No Result
View All Result
المشاهدات 16
عبدالله الرحيل_
إنّ المقدمة الطللية كانت حاجة ضرورية، وتمهيداً ماسّاً لدى جمهرة الشعراء في العصر الجاهلي، ولما أعقبه من العصور الأخرى، حتى الربع الأول من العصر العباسي، حتى تخلّى عنها كثير من الشعراء، ليبدأ عصر التجديد في المنهج التقليدي للقصيدة العربية، والشعر برمّته، وقد برع في هذا التغيير في المنهج عدد كبير من شعراء العصر العباسي، وما تلاهم في العصر الأموي، مثل: الشاعر بشار بن برد، وأبو نواس، والمتنبي، وأبو تمام، والفرزدق، والأخطل وجرير، وغيرهم من شعراء ذاك الزمان.
فقد كان الشاعر يسير على المنهج التقليدي في تلك الآونة، لما يراه من ضرورة ملحّة، يلجأ إليها، في شدّ انتباه المتلقّي لشعره، فيكون حاضر الذهن، مهيّأً لما يريد أن يقوله في أبياته الآتية، فهو لا يبدع في الإلقاء إلا بمقدمة رائعة، تطرب لها الآذان، وتستمتع بذكرها النفوس، فيذكر في أبيات معدودة آثار القوم المُعَفَّاةَ، وبقايا الديار الدّارسة، التي نسفتها صروف الدهر، وقد تكون تلك المقدمة قصّة من خيال الشاعر، أو حقيقة قابعة في خياله، فيعيد تصويرها بخيالات منمّقة جميلة، يأخذ الطابع الحزين محورها، فتبدو لنا آثاراً متحرّكة في منظر الراحلة، وأعمال المحبوبة، التي هجرت المكان منذ زمن، فيورد الصور، والتراكيب، والأخيلة، بمعان، وبصور موغلة في الحزن، والفراق، ومفعمة بالآلام، وبالأحزان، ما يثير في النفس والعين العطف، والشفقة للشاعر الوَلِهِ، والميل للاستماع، وللامتزاج لما يورده من فكر بعد ذلك، في عصف ذهنيّ مرتبط بشعور المرء لجمال الكلمات، ودقّة الوصف، وامتثال لطلب من ممدوح، ملك، أو أمير، أو من رجل موفور المال، إذا كان الشاعر، هدفه المدح، والتكسُّب في شعره.
ولما للمكان من أهمية في نفس الإنسان المحبّ العاشق، وقد خلت الدّيار من هذا المحبّ، ومن هذا العشق في المكان والزمان، يقف الشاعر الحزين الوَجِد، واصفاً، ومحدّثاً تلك الآثار الصامتة، ليولّد فيها شعورا بالحياة، يعادل موضوعياً نفسه الحزنى لفراق أحبّته، فتختلط نفسه الثكلى المكلوءة بوحدة الأثافي الثلاث في ليلها السرمدي الطويل المنهك، وبصفير الرمال الصفراء ذي اللحن الشجيّ، والمدويّ في عمق الصحراء، وقد اسودّت هذه الأثافي من آثار نار الأحبة، وكأنها اتّشحت بلون نفسه الحزينة الثكلى، فراقا لأهل الديار.
والأثافي هي أحجار ثلاث، توضع تحت القدر لطهو الطعام، وإيقاد النار تحته، لينضج الطعام، فكانت العمل الأول من الأعمال، التي يقوم بها القوم حينما ينزلون في مكان، بمقربة من جبل، أو هضبة، أو تل مرتفع، إذ هي وسيلتهم الوحيدة لإشعال النار وللطهو، فتبحث المرأة عن حجرين متوسطي الحجم، فتجعلهما مقابل بعض، وإذا لم تجد الحجر الثالث، فتصنع من حافة الجبل، أو التل منصبة ثالثة، ليستقرّ عليها القدر، فلا يميل، ولا يسقط في شكل مثلّث هندسيّ متساويّ الأضلاع، في عمل بديهيّ من أشكال الهندسة الشكليّة، وحينما يغادر القوم المكان، تبقى تلك الحجارة على حالها مسودّة، ومُعَفَّاة بغبار الأيام، وربما السنين، فكأنها تذكّر الرائي لها قصص الأحزان، والأيام الخوالي، فيهيم وجدًا وشوقًا لمرآها.
أصبحت العرب ذاكرة تلك الأثافي الثلاث، لما تَكِنُّ من أحزان، ومن مصائب حدثت، في أشعارها، وفي مستودع ذكراها، وفي أمثالها، فقد سُمع عن الناس هذا المثل القائل: “رماه الله بثالثة الأثافي” ويقال هذا المثل في تعرّض الإنسان للمصيبة الجلل، وللداهية العظيمة، والخطرة، لأن ثالثة الأثافي هي ركن الجبل، فكما ركن الجبل القاسي العظيم، والثقيل، كذلك الأمر الجلل والمصيبة العظيمة، يصيبان المرء، فإما تميته، أو تبقيه طوال حياته متأثّرا بتلك الداهية، وكذلك حين يُرمى بقسم من حجارة الجبل فإنّها تهلكه، وفي أمثلة أخرى “هُوَ أصْبَرُ عَلَى السَّوَافي مِنْ ثَالِثَةِ الأثَافِي، ومثل آخر، أنْتَ أنْزَلْتَ القِدْرَ بأَثَافِيِّهَا، يُقال هذا المثل حينما يقدّم رجل حكيم حلاً لمشكلة كبيرة يصعب حلّها.
وهنا وفي معرض حديثنا عن الأثافي الثلاث، ولما لها من أهمية في نفس الشاعر الغريب في دياره، بعد هجر القوم لها، يقف عند هذه الأثافي، يحدثها مستذكرا أياما جميلة قد ولّت، فيورد وصفها في أشعاره، كما قال الشاعر زهير بن أبي سلمى، وهو شاعر جاهليّ عاش في الزمن، الذي سبق الإسلام بقرون طويلة:

“أَثافِيَّ سُفعاً في مُعَرَّسِ مِرجَلٍ
وَنُؤياً كَجِذمِ الحَوضِ لَم يَتَثَلَّمِ“
الأثافي هي الحجارة الثلاث، والسفع، المُسودّة، والمُعَرَّس هو مكان القدر، والمِرجَل هو قدر الطهي، والنؤي هو حفرة بعمق خمسة عشر سنتمترا، يحفرها الناس حول الخيام، حتى لا تدخل مياه المطر إلى الداخل فيغرقون، ولم يتثلّم، أي لم تنكسر أطراف الحفرة، فهي كالحوض السليم، ومن هنا جِيء بالمثل العامي (المايْوَنِّوي يغرق) تمثلا لهذا البيت الشعري.
وذكر الأثافي الثلاث أيضا الشاعر الجاهلي المرقّش الأكبر، حين قال:
“هلْ تعْرِفُ الدَّارَ عَفا رَسْمُها
إلاَّ الأَثافِيَّ ومَبْنى الخِيَمْ
أمْسَتْ خَلاءً بعدَ سُكَّانِها
مُقْفِرَةً ما إِنْ بها مِنْ إِرَمْ”
وقد أجاد الوأواءَ الدمشقيُّ في ذكر الأثافيِّ:
“أثَافٍ كَنَقْطِ الثَّاءِ في طِرْسِ دِمْنَة
ونؤيٍ كدورِ النونِ منْ خطَّ كاتبِ“
وأورد الفرزدق هجاء لقوم، مثَّلهم بالسَّواد على سفح الأثافيِّ، وقد قال:
“قُبْحاً لنارِكُمُ وَالقِدْرِ إذْ نُصِبَتْ
على الأثافيِّ وَضَوْءُ الصّبْحِ قد جَشَرَا”
وإذا ما جعلنا لتلك الأثافيّ من إسقاط موضوعيٍّ، فنرى بعض الأقوام، والأشخاص ضعيفي المنزلة، والقيمة التاريخية، يُسندون أمرهم لشخص قويّ، ذي حظوة وجاهٍ عند الناس، أو لثراه، أو لمستوى عشيرته القويّة بين العشائر، فيُقوون بقوّته، وحماه، مثلما الأثفِيَّتان الآخريان يقويان بأثفيَّة الجبل العظيم في استناد القدر عليه، فلا يقع، ولا يميل، ولا يتحرك، وتأمن المرأة ارتكاز القدر، حين يستند للإثفية الثالثة، وهي سفج الجبل.
وحين يريد المرء تعلّم مهارة جماليّة، يلزمه تدريب طويل لإتقانها، وخاصّة فيما يتعلّق بالرسومات، أو تعلّم فنّ الخطّ، فإنّه يقسِّم الشكل، أو الحرف، لأثلاثٍ ثلاثة متساويةٍ، فيتعلّم كلّ ثلث على حدة، ويربط الأثلاث ببعضها، حتّى يستقيم له الشكل في حلّته الجمالية، متّخذا من أثلاث الأثافّي مثيلا وشبيها، في ارتكاز القدر لتلك الأثلاث فلا يسقط، وحينما تدور اقتصاديات الدول في تقسيم وحدة اقتصادها إلى أثلاث متساوية، تصل إلى التكامل الاقتصادي، فلا يطغى قسم على آخر، فيحدث الإفلاس، ولننظر إلى تقسيم المخلوق البشريّ، فنرى أنه مقسّم لثلاثة أقسام في الرأس، والبطن، والأطراف، قسمة ثلاثية، فيستقيم الإنسان فيها، فإذا ما حدث خلل في أي قسم يحدث الاضطراب، والوهن، وربما السقوط في الثلثين الباقيين، وحينما نرسم مثلثا داخليا في دائرة، يظهر تساوي الأضلاع في المثلّث، فيدور فيها متّزنا فلا يترنّح، ومن عميق ما نرى ونكتشف، فقد وجد الفراعنة في هذا التقسيم الثلاثيّ هندسة قيّمة، قائمة إلى وقتنا الراهن في بنائهم للأهرامات في شكلها الهرميّ الثلاثيّ، فبقيت على مرّ العصور خالدة، مُحَيِّرة لنا، حيث تحفظ موتاهم بطريقة التحنيط المتقنة، وفي معلومة علمية حين نضع الطعام تحت شكل هرميّ، فإنه لا يفسُد، ولا يتعفُن، هكذا هي فلسفة الأثافيّ الثلاث.
No Result
View All Result