عن الثقافة وأشياء أخرى في (س) و (ج)   ـ2ـ

رجائي فايد_

وكان السؤال الذي مللت كثيراّ من توجيهه (للكرد فى مصر)، لأنه ما من لقاء كردي أشارك فيه، إلا ويُوجه لي السؤال نفسه، وسوف أتطرق للإجابة عليه، ربما للمرة الأخيرة.

   عندما تشرفت ببداية معرفتي بالمواطن الكردي فى هولير (أربيل)، فوجئت بما أدهشني، تتحدث مع شخص فيقول: أنا كردي والآخر، يقول: أنا تركماني والثالث: يقول أنا إيزيديي، والرابع شبكي والخامس كاكائي….الخ، ومنهم من له لغته الخاصة ومناطق تواجده، التي لا يقطن فيها أحد من غير طائفته (على سبيل المثال قرية عينكاوه فى هولير “أربيل” التى لا يقطنها سوى المسيحيون “كلدان وآشور”)، وكل من هؤلاء يتشرنق على نفسه فى إطار طائفته، وهذا لا ينطبق على الإقليم الكردي فقط، بل ينطبق على محافظات العراق كلها، ومدنها وقراها، وكان لذلك أسباب تاريخية ذكرها الملك فيصل الأول فى رسالة شهيرة عن الشعب، الذى قدر له أن يحكمه، وفى ظل هذا الوضع، اكتشفت لأول مرة معنى أن أكون مصرياً، ولساني عربياً، ويجب أن أكون واحداً من هذه الفسيفساء، ولذلك تمسكت بعدم تعلم اللغة الكردية، رغم أن أبنائي كانوا من الأوائل دراسياً، وخصوصاً فى اللغة الكردية، وينطقونها فى أحاديثهم بلهجة أهل هولير “أربيل”، وعودة إلى الحال فى مصر، وأرجو ألا يصنفني أحد بالشوفينية، لأنني أصف ما وصلت إليه من حال في هولير “أربيل” وبتجرد تام.

كانت مصر على طوال تاريخها مستقبلة لأقوام عديده، إما جاؤوها كمحتلين مثل الهكسوس قديماً ثم العثمانيون ثم الفرنسيون والإنجليز حديثاً، ومنهم من استوطنوا فيها، وشاركوا فى نهضتها بل وحاربوا من أجلها، ومنهم الكرد، وكانت مصر هي البوتقة، التى صهرتهم جميعاً، فمن بقى في مصر من المحتلين صاروا مصريين باللسان والثقافة، فى حين أن الفرنسيين الذين احتلوا الجزائر، وتونس، جعلوا أهلها يتحدثون الفرنسية، وبعض من استوطن مصر من هؤلاء يذكر أسلافه الذين انحدر منهم دون أن يأخذ ذلك أي نصيب من انتمائه المصري، وأذكر فى هذا الصدد صديقي المخرج السينمائي الكبير علي بدر خان، فهو وإن كان من عشيرة بدرخان الكردية الشهيرة، إلا أن ذلك لم يأخذ قدراً من مصريته، فهو أحد نشطاء الحركة السياسية المصرية، كما أذكر أنني أجريت حواراً مع (رشيدة تيمور) والتي تنتمي إلى أسرة تيمور صاحبة الفضل فى النهضة الثقافية المصرية، وأذكر أنها أكدت مصريتها، وضرورة أن يتطرق الحوار إلى ذلك، وعن عائلة تيمور أذكر أن منهم العلامة محمد تيمور، الذي جمع الأمثال العامية المصرية فى مجلد، وهذه لا يمكن أن يتطرق إليها إلاّ شخص معجون بتربة مصر السمراء ونيلها، ففي معجمه دخل بشكل مدهش فى أغوار النفس المصرية، وأتذكر مثالاً آخر، كنت أطبع مجلة للكلية فى مطبعة أهلية صاحبها من أصول يونانية، وسألته (من أي بلد؟) فرد بدهشة (أنا من مصر)، وعدت أسأل (لكن أصولك من أي بلد؟)، فظهر الغضب على وجهه كما لو كنت قد أهنته (أنا فلاح مصري من ميت غمر، أجدادي كانوا من اليونان، وماتوا ولا علاقة لي بهم أنا مصري، ويجب ألا تسألني هذا السؤال)، وفى مصر أحد أقطاب الصوفية، وأتباعه من المريدين بالملايين هو سيدي أحمد البدوي الذي جاء إلى مصر من فاس بالمغرب، واستوطن مدينة طنطا، وعنه تروى حكايات مصرية حول مقاومة الفرنجة.

  الحديث عن ظاهرة البوتقة المصرية، التي صهرت كل من أتى إليها يطول، وليست شوفينية عندما أتحدث عن مصر التى قال عن أهلها رسول الإسلام (إنهم في رباط إلى يوم القيامة).