هو لاعبان ولوح المنقلة، هذه البساطة من وجهة نظر الحسين هي من منحت لعبة المنقلة هذه الشعبية، وهذه الاستمرارية، ومقاومة الحداثة، التي طغت على جميع تفاصيل حياتنا اليومية دون أي استثناء، حيث يمكن أن نعدّ المنقلة وشبيهاتها من الألعاب الشعبية، هي الناجي الوحيد من قبضة الحداثة، وزمن السرعة”. يضيف الحسين: “في السابق دأبت المؤسسات الثقافية المعنية بحفظ التراث في شمال وشرق سوريا، على تعريف الجيل الجديد بالموروث المادي والحضاري للمنطقة، عبر إحياء الألعاب التراثية، ومن بينها لعبة المنقلة، وتخصيص بطولات خاصة بها”
وتشهد مدن وبلدات الرقة، والحسكة بطولات خاصة باللعبة، كطقس سنوي، فيما كانت تُقام قبل الثورة في سوريا بطولات موسمية على مستوى البلاد كلها من ساحلها إلى الجزيرة، هذا يدل على عراقة هذه اللعبة، التي تتجذر في تاريخ الشعب السوري وقد يكون لها أصل في تاريخ شعوب أخرى تناغمت سابقا مع المجتمع السوري.